العلامة المحقق الفقيه محمد بن أبي بكر التطواني 

شخصية موقرة من المغرب وعادة غريبة 

 

من كرم الله على المرء أن يجمعه بعباد له يسمو ويتشرف بهم وبمعرفتهم ويستفيد من مجالستهم .

وقد أكرمني الله بزيارة أحد علماء المغرب الأفاضل أواخر عام 1974 حين زرته رفقة أخ كريم عزيز من حلب وهو الدكتور صلاح الدين الإدلبي حفظه الله لما كان طالب علم في دار الحديث الحسنية بالرباط . وسوف أكتب لاحقا عن مكانة وتأثير هذا الأخ الحلبي الكريم علي ومعالم بصماته على شخصيتي في مقال منفصل إن شاء الله .

أما عن الفقية العلامة الذي سيكون موضوع المقال فهو سيدي محمد بن أبي بكر التطواني السلاوي رحمه الله وأكرم مثواه .

تشرفت بزيارته ببيته لأول مرة صحبة أخي الفاضل الدكتور صلاح الدين الإدلبي الذي كان يعرفه قبلي .

كان البيت في منطقة شعبية وسط مدينة سلا وهو بيت عربي كما هي بيوت حلب القديمة به ساحة زخرفها فسيفساء مغربي الطراز ونافورة ماء حولها بعض الزرع .

دخلت قاعة واسعة فوجدت بها عددا من الضيوف عند شيخنا وجلس هو على الأرض في زاوية من زوايا القاعة بينما جلس الضيوف على دثر أعلى ارتفاعا .

عندما يدخل الضيف إلى القاعة يقابله الشيخ بعبارة { مرحبا مرحبا } بإيقاع ونغمة تشعر أن صاحبها يرحب بالضيف من أعماق قلبه.

عرَّفت بنفسي للشيخ الأنيق بملابسه المغربية الجميلة والأصيلة فرحَّب بي .

كان بقية الضيوف يسألون الفقية العلامة أسئلة عديدة ومختلفة حول فتاو وكتب ومخطوطات فهو بحر لا قرار له في هذا المجال ، فكان مثل الكمبيوتر حين تنقر على زر تطلب منه المعلومات فتنهمر غزيرة أمامك على الشاشة وما على السائل إلا أن يسمع ويجمع .

بهرني بسرعة إجاباته وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح أمامه .

وحيث أن الجلسة مغربية وفي ضيافة شيخ كريم فلا بد من تقديم الشاي الأخضر بالنعناع { الأتاي } مع حلوى . والعادة الغريبة التي شاهدتها بمجلسه ولم أستسغها حينها هي أن الشيخ ذاته هو من حضَّر لنا الشاي أمامنا فغسل النعناع والشاي أولا ثم وضعهما في إبريق من طراز مغربي جميل ووضع بهو قطعة سكر والمغاربة لا يستخدمون السكر الناعم مثلنا مع الشاي والذي يسمونه سكر سانيدة ثم صبَّ الماء الساخن في الإبريق وانتظر لدقائق فصب قليلا من الشاي بكأسه وذاقه أولا فإذا استساغ طعمه قدم لضيوفه الشاي وإن لم يستسغه يتم التعديل .

دامت زيارتي الأولى للشيخ الفاضل حوالي ساعتين . وخرجنا أنا وأخي الكريم صلاح الدين من عند الشيخ وهو يودعنا ويطلب منا زيارته مرة أخرى .

سألني أخي صلاح الدين: كيف رأيت الشيخ ..؟؟

قلت له : إنه بهرني بغزارة معلوماته والنور والصفاء والوقار الذي رسمه الله على محياه و ولكنني لم أستسغ قيام الفقيه بتحضيرالشاي لنا فليس هذا من مقامه! ألم يكن من الأفضل أن يحضره أهله ثم يحضرونه جاهزًا ؟.

ضحك أخي الكريم من تعليقي وقال: إن الشيخ عادة لا يفعل ذلك إلا إكراما للضيف الذي يزوره أول مرة وهذا الضيف هو أنت وليس غيرك . فالشيخ أراد تكريمك، و في الزيارة المقبلة لن يحضره وسيأتي جاهزا .

استمرت زياراتي لوحدي لبيت الشيخ التطواني وشعرت أننا أحببنا بعضنا لله فكنت أحيانا وحدي بمجلسه فأتناول معه طعام العشاء وكان يقول لي: " إذا وجدت الإلفة رفعت الكلفة " وأحيانا يكون بعض الضيوف الآخرين . وفي كلا المجلسين كانت لي متعتان مختلفتان . حين يكون آخرون معنا فإني أسمع لمواضيع يطرحها الضيوف على الشيخ العالم فأنبهر أكثر من علمه ونباهته وأكون مستمعا ولست مشاركا في الحوار لأستفيد مما يتداول بالمجلس . وحين أكون وحدي بمجلسه فإن الحديث يأخذ مناحي أخرى وكان الشيخ مطلعا على أخبار المشرق بشكل ممتاز حيث أنه كان يزوره وأنا أساله عن أخبار المغرب فيوضح لي ما خفي عني .

وأول زيارة له لدمشق كانت عام 1925 وأعلمني أنه ذهل لما رأى بدمشق من نظام وصناعة وتجارة وعلم ديني وعصري، وقال لي: إنني قلت في نفسي: ماذا يفعل الفرنسيون هنا ..؟؟ السوريون لديهم أشياء لا يملكها الفرنسيون وسوق الحميدية أكبر شاهد ودليل . استمرت زيارات الشيخ لسورية لغاية عام 1980 وأسباب الزيارات أن الفقيه التطواني كان يهتم بالكتب والمخطوطات يتابع أخبارها وأماكن وجودها ويشتري ما يناسبه ويبيع بعضها مما في مكتبه العامرة .

و قد زار حلب والتقى بالشيخ الفاضل راغب الطباخ رحمه الله .

من جملة ما قال لي: إن أفضل عام زار فيه سورية كان عام 1957 حيث بدت له سورية أنها فعلا سويسرا الشرق لما بها من حركة ونشاط تجاري وزراعي كبير، ثم بدأ التراجع والانهيار بعد ذلك وأسوء عام كان بزيارته الأخيرة عام 1980 وقال لي: إن أهل دمشق تغير شكل وجوههم وكلامهم وسلوكهم .

استمررت على زياراتي لمنزل الشيخ لعام 1986 ومن محاسن الصدف أنني كنت في آخر زيارة له بمعيَّة الأخ الكريم الدكتور صلاح الدين وفي تلك الزيارة وجدنا عنده شيخا طاعنا بالسن مثله مع ابنه وشخصا آخر . وقال لنا الشخص الآخر: إن هذا الشيخ هو الفقيه المسلوط وابنه الدكتور عبدالعزيز المسلوط وهو من كبار علماء سوس من الأمازيغ وأنه لم يبق بالمغرب من صنفه ومقامه بالعلم إلا هو والفقية التطواني الذي يأتي لزيارته علماء من كل الدول العربية والإسلامية .

والفقيه التطواني كان على علاقات جيدة مع أكبر وأشهر علماء المشرق يزورهم ويزوره ويتناقش معهم حول التراث والكتب والمخطوطات وأمور الدين .

بقي أمر مهم جدا يجب أن أشير إليه فرغم مقام الشيخ التطواني الكبير فإنه رفض المناصب التي قدمت له بعد استقلال المغرب وكان بعيدا عن أهل السلطة وكانوا هم من يقصدونه ويطلبونه وفضَّل الابتعاد عن الأضواء وكان له مقام خاص عند الملك محمد الخامس والملك الحسن الثاني رحمهما الله لأنه رفض خلع البيعة عن سلطان المغرب محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس لاحقا) حين حاول الفرنسيون إزالته عند الحكم عام 1953 وتنصيب ابن عم للسلطان اسمه محمد بن عرفه وانشق عن أستاذه ومعلمه العلامة عبد الحي الكتاني الذي دعم مرشح فرنسا فتوارى عن الأنظار لأكثر من ثلاثة سنوات ولم يدخل بتلك اللعبة السياسية وبقي مع الشرعية .

هذا الموقف جعل الشيخ التطواني كبيرا في أعين القيادة الوطنية أمثال أستاذنا الفاضل علال الفاسي والشيخ المكي الكتاني وأبي الحسن الوزاني وعبدالرحيم بوعبيد .

حاولت أن اوجز وأشعر أنني لم أوف ذلك الشيخ مقامه ومكانته لذلك سأرفق نبذة عن سيرة الفقية محمد بن أبي بكر التطواني رحمه الله كما وردت على صفحات غوغل .

وإلى اللقاء في حلقة أخرى إن شاء الله .

محمد بن أبي بكر التطواني

محمد بن أبي بكر بن محمد الشاوي السلوي الفقيه التطواني، ولد بمدينة سلا في متم رمضان عام 1318هـ/ 1901م، في أسرة علمية عريقة أصلها من عرب الشاوية، انتقلوا إلى سلا بعد أن كان استقرارهم بمدينة تطوان، ولذلك عرفت أسرتهم بالتطوانيين.

نشأ في هذه الأسرة فأخذه والده معه إلى طنجة لما عيِّن بها كاتباً بدار النيابة، حيث أدخله كتّاب محمد التوزاني لحفظ القرآن، ولم يتجاوز حينها السنة الرابعة من عمره، ثم استكمل بعد ذلك حفظ كتاب الله وتجويده بمسقط رأسه على يد خيرة فقهاء وأساتذة بلده أمثال محمد بوعلو، ومحمد بنسعيد، ومحمد بريطل، ودرس العلوم اللغوية والشرعية على يد والده، وأحمد بن الفقيه الجراري.

وفي أوائل عام (1337هـ) رحل إلى فاس قصد إتمام دراسته، إلاَّ أن وفاة والده عجلت برجوعه، ولم تسمح له حالته المادية بعد ذلك لإتمام دراسته ممَّا اضطره للاشتغال بالكتابة في إحدى الإدارات، واستطاع توفير بعض المال من أجرته البسيطة التي كان يتقاضاها، وعندها رجع إلى مدينة فاس لإتمام دراسته، وبقي هناك عشر سنين لازم فيها الشيخ عبد الحي الكتاني، فكان ينسخ له مؤلفاته ومخطوطاته، ممَّا مكَّنه من الاستفادة من علوم شيخه، واطِّلاعه الواسع على العلوم الإسلامية والحديثيَّة، كما حضر مجالس كبار العلماء المسلمين والمستشرقين الذين يتوافدون على الشيخ الكتاني باستمرار، وهكذا تمكن الشيخ التطواني خلال مقامه بفاس من تحصيل كل العلوم التي كانت تدرس بالقرويين النقلية منها والعقلية، على يد علماء أجلاء بلغ عددهم الثمانين، أجازه منهم نحو ثلاثين.

ومن أبرز شيوخه في هذه المرحلة: أحمد بن الخياط، ومحمد بن رشيد العراقي، وأحمد بن المامون البلغيثي، والشريف التكَناوتي، ومحمد بن جعفر الكتاني، كما كانت رحلاته إلى الجزائر وتونس وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والحجاز فرصة للّقاء بأعلام المشرق والمغرب ولقي هناك نحو تسعين عالماً.

كان الشيخ رحمه الله علاَّمة فهَّامة من المتضلعين في العلم، ومرجعاً حياً للباحثين والطلبة، يزوّدهم بما تختزنه ذاكرته من معارف ومظان، وكان من المشتغلين بالبحث في المخطوطات، ولم يكن رحمه الله يتشوَّف للوظائف العالية التي عرضت عليه ولم يقبلها، وعرف عنه أنه اشتغل بعد رجوعه من فاس ببيع الكتب، وكانت له مكتبة بالرباط، وأخرى بالشراكة مع محمد بن عبد الله الغربي، كما ولي خطابة المسجد الأعظم بسلا بعد طول امتناع، ثم تخلَّى عنها لغيره، وشارك رحمه الله في الحركة الوطنية، واعتقل من طرف المستعمر، وأوذي فصبر واحتسب.

نال المترجم من الحظ والشهرة بين أهل عصره ما لا يلحق به غيره، وتجلى ذلك في ثناء العلماء عليه، قال عنه العلامة إدريس بن الماحي القيطوني: «صديقنا الفقيه العلامة المشارك المطلع المؤرخ النقادة الأديب الكاتب البارع الديّن الخَيِّر الصالح، من أهل العلم والدين المتين والصلاح...».

اهتم الفقيه التطواني بمجال التأليف وهو ما يزال طالباً بفاس، وكان من نتاجه العلمي تآليف تدل على طول باعه وسعة علمه، منها كتب صغيرة في كراريس، نذكر منها: ذيل فهرس الفهارس لمحمد عبد الحي الكتاني، محاضرات أدبية وتاريخية، رسالة عن القاضي عياض، رسالة عن الشيخ المكي البطاوري، وله كناشات علمية مخطوطة بالخزانة الصبيحية، منها كناشة تحمل رقم 454 تحتوي على مجموعة من التراجم لمشارقة وأندلسيين، وكناشة تحمل رقم 455 تحتوي على تراجم أعلام ما قبل القرن السابع من علماء المغرب، وكناشة أخرى تحمل رقم 458 فيها مختارات من تاريخ بغداد، ونوازل العلمي، ونشر المثاني، وسلوة الأنفاس... 

ومن آثاره المنشورة:

ابن الخطيب من خلال كتبه في جزئين صغيرين، وجلالة العرش المحمدي في ظل راية القرآن، وله مقالات منشورة في مجلات مغربية وجزائرية وتونسية.

توفي الشيخ التطواني رحمه الله بمسقط رأسه سلا في العاشر من محرم عام 1410هـ، ويوجد قبره بجوار الشيخ أحمد بن عاشر الذي كان مواظباً على زيارته في حياته.

مصادر ترجمته:

معجم المطبوعات المغربية للقيطوني (57-58)، إسعاف الإخوان الراغبين بتراجم ثلة من علماء المغرب المعاصرين (164-166)، معلمة المغرب (7/2407-2408).

من صفحة الأستاذ عبد الباسط البيك