الشيخ عبد الوهاب سكر

1316 ـ 1406هـ

1898 ـ 1986م

الشيخ عبد الوهاب بن محمد سعيد بن عبد اللطيف بن محمد بن عبد الله بن سعيد الطائي الملقب (سكر)، البابي ثم الحلبي الحنفي.

عالم، عامل، فقيه، مؤرخ، داعية، وسياسي جريء مجاهد.

ولد في بلدة (الباب)، وتوفي والده ولمّا يبلغ الرابعة من عمره، فكفله عمه الحاج مصطفى، ورعاه وأحسن إليه، وقدمه على أولاده، ولما بلغ السادسة من عمره دفع به إلى المدرسة (الرشيدية)، المدرسة الرسمية الوحيدة في مدينة (الباب) يومئذ، فتلقى فيها مبادئ علوم اللغة العربية واللغة التركية والحساب وعلوم الطبيعة، بالإضافة إلى العلوم الشرعية، وكان من أشهر أساتذته في هذه المدرسة الأستاذ الشيخ محمد رضا الأيوبي، وأتم الشيخ تعليمه في هذه المدرسة، وتخرج فيها، ثم انصرف بعدها إلى شيخه الشيخ مصطفى أبو زلام، ولزم دروسه في الفقه والتفسير والحديث في مدرسته الشرعية في مدينة (الباب)، ولمس الشيخ من تلميذه النجيب فطنة وذكاء ورغبة في تحصيل العلوم الشرعية، فصحبه إلى مدينة حلب، وقدمه إلى لجنة القبول في المدرسة (الخسرويه)، وكانت مؤلفة من كبار العلماء في مدينة حلب، وكان من جملة أعضائها الشيخ أحمد الكردي الذي أعجب بذكاء الفتى وسداد إجاباته، فقال للشيخ مصطفى أبو زلام: (لا خوف على تلميذك فهو ابني منذ اليوم) (1) واختار له صحبة تماثله في الذكاء والرغبة في طلب العلم وهما الشيخ محمد النبهان، والشيخ معروف الدواليبي، وأعطاهم غرفة في المدرسة (الخسروية)، وعكف الشيخ مع رفيقيه فيها يتابعان دروسهما، ويقرءان مع بعضهم الكتب العلمية.

وفي هذه المدرسة قرأ علوم التلاوة والتجويد والقراءات على شيخه الشيخ أحمد بن حامد التيجي المدني، وأخذ علوم التفسير على العلامة الشيخ أحمد الشمّاع، وأخذ الفقه الحنفي أصوله وفروعه، وعلم النحو على العلامة الشيخ أحمد عساف الكردي، وأخذ علم الحديث الشريف على محدث عصره الشيخ محمد نجيب سراج الدين، كما درس علم الفرائض على فرائضي حلب الشيخ عبد الله المعطي، وقرأ طرفا من علوم اللغة العربية والفقه على الشيخ محمد أسعد العبجي، ولم يقتصر الشيخ على شيوخه في المدرسة (الخسروية)، بل راح يحضر حلقات الشيوخ في المساجد والمدارس الشرعية الأخرى، حيث كان يحضر حلقات شيخه الشيخ عيسى البيانوني والشيخ إبراهيم السلقيني والشيخ محمد راغب الطباخ وغيرهم _2(.

وإذا كان الشيخ قد أفاد من شيوخه هؤلاء، فلقد كان لشيخه الشيخ أحمد الكردي الأثر الأعظم في تكوينه الفكري والثقافي، وكان كثير الذكر له والثناء عليه.

وبعد أن أتم الشيخ تحصيله في المدرسة (الخسروية)، عاد إلى بلده (الباب) ليتابع تحصيله على شيخه الشيخ مصطفى أبو زلام، ثم اتفق مع زميله الشيخ محمد النبهان على السفر إلى مصر، رغبة في الاستزادة من العلوم الشرعية التي أحبها، وجاور الرجلان في الأزهر الشريف، يأخذان العلم على شيوخه أمثال الشيخ محمد بخيت المطيعي والشيخ يوسف الدجوي والشيخ عبد الجواد المنصوري والشيخ سلامة العرامي والشيخ الدرماني السوداني وغيرهم، ثمّ تخرج في الأزهر وحصل على الشهادة العالمية للغرباء، سنة: 1333هـ ـ 1925م.

وعاد إلى بلده وهو يحمل بين جوانحه علماً غزيراً، يؤمن بأن (هذا العلم قربة يتقرب به إلى الله لا باباً من أبواب الرزق يتكسب به) (3) لذا رفض كل عروض الوظائف التي عرضت عليه، وأصر على العمل في التجارة، واتخذ لنفسه دكان عطار في بلدة (الباب) بجانب جامع (البدوي) الذي كان يلقي فيه دروساً يومية.

وفي هذه المرحلة من حياته، التقى الشيخ صالح أبو زبيبة، وأخذ عنه الطريقة (الرفاعية)، ثم التقى شيخه الشيخ محمد أبي النصر خلف الحمصي، وأخذ عنه الطريقة (النقشبندية)، وينصحه شيخه الشيخ صالح بأن يترك العمل ويتفرغ للعلم والدعوة إلى الله، فيطيع أمره ويقيم في مسجده منصرفاً للعبادة وإرشاد الناس وتعليمهم، من خلال دروسه المتواصلة فيه وذاع صيته في المنطقة، وغدا مرجع العلماء وطلاب العلم والقضاة يستفتونه في كل مسألة لا يجدون لها حلاً.

وفي عام 1944م، جاءه شيخه الشيخ أحمد الكردي وطلب منه الخروج من عزلته، وبمساعدة شيخه الشيخ صالح أبو زبيبة استطاعا إقناعه بذلك، والنزول إلى مدينة حلب، ليستفيد منه طلاب العلم والناس عامة هناك، كما استطاع شيخه الشيخ أحمد الكردي أن يستصدر أمراً بتعيينه مدرساً دينياً في مدينة حلب، من المفتي العام للجمهورية السورية.

وهكذا نهض الشيخ من جديد للدعوة إلى الله في مدينة حلب، وعلى عادته في البعد عن طلب الشهرة، اختار حياً شعبياً هو حي (الكلاسة)، واتخذ من جامع (الرحيمية) فيه مكاناً لإرشاد الناس وتوعيتهم، فكانت له دروس في هذا المسجد عصر كل يوم جمعة، والتف الناس في هذا الحي حول شيخهم الذي أخلصهم النصح، واستطاع أن ينتشل الكثير منهم من جهله أو انصرافه إلى الدعوات الضالة التي كانت تنتشر آنذاك (4).

وهكذا أحبه الناس وكثر تلاميذه في هذا الحي، وسار الشيخ بهم على نهج حبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان تلاميذه هم أبناؤه صغاراً وإخوانه وأصحابه كباراً، وأعمامه شيوخاً، يعامل الجميع بحب وتواضع جم، يرفض زيادة التعظيم والقيام له، ويندد أشد التنديد بالذين يتباهون بسير الناس خلفهم وتعظيمهم، وقد سمعته كثيراً يردد هذا القول: " متى مال قلب السالك إلى حب الجاه والشهرة انقطع عن الطريق "، ثم يستشهد يقول إبراهيم ابن الأدهم: " ما صدق من أحب الشهرة " (5).

وفي عام: 1949م، طلب منه إخوانه وأهل بلدته أن يرشح نفسه ليمثلهم في عضوية المجلس التأسيسي، وفعلاً رشح الشيخ نفسه، وأصدر بياناً يشرح فيه أهدافه التي يروم تحقيقها في هذا المجلس، وسأثبت صورة هذا البيان، لما فيه من الدلالة على علم الرجل ووعيه وإدراكه لمصلحة الأمة، وقد كان للشيخ في هذا المجلس مواقف مشرفة في الدفاع عن الدين والقيم والأخلاق (6).

وما أن أنهى الشيخ مهمته في المجلس النيابي، ونزل إلى حلب، حتى أقبل مدراء المدارس يطلبون منه إلقاء دروسه في مدارسهم، ونزولاً عند رغبة شيخه أحمد الكردي أخذ يلقي دروساً في الأخلاق والحديث والفقه والسيرة والنبوية وأعلام الإسلام في المدرسة (الخسروية) - الثانوية الشرعية - وفي المدرسة (الشعبانية)، كما كانت له دروس في التربية الإسلامية في التجهيز الأولى للبنين - ثانوية المأمون- والتجهيز الاولى للبنات - ثانوية معاوية - وفي دار المعلمين ودار المعلمات، وظل الشيخ على دروسه إلى قبيل وفاته.

ورأى فيه المسؤولون في مديرية الأوقاف الحكمة والكياسة في سياسته الناس عامة وطلاب العلم خاصة، فراحوا يكلفونه بإدارة المدارس الشرعية وبخاصة في أوقات الاضطرابات والأزمات والفتن، وكان الشيخ بحكمته وحزمه، يقود المدرسة إلى شاطئ الأمان والسلامة، ثم يعود لما نذر له نفسه من الدعوة إلى الله ونشر العلم، لذا كثر طلابه وتلامذته، وقلما تجد الآن في حلب طالب علم أو عالماً أو مثقفاً إلا والشيخ أستاذه ومعلمه فطلابه في دار المعلمين والتجهيز الأولى أكثر من أن يحصيهم العدُّ، أما طلابه من طلبة العلم الشرعي فكثيرون جداً، إذ أمضى الشيخ زهاء أربعين عاماً وهو يدرّس في المدارس الشرعية، نذكر بعض طلابه الذين نبغوا أو أصبح لهم مكانة علمية أو اجتماعية أو سياسية منهم الأستاذ أحمد مهدي الخضر، والشيخ طاهر خير الله، والدكتور ناظم النسيمي، والشيخ بكري البس، والشيخ عبد الحسيب العلبي، وثابت كيالي، والشيخ محمد بدر الدين أبو صالح، والدكتور بكري الشيخ أمين، والشيخ الدكتور إبراهيم السلقيني والشيخ الدكتور نور الدين عتر، والشيخ الدكتور محمود ميرة، والدكتور أحمد حجي الكردي، والدكتور محمد رواس قلعجي، والشيخ محمد عوامة والشيخ عبد المجيد معاذ، والشيخ عبد الرحمن كرام، والشيخ أحمد جاموس والدكتور محمد صهيب الشامي مدير أوقاف حلب، والشيخ عبد الله مسعود، والشيخ محمد نبيه سالم، والشيخ محمد مجاهد شعبان، والشيخ أحمد بنان، والدكتور عبد السلام الراغب، والشيخ أحمد ناصر الحوت، وهذا العبد الفقير كاتب الأسطر وغيرهم كثير.

ومع انشغال الشيخ بالدعوة وسياسة أمور الناس، فقد ترك عدداً من المؤلفات تدل على سعة علمه ونهجه في الدعوة إلى الله، طبع بعضها ومازال بعضها مخطوطاً لدى ابنه الشيخ محمد سكر، فمن كتبه المطبوعة:

1. التذكار بموجز من سيرة النبي المختار ـ مطبوع بمطبعة الاستقامة ـ.

2. أعلام الإسلام ترجم فيه لخمسة وعشرين علماً ممن كان له المركز السامي في التوجيه وبعث الجيل إلى أفضل الحالات ومقاومة الظلم والاستبداد والصبر على المكاره. وكان أحد مقررات المرحلة الإعدادية في الثانوية الشرعية.

3. التهذيب في الفقه الحنفي جزأن (طبع في مطبعة الأصيل بحلب).

4. مذكرات السيرة النبوية (مطبوع).

أما كتبه المخطوطة ومجاميعه فكثيرة، نذكر منها:

1. تحفة المحبين في الصلاة على سيد الأولين ولآخرين r.

2. كتاب في الحديث النبوي الشريف جمع فيه ما ينوف على ستين حديثا مع شرحها والتعليق عليها.

3. الدرر الدينية التوجيهية لطلاب دار المعلمين الإبتدائيه.

4. كتاب الأخلاق، وقد جعله مجالسا، تناول في كل مجلس بابا من أبواب الشريعة، أو خلقا من أخلاقها.

5. كتاب البيانات وقد قسمه المؤلف إلى أبحاث وسمى كل بحث فيه بيانا وجاء البيان الأول في التحذير من موالاة الكفار والبيان الثاني في صفات المؤمنين وهكذا.

6. كتاب (الحديقة من كل روض زهرة) جمع فيه مؤلفه ما اختاره أثناء مطالعاته في كتب الأدب من أشعار وحكم وقصص ونكت بلاغية ونحويه (7).

7. كما ترك الشيخ الكثير من المجاميع والأوراق والتعليقات والحواشي على الكتب التي كان يطالعها بالإضافة إلى مجموعة من الأشرطة المسجلة لدروسه في جامع (الرحيمية).

عفيف، طيب القلب، عظيم النفس، عالي الهمة، متواضع محب لطلابه وإخوانه، كثير العبادة، والذكر وقراءة القرآن، عظيم الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مبتعد عن الشهرة والصيت، يكره المناصب الدنيوية ويبتعد عنها ما أمكنه.

جميل الوجه، واضح القسمات، عظيم اللحية، منور الشيبة، ربعة بين الرجال إلى الطول أقرب، يحب الاعتناء بملبسه، ويزين رأسه بعمامة بيضاء لفت بإحكام فوق (طربوشه) الأحمر.

وفاته:

بقي الشيخ على نهجه في الدعوة، وأخلاقه الحسنة إلى أن وافته المنية صباح يوم السبت، في سادس والعشرين من ذي الحجة، سنة: ست وأربعمائة وألف للهجرة، الموافق للثلاثين من آب، عام: ستة وثمانين وتسعمئة وألف للميلاد، مخلفاً مدينة حلب وحي (الكلاسة) فيها خاصة وكذا مدينة (الباب) في مأتم حقيقي، وشيعته المدينة التي أحبته بموكب جليل يليق بعلمائها، حضره عدد كبير من علماء حلب وطلبة العلم فيها وجمهر غفير من عامة الناس، وصلي عليه في الجامع الأموي الكبير، وأمّ الناس في الصلاة عليه أخوه وصديقه شيخنا الشيخ محمد أديب حسون، وألقيت في المسجد كلمات التأبين المؤثرة، وكان من جملة المتحدثين في مجالس التأبين عدد من إخوانه وطلابه وخادمهم ومقدمهم كاتب هذه السطور، ودفن في مقبرة (السفيري)، وقد كتب على أحد ألواح قبره هذين البيتين

يارب إني جئت أطلب رحمة=أنجو بها من سائر التقصير

متشفعاً بمحمد خير الورى=من خص بالتعظيم والتوقير

  • رحم الله شيخنا وأسكنه فسيح جنانه -
  • تم نشر الترجمة 2009 وقد أعيد نشرها وتنسيقها اليوم

المراجع والمصادر

1. أشرطة (كاسيت) مسجلة بصوت الشيخ (محفوظة لدى المؤلف).

2. جريدة النذير الحلبية، الأعوام 1949 إلى 1953م.

3. سجلات المدرسة الخسروية (الثانوية الشرعية) بحلب.

4. كتب الشيخ المطبوعة والمخطوطة.

5. من أعلام الشهباء، رسالة أعدها الدكتور أحمد حجي الكردي.

6. معجم المؤلفين السوريين.

7. مقابلات وأحاديث مع عدد كبير من تلاميذ الشيخ وطلابه وأصحابه أذكر منهم: والدي الحاج عمر كاتبي وعمي الحاج عبد الكريم وأخي الحاج عبد العزيز كاتبي والحاج بشير صهريج، والحاج أحمد دبّاغ، وغيرهم الكثير.

8. مذكرات المؤلف وذكرياته عن المترجم له.

9. مشافهات وأحاديث مع أنجال الشيخ: الشيخ محمد، والأستاذ عبد الله، والأستاذ أوفى.

10. مشافهات وأحاديث مع أساتذتنا منهم شيخنا الأستاذ محمد زين العابدين الجذبة، والأستاذ الشيخ محمد أديب حسون، والأستاذ الشيخ أحمد قلاش، وغيرهم.

=====

(1) مذكرات المؤلف.

(2) انظر ترجمات شيوخه في مكانها من الكتاب.

(3) عن مجموع المترجم له المخطوط (البيانات).

(4) وكان والدي الحاج عمر وعمي الحاج عبد الكريم والحاج أحمد دباغ والحاج علي دباغ من أخص إخوانه وأصحابه وأقربهم إليه، فكانوا لا يفارقونه في حضر أو سفر أو نزهة، وكان يحب أن يسير معهم بعد الدرس من جامع (الرحيمية) في حي (الكلاسة) إلى بيته في حي (البياضة)، وكثيراً ما كانوا يتنزهون في بستان الحاج أحمد دباغ، ويمضون أسعد الأوقات بصحبة الشيخ، الذي كان يتحفهم بعلمه ومواعظه ونوادره، وكثيراً ما كنت أصحبهم في هذه النزهات لأفيد من علم الشيخ وأسعد بخدمة والدي وأصحابه، رحمهم الله جميعاً (المؤلف)

(5) مذكرات المؤلف.

(6) كثيراً ما كان الشيخ يحدثنا عنها في مجالسه ودروسه ويذكرها معظم طلابه.

(7) رأيت هذه المؤلفات عند ابنه الشيخ محمد سكر وعندي صورعن بعضها.