العلامة الفقيه الفرضي الورع  الشَّيخ عبد القادر بن حسن الخوجة (3)

إمام حمص الكبير وعالمها الشَّهير 

(1300- 1372هـ، 1885-1953م)

دروس الشَّيخ العامة والخاصَّة:

ابتدأ الشَّيخ في إلقاء دروسه على النّاس في مسجد البازرباشي، فكان له فيه درس دائم بعد صلاة الفجر من كلِّ يوم، وكان يقرأ في من صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرأ شرح القسطلاني على صحيح البخاري في الدَّرس مرَّات متعدِّدة، كما أقرأ شرح صحيح مسلم، ولم يكن يخلو هذا الدَّرس من فائدة نحوية أو بلاغية أو صرفية أو روحيّة، وإذا ما كان الحديث في الأحكام استرسل الشّيخ في آراء الفقهاء واستدلالاتهم وأدلتهم الأخرى والمعتمد عندهم في هذه المسألة، ويستمر الدّرس حتّى يأذن الله لشمس ذلك اليوم أن تشرق عليهم لتشهد لهم بالخير والهمّة والصّلاح.

وبالإضافة لدرس الحديث الممتع، كان للشَّيخ درس آخر في هذا المسجد في الفقه الحنفي، في حاشية ابن عابدين المشهورة، وكان هذا الدّرس بين المغرب والعشاء، في أحد غرف المسجد، ولمّا كثر تلامذة الشَّيخ ضاق عليهم المكان وازداد طلبة العلم بالتَّوافد على هذا الدَّرس الذي قيل عنه: إن الشَّيخ عبد القادر كان يحفظ حاشية ابن عابدين تقريباً عن ظهر قلب.

بعدها انتقل الشَّيخ بهذه الحلقة إلى المسجد النُّوري الكبير، وأقام فيه بقية عمره تعليماً وإرشاداً وتفقيهاً.

كان له ولزملائه من علماء البلدة ووجهائها سهرةٌ أسبوعيّة ليلة الثُّلاثاء يُقرأ فيه درسٌ في الأخلاق، ودرس في الحديث النَّبوي الشَّريف. 

وقد كتب الشّيخ عبد الفتّاح المسدِّي في مذكِّراته يتحدّث عن إحدى هذه الجلسات العلمية مع الشَّيخ عبد القادر رحمه الله بأن الحاضرين كانوا: الحاج عبد الغني السَّلقيني، والشَّيخ نصوح شمسي باشا، والشَّيخ بدر الدِّين الأتاسي، والحاج زهري الأتاسي، والحاج محمّد يحيى الدَّالاتي، والشَّيخ فائق أتماز السِّباعي، وكان يحضر أحياناً الشَّيخ محمّد علي عيون السُّود.

وكانت هذه اللقاءات تزيد التَّآلف بين فئات المجتمع، وتجعل العلماء يعيشون واقع النَّاس ومشاكلهم، وتربط النَّاس بعلمائهم، هذا بالإضافة إلى أنَّها جلسة علمٍ مباركة تحفُّها الملائكة، وتغشاها الرَّحمة، وتعْمُرها السَّكينة.

وهذا الدَّرس هو غير اللقاء المنعقد في بيت مفتي حمص الشَّيخ بدر الدِّين الأتاسي يوم الثُّلاثاء بعد العشاء مباشرة (1).

كما كان للشَّيخ عبد القادر درسٌ خاصٌ لطلاب كلية الحقوق، يدّرسهم فيه كتاب مجلّة الأحكام العدلية التي كانت هي القانون المدني في جميع البلاد الإسلامية، بما فيها بلاد الشّام والتي أُلغيت في عهد الشِّيشكلي.

كما كان الشَّيخ يحضر في كلّ أسبوع ضمن اللقاء الذي كان شيخه عبد الغفَّار يجريه لرابطته، والتي كانت متنقِّلة في بيوت أعضائها من كلِّ أسبوع، ويقرؤون فيها أمّهات كتب الفقه، ويراجعون المسائل المعضلة، ويتدارسون مما يجري بمدينة حمص من أمور مهمّة تستحق الدِّراسة والنَّظر فيها، وكذلك ما يجري على المسلمين في ديارهم (2).

ودرسه الأخير كان لأولاده في البيت، فما كان الشّيخ رحمه الله يوفر ساعة من يومه من غير إفادة أو تعليم، ولمّا كان يرجع إلى بيته يجمع أولاده ويقرأ عليهم متن السِّراجية في الفرائض ودرساً في اللغة العربية من كتاب قواعد اللغة العربية حتّى يستقيم لسانهم، فقد قيل:

النّحو يصلح من لسان الألكن=والمـرء نكرمـه إذا لم يـلـحـن

وإذا أردت من العلـوم أجـلّها=فأجـلُّها نفـعاً مـقـيم الألسن.

الحج في حياة الشَّيخ عبد القادر:

ذهب هذا الفقيه الجليل إلى الحجِّ مرَّتين: الأُولى كان في سنة 1920م، وكان حجُّه يومها بعيداً كلَّ البُعد عن المظاهر والسُّمعة، وبعيداً عن الرَّفاهية بكلِّ ما تعنيه هذه الكلمة من معان.

وحجّ أيضاً سنة 1944م قارناً وهو الأفضل عن السَّادة الأحناف، وكان في رحلة الحج هذه نصف شيوخ حمص تقريباً، كالشَّيخ محمّد علي عيون السُّود وابنه الشَّيخ عبد العزيز، والشَّيخ أبو النَّصر خلف ، والشَّيخ محمّد الخالد الأشقر المعروف بالغجري، والشَّيخ طاهر الرَّئيس، والشَّيخ بدر الدِّين الأتاسي، والشَّيخ مُهرات إمام مسجد دحية الكلبي (3)، والشَّيخ خالد الوفائي،..... وغيرهم.

رحلوا إلى العقبة في القطار، ثم رحلوا إلى جدَّة بحراً، وكان لهم تكريم واحترام في كل مكان يذهبون إليه، أو ينزلون فيه. 

إمامة الشَّيخ لمسجد النُّوري الكبير وورعه:

كان الشَّيخ رحمه الله تعالى مواظباً على الصَّلوات في المسجد النُّوري بشكل دائم، مؤتمّاً بالعلّامة الشَّيخ سعيد بن الشّيخ زكريا الملُّوحي (4)، ولمّا توفي الشَّيخ سعيد تولّى الشّيخ عبد القادر الإمامة مكانه مجّاناً وحسبةً لمدّة تسعة أشهر أو يزيد، ثمّ اتفق رأي كبار علماء حمص على أن يتولّى إمامة الجامع الكبير، فقبل بعد تمنُّع، ووُجّهت إليه إمامة السَّادة الأحناف في المسجد، وحدّد له مرتّب شهري على ذلك.

كما أنه قُلّد إدارة الثانوية الشرعية كما ذكرتُ، وحدّدت له الأوقاف راتباً على ذلك، ولكنّ الشَّيخ لم يكن ينفق من هذه المرتَّبات شيئاً على نفسه ولا على أولاده، وإنَّما كان يوزّع جلّه على الفقراء والمحتاجين، وخصَّص الباقي لترميم وصيانة البيت لا غير.

وأمّا راتبه من جمعية العلماء، التي كانت تصرف لأعضائها مرتباً شهرياً، فقد تركه الشَّيخ حتّى تجمّع لدى أمين الصُّندوق لعدَّة سنوات، فأخذه ليسلّمه للشَّيخ عبد القادر، فرفض أخذه بشدّة، وتركه لصندوق الجمعية تورُّعاً منه رحمه الله تعالى (5).

ومما يذكر في ورعه قصَّته مع المرأة والتي جرت معه في المتجر وتجدها في الفصل القادم، وما حدّثني به بعض كبار السنّ أنَّ من أراد الحجَّ كان يذهب إلى الشَّيخ عبد القادر ويقول له: استبدل لي هذه الأموال كألفٍ أو أكثر، فيستبدلها الشَّيخ لهم من جرَّار ماله، فيقولون له: نريد الذَّهاب للحجّ ونحبُّ أن يكون حجُّنا تامَّاً صحيحاً بمالٍ حلال صرف لا شبهة فيه، ولا نشكُّ بسلامة أموالك من الشُّبهات (6).

كما درّس في مدرسة الاتحاد الوطني، كما ذكر المؤرِّخ الزّهراوي في كتابه القيَّم (الكتاتيب والمدارس بحمص) (7).

عمل الشَّيخ وحياته:

وأما رزقه وعمله فكان من محلِّ العِطارة الكائن في سوق الحِسبة، والتي ورثها هو وأخوه صبري من والدهم الشَّيخ حسن، وكان فيها الكفاية له ولأولاده في معاشهم وطعامهم وشرابهم. ولكن هذا المتجر لم يكن للبيع فقط!!:

كان الشّيخ يبيع بالإضافة إلى العطارة شيئاً من البقالة والسّكر والشّاي، وأشياء بسيطة أخرى، وخصَّص جانباً من متجره لبيع بعض الكتب الإسلامية وخصوصاً كتاب شيخه عبد الغفَّار: الرِّياض النَّضرة.

كما كان هذا المتَّجر أيضاً مكاناً يُقصد لحلِّ المشكلات بين النَّاس والتُّجار، ومكاناً للفتوى وإصلاح ذات البين، ومكاناً لمدارسة بعض المسائل الفقيه المستعصية على طلبة العلم.

بل كان هذا المتجر الصَّغير جامعة تحوي علوماً متعدِّدة تحلُّ وترحل مع هذا الرَّجل النَّابغة، ففي ترجمة تلميذه الشَّيخ أحمد الكعكة إشارةٌ إلى أنَّ التَّلامذة كانوا يقرؤون عليه الكتب الكبيرة والمطوّلة وهو جالس في دكانه في السُّوق وهم أمام بابه، وقرأ عليه الشّيخ أحمد الكعكة في الدّكان كتاب الشفا في التّعريف بحقوق المصطفى للإمام السّيوطي، كما قرأ عليه مختصر إحياء علوم الدّين في نفس المكان (8).

وممَّا يُذكر من الحوادث التي جرت في هذا المتجر وكانت حول الأحكام الشَّرعية التي تحدث مع التّجار في البيع والشِّراء، قصّة الحاج الحسامي، والسَّحلول حسب ما ذكرهما لي ابنه الأستاذ طلحة الخوجة، وقصة المرأة التي أرادت امتحان الشّيخ ولكنها رسبت في الامتحان:

أما الحاج أبو فيصل الحسامي: فقد كان بائعاً للأكياس (البالة- والشوالات- والإنِّب)، وقد جاءه شخص لشراء حاجته من عنده، فتكلما عن السِّعر وعدد الأكياس، ثمَّ استأذن البائع ليجري اتصالاً هاتفياً ببعض تجّار وشركات دمشق، والذين أخبروه بأن السُّوق ارتفع كثيراً، وأنَّ الثَّمن أصبح بالأضعاف، وأن ما سيأخذه من زبائنه في المحلّ من ثمن مائتي كيس ربما لن يستطيع شراء عشرين كيساً جديداً بهم.

فما كان من البائع رحمه الله إلا أن اعتذر للمشترين عن بيع البضاعة وتعذّر بأشياء مختلفة، ولكنَّهم شارعوه إلى الشَّيخ عبد القادر، وذهبوا إلى متجره، وبعد أن سمع من الطَّرفين قال بهدوئه المعتاد:

قم يا أبا فيصل وسلّم البضاعة لهم، فما كان من الرّجل إلا أن عاد إلى الحقِّ، وقدّم رضا الله تعالى وجنته على دريهمات معدودة زائلة.

وأما الحادثة الثَّانية: فقد جرت مع الحاج أديب سحلول رحمه الله، الذي اشترى خشب سقف بيت أراد أصحابه هدمه، ونقل هذه الأخشاب والأعمدة إلى مستودعه فرحاً بعد أن اشترى العامود الواحد بـ: (4ليرات).

وبعد مدّة من الزَّمن جاءه أهل قرية من النَّصارى يريدون شراء خشب لسقف بيتٍ يعمرونه، فأراهم الأعمدة المستخدمة المدهونة التي اشتراها، واتفقوا على الشِّراء كلُّ عامود بـ: (6ليرات)، وذهبوا لإحضار سيارة لنقل الخشب.

وطلب الحاج أديب من عمّاله إخراج الأعمدة إلى خارج المحلّ، وأثناء ذلك تخدش دهانات إحدى الأعمدة وإذا به خشب من نوع قطراني، وهو خشب غالٍ وثمين، وسعر العامود الواحد المستعمل يفوق الـ (16ليرة).

عرف البائع أنَّه خاسر في هذه الصَّفقة لا محالة، وأنَّه إذا باعها بهذا السِّعر الزَّهيد يكون قد تورّط بغبنٍ فاحش يفوّت عليه مالاً وربحاً عظيماً.

وعندما عاد المشترين اعتذر منهم، وقال لهم: لم أكن أدري أنه خشب من هذا النَّوع، وهذا سعره (16ليرة)، فقالوا له: ولكنّا اشترينا منك.

فأخذهم إلى رجل منهم يعرفونه، وفاجئه بالسُّؤال: هل يصحّ أن أقع في الضَّرر، أو أن يضرَّني هؤلاء، وهم لا يتضرَّرون؟!!، ثمَّ حكى له القصَّة، فقال ذلك الرَّجل قبل أن يسمع منهم:

لا تضروا الحاج أديب وأعطوه الذي يريد، ولمّا خرج النَّصارى من عند ذلك الرَّجل قالوا له:

أنت أخذتنا إلى هذا الرَّجل وإن كان منّا، لكنّا لا نرضى إلا الشَّيخ عبد القادر الخوجة، فذهبوا إليه، وتكلّم الطَّرفان بالقضية، فقال له الشَّيخ عبد القادر رحمه الله تعالى:

اتق الله يا أخي لقد رأوا الخشب وعاينوه واتفقتم على الثَّمن، اذهب يا حاج أديب وأعطهم خشبهم وسلّمهم إيّاه.

فما كان من التَّاجر إلا أن بادر إلى تنفيذ ما طلبه الشَّيخ دون اعتراض.

وكان للنّساء نصيب من هذا المتجر: فقد كانوا يأتون إلى الشَّيخ ليسألوه على مشكلاتهم الشَّرعية وغيرها، وكان الشَّيخ يتورَّع عن الجلوس معهنّ في المتجر، فعندما تأتيه سائلة عن حكم يخرج إليها إلى خارج المحلّ، ويقف أمام النَّاس ويجيبها على أسئلتها، فإذا انتهت وذهبت عاد فدخل متجره، ويفعل ذلك مرَّات في كلِّ يومٍ، ومع كلِّ سائلة.

وفي أيام الاحتلال الفرنسي البغيض لهذه البلاد الطَّاهرة، بدأت ظاهرة التّخلي عن الحشمة والسَّتر عند بعض النِّساء، فجاءته إحداهنّ تطلب شراء حاجة لها من المتجر، ولكنّ الشّيخ أبى أن يبيعها، قالت له: هذا هو طلبي أمامك وهو موجود عندك، فرفض وقال: لن أبيعك هذه الأشياء.

فذهبت هذه المرأة وتجلببت وسترت وجهها، ثمَّ عادت فطلبت منه البضاعة، فأعطاها وناولته الثَّمن ووضعه في جرار المال، ولما أرادت الانصراف كشفت عن وجهها، وقال له بتحدٍ: اشتريت يا شيخ عبد القادر أم لم أشترِ؟!!، فما كان من الشّيخ إلا أن حمل جرار النُّقود والمال بكلّ ما فيه الجديد والقديم وأفرغه على الرَّصيف خارج المتجر، ثمَّ عاد إلى مكان جلوسه، فدهشت المرأة وكادت أن تسقط على الأرض ثمَّ انصرفت يائسة بائسة (9).

======

(1) انظر تفاصيل اللقاء في بيت المفتي في العدد الثاني من سلسلة وفاء لهم والذي خُصِّص للحديث عن الشّيخ عبد الفتَّاح المسدِّي رحمه الله تعالى. 

(2) انظر كتاتيب الزِّهراوي ص128.

(3) وكانت هيئته مميّزة جدّاً حتّى يُظنَّ أنه شيخ العلماء كلّهم، ولم يكن بصاحب علمٍ وتدقيق، وإنَّما كان إماماً، وكان صاحب دعابة، فكان في هذه الرِّحلة كلّما جاءه مستفتٍ ليستفتيه في أمرٍ، سأله ما هو مذهبك؟ فإن قال له: حنفي قال: اذهب إلى تلميذنا عبد القادر، وإن كان شافعياً يقول له: اذهب إلى تلميذنا طاهر، وهكذا... ويضحك الشُّيوخ بعدها. 

(4) العلامة سعيد ين زكريا الملوحي (1796-1871م): من كبار علماء حمص، ولد بحمص ونشأ بها ودرس على أعلامها ومنهم والده العلامة الكبير زكريا الملوحي خطيب المسجد النُّوري الكبير، والعلامة محمد أبي الفتح الأتاسي مفتي حمص، وأخوه العلامة محمد أمين الأتاسي. وتولى الخطابة في المسجد النوري الكبير بعد والده فاشتهر أمره، وانتخب عضوا في مجلس إدارة الجمعية الخيرية الإسلامية بحمص. (انظر أعلام الأدب والفن-الجندي-الجزء الثاني، ص 94، 

(5) من كلام الشيخ وصفي متع الله بحياته انظر العرف الوردي ص51.

(6) سماعاً من الحاج وجيه السباعي في لقاء في منزله بتاريخ 13/6/2010م.

(7) انظر ص100 من الكتاب المذكور.

(8) سماعاً من الحاج وجيه السّباعي أثناء زيارتي لبيته في 25/5/2010م.

(9) سماعاً من جدِّ زوجتي الحاج محمّد فاضل بن الشيخ سليمان الحايك في بيته، مساءً بتاريخ 11/6/2010م، بحضور أخي الأستاذ رامي أبو سمرة، كما سمعتها من الحاج وجيه السباعي في بيته بتاريخ 13/6/2010م.