الأستاذ العلامة محمَّد نافع شامي وصدعُه بالحقِّ

الحمد للهِ الحميدِ بذاته الذي يستحقُّ الحمد قبل أن يحمده الخلق، وسلام على عباده الذين اصطفى وبعد:

قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله:" إذا سكت العالم تقيَّة، والجاهل يجهل فمن الذي يقول الحق؟! ".

والشيخ نافع شامي رحمه الله، قد قرأ الكثير للإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة، وتأثَّر بمدرسته، وأيقن أنَّ المنتسبين لهذا الدين من طلبة العلم، ليسوا عصاً في يد أحدٍ من أهل النفاق، أو أصحاب المذاهب الهدَّامة، أو بوقاً لطاغية، أو فرداً من سحرة فرعون، ولكنهم نذروا أن يكونوا جنداً لله وحده.

ولا يخفى على أدنى متأمِّل أن للعلماء دورا في إحقاق الحقِّ في المجتمع، في حال كان أصحابه مستيقظين، وإلا فسيخسر الحقُّ قضاياه في حال رقد أهله في سباتٍ عميق، وللتدليل على فكرتي هذه، فسأسوق المثل التالي: خرجت مظاهرة نسوية قوامها خمسمائة امرأة في الجزائر أوائل تسعينيات القرن الماضي، يطالبن بإلغاء قانون الأحوال الشخصية حسب الشريعة الإسلامية! فدعا الدكتور يوسف القرضاوي، إلى مسيرة نسائية في معظمها، مليونية في تعدادها، يطالبن بالإبقاء على ذات القانون، وعلى رأس هذه المسيرة الشيخ أحمد كنون، فآتت أكلها، فالتخاذل في طلب الحقِّ مضرٌّ بالأمَّة.

ومن خلال ما لمسناه عن كثب، وعلمناه من سجايا الشيخ نافع رحمه الله، قوة شخصيته وصدعه بالحق دون أن يخشى في الله لومة لائم، قال بعض أولاده الأفاضل الذين ترجموا له:" كانت إدلب تُلِحّ في مُطالبة الحكومة بجعلها محافظة ، وفي عهدِ الوحدة أُجيب طلبها وتقرر اعتبارها محافظة ، فغمرتها فرحةٌ عظيمةٌ ، وقد أعربتْ عن هذه الفرحة بخروج جماهير عظيمة ، لاستقبال أول محافظٍ توجّه إليها ، وهو السيد عبد الغني جَمَّال ، ويظهرُ أنَّ هذا الاستقبال الرائع ، الذي لم يسبق له نظير إلا للرئيس جمال عبد الناصر حين مرَّ بإدلـب ، أدخَلَ على نفسه العُجْبَ والغرور ، حيث طَمأنت له إدلب كبرياءه .

أما والدي فقد سلّمَ عليه في اليوم الثاني من قدومه ، وكان العقيد " الفتيّح " من دير الزور ، قد قَدِم إدلب قبله ببضعة أيام لاستلام منصبه ، وهو قيادة شرطة المحافظة .

فلما دخل والدي للسّلام على المحافظ ، كان العقيد " الفتيح " موجوداً في المجلس ، ومعه رجلٌ كان قائمقاماً عندنا ويَعرف والدي مَعرفة طيبة ، وهو " أمين باشا عليوي " فاستقبل هذا الرجل والدي بحـرارة بالغة ، والتزمهُ معانقاً بشكل لفَـت نظر العقيد والمحافظ ، ثم قدَّمـهُ إليهما بعباراتٍ أطـراه بها جداً .

وبعد انتهاء فترة استقبال المُسَلِّمين عليه حكى أمين باشا العليوي الذي كان برفقة العقيد الفتيّح للمحافظ درجة الصِلة والمحبّة بينه وبين والدي ، فاغتنمها والدي فرصة مناسبة ليروي لهما طرفاً من سيرته معه ، فقال موجهاً كلامه للعقيد ، حيث رأى أنَّ المحافظ قد تشاغل بأوراقٍ كانت على مكتبه :

أظنك يا سيادة العقيد – والكلام الآن للوالد - تستغربُ مِنّا هذه الصِلة ، مع تباين المَسلك فهو رجل يتعاطى الخمرة وفي غالب الظنّ أنّه لا يُصلي ، وأنا معروفٌ بتعصّبي الديني ، فمن أين جاءت هذه المحبّة والصِلة ، قال نعم ....!! قلت إليك البيان : رأيتُ فيه الرجلَ المنتصرَ للحقِّ والفضيلة، وهذا كل ما يَهمّني أن يكونَ عليه الحاكم ، بصرف النظر عن أحواله الشخصية .

فقد كان أمين باشا عندنا قائمقاماً في عهد الشيشكلي، الذي جعل فيه للقائمقام غير العسكري دورة عسكرية ، ليكون الحكم عسكرياً، وذات يوم وكان يوم جمعة زارني بعد العصر رجل نصراني موظف في الكتيبة ، حريصٌ على شباب هذه الأمة و أخلاقها ، علمت منه أن ( جوقةَ تياترو ) ترقص في السينما كل ليلة ويرتادها الشباب وأكثرهم من طلاب المدارس والمراهقين ودار السينما تغص بروّادها من هؤلاء ، حتى أنّ قِسماً كبيراً منهم يبقى واقفاً على رجليه لضيق الكان الذي غصَّ بهم وامتلاء المقاعد ، والراقصات شبه عاريات من الثياب بل يلبسن ثياباً من حبال كالتي توضع على أبواب حوانيت الحلاقين ، وتنجابُ هذه الحبال حال الرقص عن مواطن الفتنة من أجسادهن ، وأخبرني أنه مضى على هذه الجوقة ، خمسة عشر يوماً ، وكان يوم السبت عطلة فخرجت صبح الأحد في السابع عشر من الشهر لأقابل قائمقام البلد فوجدت عنده قائد الدرك ولا أذكر اسمه ، ولكنه يُكنى بالزهراوي فتوجهت إلى القائمقام معزياً بعبارة ( عظم الله أجركم ) فرَدَّ علي تعزيتي مستغرباً وتساءل : بأي شيء أُعزيه فقلتُ بوفاة الأمَّة ، فقال : لم أفهم قصدك بعدْ ، فقلت يا أمين باشا : إن الوزارات مؤسسات تقوم على مصالح الرعيَّة ، ولكل وزارة ميزانية تُصرف في سبيل تحقيق غاياتها ، فوزارة التربيـة والتعليم ، التي تضـمُّ جيشاً من المعلمين ، الذين يسهرون على تربية النشء وتعليمه وتقويم أخلاقه ، ويصرفون الأموال الطائلة لأجل الوصول إلى هذه الغاية النبيلة ، نُـقَـوِّض عملهم ، ونَـدكَّ بُنيانهم ، فنفتح مرقصاً لنهدم به كل ما بناه الأساتذة والمخلصون ، أليسَ في هذا موت الأمة .

قال : كذلك لم أفهم أين هو المرقص ، لقد مرت عليَّ رخصة تمثيلٍ فسمحتُ بها ، قلت إنها جوقة رقصٍ ترقصُ كل ليلة من سبعة عشر يوماً ولم تعلم بحالها فالبلية أعظم ، قال اليوم تغلق ، هنا تدخّل قائد الدرك فقال لي بعنجهية وكبرياء ، من قال لك يا أستاذ ، فأجبته بجُرأة وما هو غرضك في ناقل الخبر، المهمُّ معرفة الواقع ، فإن كان ما ذكرته غير صحيح فعليّ إثباته ، وإن كان صحيحاً فلا يهمّك أن تعرف المُخبر ، فأنت رجل مسئول عن الأمن ولك عيونٌ تأتيك بالحوادث الخطرة المعكرة للأمن ، وأنا وكلّ مواطن مسؤول عن الدين والأخلاق ولنا عيون تأتينا بالأخبار الخطيرة على الدين والأخلاق ، فإذا أعلمتني بعيونك أُعلمك بعيوني ، والتعاون في مجالات المخاطر واجب الواعين في الأمة .

فأجاب مع التراجع عن كبريائه قائلاً : صحيحٌ ما ذكرت ولكنْ لم يبق في رخصتهم إلا أيامٌ قليلة ، فقلت له هذا منطق عجيب غريب ، يمكن أن يُسمى بالمنطق المفلوج ، فثار قائلاً كيف ذلك ؟ قلت يستطيع العاقلُ أن يفهم إذا قيل له بقى في عمر الخير دقيقة واحدة بأنه يجب أن تُستوفى ، ولكن إذا قيل له بقي في عمر الشر قليل أو كثير ، وهو قادر على اجتثاثه ، لا يستطيع أن يفهم انتظاره لينتهي أجله المحدد له ، ألسنا قادرين على إلغاء رخصة هذا الشر ، فكرر أمين باشا قوله طيّب اليوم تُلغى .

ثم أراد تحوير الحديث فقال: يظهر لي أنْ لا تعارف بينك وبين سيادة القائد " قائد الدرك " ، قلت: نعم ، قال: ولِمَ ؟ قلتُ : إنَّ قوى الأمنِ لا تحب التعرّف على أمثالي ، لاحتمال أن يُؤمروا باعتقالهم ، فعدم التعرف عليهم يُيسر لهم تنفيذ الأمر ، ويجوز أن يتعرفوا عليهم ، إذا تصاغروا لهم وذلوا بين أيديهم واعتزوا بهم ، وأنا لا أعتز بغير ربي لأنَّ من اعتزَّ بغير الله ذل ، وإذا ما تعرفت على حاكم وعاشرته ، فلكيْ أُعينـه على الإصلاح لا لأرجو قضاءَ مصالحي الخاصة عنده. قال : بارك الله فيك يا أستاذ ، وعدتُ مرةً ثانيةً لأقولَ إلى أمين باشا : لي رجاء ثانٍ عندك يا أمين باشا قال: تفضل ، قلت: أنت رجل إداري ، والرجل الإداري يجنح إلى المدارة ويميل نحو الأكثرين ، فيجوز أن يلقاك الكثيرون فيقولون لك: لا تستمع لهذا الشيخ الذي لم يراجعك غيره بهذا الشأن ، وهل إدلب إلا كغيرها من مدن سوريا ففي دمشق وحلب وحمص وحماه واللاذقية ودير الزور وغيرها ، توجد هذه الأجواق ولا يعارضها أحد ، وليس حضورها إجبارياً على أحد ، فتميل لإرضاء الأكثرين بحكم وظيفتك ، لذلك أخصّ رجائي بأن تستشعر في أعماق نفسك بأن الذي راجعك بهذا الشأن هو أكبر من الشيخ نافع ، وأكبرُ منك وأكبر من محافظ حلب ومن الوزراء ومن رئيس الجمهورية ، ... اسمه الحــــقّ فإذا استشعرت في نفسك هذا لا ترد على أولئك المعترضين ، فقال طيّب طيّب على الرأس والعيـنْ .

قلت: رجاءٌ ثالثٌ وكفى ، فابتسم وقال: نعم تفضّل ، قلت: أرجو أن تتأكد أنَّ صِفة هذه البلدة محافِظة ، فأكثر أهلها مُتدينون ، لذلك أرجو أن تُغلق دونها أبواب هذه المشاكل ، وهي لك شاكرة ، أدامك الله نصراً للحقّ وللفضيلة ، فقال: لك ما تريد ، فودعته شاكراً داعياً له بالخير " .

وهذا ليس غريباً بالنسبة للشيخ نافع رحمه الله، فرجل العلم الأول والداعية الأول كان لا يقبل أن يجاملَ أحداً أو أن يقبلها من أحد على حساب المنهج.

وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين.