العلامة الفقيه الفرضي الورع الشَّيخ عبد القادر بن حسن الخوجة (4)

بعض صفاته وأخلاقه:

يمتاز الشّيخ بحسن خلق ليس له نظير، وبعلم غزير متدفِّق، مع دقَّة في الفهم والإفتاء.

وكان مشهوراً بالتَّواضع الجمّ، وفي زيارة لي للشَّيخ محمَّد الخالد الأشقر المعروف بالغجري، سألته عن الشَّيخ عبد القادر فقال لي:

كان الشَّيخ مضرب المثل في تواضعه وابتعاده على الشُّهرة والظُّهور، من يراه ويجلس معه لا يشعر بأنه شيخ فقيه، كان كثير الصَّمت والهدوء، وفي يوم من الأيام طلب منه شيخ بعض العشائر العربيّة (طراد الملحم) درساً عندهم يحضره أفراد عشيرته، فما كان من الشَّيخ إلا أن قال: 

أنا لست أهلاً لذلك، ولستُ بصاحب كلام وخطب، وأشار عليه بأخذ الشَّيخ مؤيد شمسي باشا الذي كان جَفِراً خطيباً متكلماً مفوهاً، وتمّ له ما أراد (1).

وسمعت من الدُّكتور ياسر عن والده الشَّيخ عبد الفتَّاح المسدِّي: أنَّ الشَّيخ عبد القادر كان مثالاً حيَّاً للتواضع العجيب، وكان يقدّم لتلامذته أحذيتهم عند خروجهم من زيارته في البيت.

كما كان الشَّيخ مشهوراً بتحرِّي الصِّدق مهما كانت نتائجه، فمن ذلك ما حدّثني به ابنه الأستاذ طلحة (2)

أنَّ متجره كان يقسم إلى قسمين أمامي ويعرض فيه البضاعة، وخلفي كمستودع أو ما شابه ذلك، وفي يوم من أيام الاحتلال الفرنسي للبلاد، دخل عليه شاب يعلو محياه آثار خوف وفزع، وطلب من الشَّيخ أن يخبِّئه عنده في الدُّكان لأنَّ عناصر الجيش الفرنسي تلاحقه، فقال له الشَّيخ ادخل إلى آخر الدُّكان.

وما هي إلا برهة ويدخل الجنود وهمم مدجَّجون بالسِّلاح، وقالوا للشَّيخ وقد علته هيبة شديدة، نحن نبحث عن رجل هارب من العدالة فهل رأيته؟!!.

فقال لهم الشَّيخ بحدّة: نعم هو في الدَّاخل، فظنّ الجنود أنَّ الشَّيخ يستهزأ بهم، فاعتذوا منه وقالوا: نحن لم نقصد إزعاجك ثمّ مضوا.

ولما خرج الرَّجل وقال للشَّيخ عبد القادر: كيف تخبرهم أني أختبئ في الدَّاخل؟!!!. 

فقال له: يا بُني وهل تريد مني أن أكذب؟!!، أنا لم أكذب في حياتي، والذي نجّاك هو الصِّدق لا الكذب (3).

مشاركات الشَّيخ في المؤتمرات الإسلاميّة:

في بداية عمره رحل إلى تركيا واجتمع مع العلماء فيها، وكانت البلاد يومها تابعة للدِّولة العثمانيّة، وكانت له صلات طيبة -على قلّة فيها- مع علماء دمشق (4).

وكان من أعضاء الرَّابطة التي كوّنها شيخه الشَّيخ عبد الغفَّار عيون السُّود، وضمّت جلّ علماء البلدة، وكانت هذه الجمعية متنقِّلة في بيوت أعضائها من كلِّ أسبوع، ويقرؤون فيها أمّهات كتب الفقه، ويراجعون المسائل المعضلة، ويتدارسون ما يجري بمدينة حمص من أمور مهمّة تستحق الدِّراسة والنَّظر فيها، وكذلك ما يجري على المسلمين في ديارهم (5).

كما كان الشّيخ عبد القادر أحد أعضاء وفد علماء حمص الذين شاركوا في مؤتمر العلماء الأول لبلاد الشَّام بدمشق عام 1357 هـ (1938م) (6).

كما انتخب أيضاً عضواً في مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بحمص. 

وساهم بقوّة في تأسيس جمعية العلماء بحمص، وانتخب نائباً لرئيسها مفتي حمص الشَّيخ محمّد توفيق الأتاسي عام 1365 (1946م)، الذي كان رئيساً فخرياً للجمعية، والرئيس الفعلي كان الشيخ عبد القادر، أدار الجمعية بكل جدارة وتابع أمورها خطوة فخطوة، وقد جاء في مقدمة الاجتماع التَّأسيسي الأول لجمعية العلماء بحمص ما يلي:

إنَّ الجمعيّة ستقوم بتأسيس مدرسة شرعية دينية بعون الله تعالى.

وجاء في المادة: /40/ من النِّظام الدَّاخلي والقانون الأساسي لجمعية العلماء:

(تستعين الجمعية – لتحقيق غايتها في نشر العلم الشَّرعي– بتأسيس مدرسة دينية يدرَّس فيها العلوم الشَّرعية وما يتبعها من العلوم العربية ونحوها)، ومن هنا نشأت فكرة إنشاء المعهد الشَّرعي، وفي صحيفة الشَّيخ عبد القادر وزملائه تُسَجّل.

وما إن تمّ إشهارُ الجمعية حتّى بادر أعضاؤها لتنفيذ المقرَّرات، وتمّ إنشاء المدرسة الشَّرعية في مسجد الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي الله عنه.

وفي يوم تأسيسها تمّ إلقاء بعض الكلمات ابتهاجاً بهذا الإنجاز الكبير، وكان من أبرز المتكلّمين يومها الشَّيخ عبد القادر رحمه الله الذي قال فيها وهو يشجّع النَّاس على العلم الشَّرعي: لو أنَّنا استطعنا تخريج طالب علم واحد كلّ سنة فذلك ربح عظيم.

لقد كان بالفعل وجود طالب علم واحد هو ربح عظيم للمسلمين في ذلك الوقت.

وأما الآن فعدد طلاب المدرسة الشَّرعية لجمعية العلماء يفوق السِّبعمائة ذكوراً وإناثاً، وكلّهم في ميزان أعمال الشَّيخ عبد القادر والعلماء الذين كانوا معه، ولعل إخلاصهم وتفانيهم في حبّ الخير ونشر العلم هو الذي حفظ لهم هذه المدرسة والجمعية إلى الآن (7) .

مؤلفات الشَّيخ عبد القادر:

كعادة علماء حمص: الثَّقافة العلميّة عندهم كانت عالية ومنتشرة بشكل واسع قلّ نظيره، ولكنّ ثقافتهم الكتابية كانت -وما تزال- قليلة، فكلُّ هذا العلم الذي حواه الشَّيخ لم يترك لنا منه إلا أثاراً بسيطة لا غير، منها:

رسالة في أحكام بعض البيوع، طبعتها جمعية العلماء، وقدَّم لها الشَّيخ محمد الحامد، وذيَّلها العلّامة عبد العزيز عيون السُّود برسالة في تحرير المقادير الشَّرعية على المذاهب الأربعة. 

ورسالةٌ أخرى له في حكم الصَّرف.

وله كتابات في مجلّة الحقائق الدِّمشقية، ومنها مقالة مهمّة في حكم التَّمثيل (8).

هذا بالإضافة طبعاً لمعظم علماء حمص الذي تخرجوا به فهم آثاره العلمية الخالدة.

========

(1) من اللقاء المسجّل معه بتاريخ... في بيته المتواضع جداً، المكوّن من غرفة واحدة لا تتسع لخمسة ضيوف أو ستة!!!.

(2) من لقائي المسجل معه بتاريخ 6/5/2010م. في جمعية العلماء بحمص.

(3) قال أبو زرعة الرازي: قلت لأحمد بن حنبل: كيف تخلَّصتَ من سيف المعتصم وسَوْطِ الواثق؟ فقال: لو وُضِعَ الصِّدقُ على جُرْحٍ لبَرِئ.

وقال أبو بكر المروذي: سمعت ابن حنبل –وسُئِل- بمَ بلغ القوم حتّى مُدِحوا؟ قال: بالصدق. انظر رسالة المسترشدين ص121.

(4) انظر الحادثة الطريفة التي جرت معه ومع تلميذه الشَّيخ عبد العزيز عيون السُّود في العدد الذي خصَّصته لترجمة الشَّيخ عبد العزيز.

(5) من جملة أعضاء هذه الرَّابطة: الشَّيخ محمّد نجيب أخو الشَّيخ عبد الغفَّار عيون السُّود، ومحمّد علي عيون السُّود، والشَّيخ عبد القادر الخوجة، والشَّيخ محمّد سعيد آغا المكناسي، والشَّيخ محمود السِّباعي، والشَّيخ محمّد فائق أتماز السِّباعي، وأخوه الشَّيخ عادل أتماز السِّباعي، والشَّيخ عبد الكريم السِّباعي، والشَّيخ عبد الغني عيون السُّود، وانظم إليهم مؤخراً الشَّيخ الإمام محمّد طاهر الرَّئيس، والشَّيخ سعيد الحافظ، والحاج عبد الغني السَّلقيني، وغيرهم من كبار علماء حمص. انظر كتاتيب الزهراوي ص128.

(6) عُقِد عام 1938م في دمشق وضمّ مائة وخمسة من العلماء من مختلف المناطق التي يتألّف منها إقليم بلاد الشَّام، وكانت حمص يومها ممثَّلةً بخُمْس المؤتمرين، فقد حضر منهم عشرين شخصيّة علميّة، وترأسه واحد منهم وهو الشَّيخ طاهر الأتاسي، وأصدروا بيان مؤتمرهم مطبوعاً بمطبعة التَّرقي عام 1938م.

من علماء حمص الذين حضوا هذا المؤتمر: (مفتي حمص طاهر أفندي الأتاسي رئيس المؤتمر) والباقي على حروف المعجم كالتَّالي:

(أبو السُّعود عبد السَّلام بسمار)(بدوي السِّباعي)(توفيق الأتاسي)(حسن الرِّفاعي)(حسن شمس الدِّين)(رضا الجمالي)(صلاح الدِّين السِّباعي)(طاهر الرَّئيس)(طيّب الأتاسي)(عاطف الأتاسي)(عبد الجليل مراد)(عبد العزيز عيون السُّود)(عبد الفتّاح المسدِّي)(عبد القادر الخوجة)(عبد الله الزّهراوي)(مؤيَّد شمسي باشا)(محمّد علي عيون السُّود)(محمّد نديم الرِّفاعي)(محمّد نور عثمان)(مصطفى حسني السِّباعي) رحمهم الله جميعاً. 

(7) انظر في ذلك كتاب أخي الأستاذ عبد اللطيف بريجاوي (المعهد العلمي الشَّرعي بحمص بين الأمس واليوم).

(8) ذكر الرسالتين الأخيرتين المؤرخ الزهراوي في كتابه الكتاتيب والمدارس ص100