وفاة العلامة الجليل الشيخ عبد الله الكابودري رحمه الله تعالى

 

نعوا باسق الأفعال لا يخلفونه=تكاد الجبال الصم منه تصدَّع

نَعَى العزيز أبو الفرحان زوج بنتي سمية إليَّ اليوم (أي يوم الثلاثاء سابع عشري شوال سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وألف)، شيخَنا المجيز العلامة المحدث المؤرخ الأديب أبا محمد عبد الله بن إسماعيل الكابودري الكجراتي، فهوِيت أن لا أصدِّق هذا الخبر الذي هزني هزًّا، وفزعت بآمالي فيه إلى الكذب، ولكن تواترت إلي أخبار تلك الفاجعة، وأبرمها صاحبنا سليمان القاضي وهو من أقرب الناس إلى الفقيد إبراما، ولم يدع صدقُها أملا، وغمرني حزن كبير راع فؤادا لا يزال مروَّعا، فليس لهذا الراحل مثيل في بلاد كجرات علما وصلاحا وسعة نظر وبعد غور ونصحا للأمة:

فليت طالعة الشمسين غائبة=وليت غائبة الشمسين لم تغب

ولد في الحادي عشر من رمضان سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وألف في هيربور من بورما، وكان أبوه مقيما بها للتكسب كغيره من أهل الهند، وكان من الصالحين، وقد بايع حكيم الأمة أشرف علي التانوي في الطريقة، واستفاد منه ومن خليفته الشيخ محمد عيسى الإله آبادي رحمهم الله تعالى.

عاد به أبوه إلى وطنه كابودرا، وسعى في تحصيله العلمي، ولعل ذلك لبركة اتصاله بحكيم الأمة، وألحقه بالجامعة الإسلامية بدابيل فتخرج منها، وسمع النصف الأول من صحيح البخاري وجامع أبي عيسى بكامله على الشيخ عبد الجبار الأعظمي، والنصف الثاني من صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وشرح معاني الآثار لأبي جعفر الطحاوي على الشيخ عبد الرؤوف البشاوري، ثم التحق بدار العلوم بديوبند وأقام بها عامين، وسمع صحيح البخاري على العلامة فخر الدين أحمد المرادآبادي، وأشياء من شرح معاني الآثار للطحاوي على المفتي مهدي حسن الشاهجهانفوري، واستجاز منهما ومن العلامة محمد إبراهيم البلياوي.

وسافر إلى سهارنفور وسمع المسلسلات على الشيخ محمد زكريا الكاندهلوي واستجاز منه، ومن العلامة المقرئ محمد طيب القاسمي، والعلامة المفتي محمود الكنكوهي، وشيخنا المحدث الإمام محمد يونس الجونفوري، وشيخنا المجيز المفتي محمد تقي العثماني، وشيخنا العلامة المحدث الفقيه الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، والذي أهدى إليه كتابه (من أدب الإسلام) كاتبًا: هدية مقدمة إلى الأخ العالم العامل الجليل مولانا الشيخ عبد الله السورتي حفظه الله ونفع به، مع إجازتي له خطًّا بعد إجازتي له قولاً في جنوب إفريقية بما أجازني به شيوخي، والله يحفظه ويرعاه وينفع به ويتولاه، ويكرمني بصالح دعواته. من راجيها عبد الفتاح أبو غدة، في تورنتو 21 ربيع الآخر سنة 1414هـ.

ودرّس في جامعة دابيل سنوات طويلة، وعمل مديرا لمدرسة فلاح الدارين، وأشرف على مدارس في كجرات، والمملكة المتحدة، وكنادا. وله مؤلفات نافعة باللغتين العربية والأردية، منها (كتاب الأضواء على تاريخ الحركة العلمية والمعاهد الإسلامية في كجرات).

و لقيته غير مرة في الهند والمملكة المتحدة، وأنست به أنسًا كبيرا لجودة قريحته وصفاء قلبه، ووجدته مولعا بالعلم واقتناء الكتب وتاريخ بلاد الإسلام وتراجم المحدثين والفقهاء وعامة العلماء، وزارني مرة في أوكسفورد، وحاورني وأفادني في موضوعات شتى، وتجولت به في مكتبة بودليان، فنظر في فهارس مخطوطاتها، وكان شغوفا بالبحث عن آثار علماء كجرات، لاسيما العلامة وجيه الدين العلوي الكجراتي، وكلما قابلته أفاض في الحديث عن المطبوعات والمخطوطات والعلماء والمسندين.

وكان واسع الأفق، كثير المطالعة والقراءة، متوددا إلى العلماء والطلبة، ومحببا إليهم، رفيقا رحيما، غير محصور في نطاق مدرسة معينة أو مذهب معين، ونزيها قلبه من سوء الظن، وعفَّ اللسان عن الوقوع في أعراض العلماء وحرمات المسلمين، وكان على طريقة شيخنا الإمام أبي الحسن الندوي رحمه الله تعالى في رحابة الصدر وسلامة النفس والجمع بين طوائف المسلمين وتوحيد كلمتهم، وأبعد الناس عن الغل والحسد والبغض، وكان يلقب بـ"علي ميان" (أي شبيه أبي الحسن علي الندوي) لبلاد كجرات، وكان يحبني محبة بالغة، وقد سألني مرارا أن أزور كجرات في حياته، فألقي دروسا ومحاضرات في مدارسها وجامعاتها، وأمر صديقنا سليمان القاضي أن يستحثني على السفر إليها، فاستجبنا لأمره بالموافقة والقبول، ولكن عاجلته المنية قبل أن نحقق أمنيته، وما القدر إلا بيد الله وحده، وله الأمر من قبل ومن بعد.

وسمعت منه المسلسل بالأولية في شوال سنة أربع وعشرين وأربع مائة وألف، وأجازني إجازة عامة، وأرسل إلي بعد ذلك بإجازاته من شيوخه، واستجازه عدد كبير في الهند، والمملكة المتحدة، والحرمين الشريفين، وسمع من شيخنا محمد يونس الجونفوري رحمه الله تعالى ثناء عطرا على أخينا وصاحبنا العالم الصالح أحمد عاشور حفظه الله تعالى، فلقيه في المدينة المنورة، وأعجب به إعجابا، وإنما ذكرت ذلك أداء لأمانة التاريخ رغم أنف أحمد، وهو ممن أحبه في الله تعالى، وأكره أن أُسخطه، وقد يحدث مني ما يسوؤه من غير تعمد، والله يعفو ويصفح.

وكان له اهتمام كبير بكتابي (الوفاء في أسماء النساء)، وكذلك كتابي (معجم الشيوخ) وفيه ترجمة له، وكان يحضني دائما أن أتمه وأخرجه في أقرب وقت، وأسأل الله تعالى أن ييسر صدور الكتابين عاجلا، ويكتب لهما القبول.

كان الفقيد رحمه الله تعالى رجلا من الرجال، قد ملك قلوب الناس بأخلاقه الفاضلة، واستأسر نظراتهم بمحاسنه الجمة، فرحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيج جنانه.

مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق=ولا مغرب إلا له فيه مادح