الشيخ محمود جنيد: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل!

لما طلب مني الكتابة في (النذير) عقب مغادرة سورية عام ثمانين، لم يتبادر إلى ذهني يومها ، سوى الكتابة عن الشهيد سلمان جنيد رحمه الله تعالى. فأنا أعرف هذا الشاب الرقيق الوديع السمح صافي القلب من جهة، وهو صديق روح شقيقي الشهيد عماد الدين رحمه الله تعالى. لكن مدخلي إلى الكتابة عن سلمان، كان الكتابة عن والده الشيخ محمود جنيد رحمه الله تعالى.

وليس الشيخ محمود بحاجة للتعريف به. لأن طبيعة حياته سواء من حيث الابتلاء بالمرض مبكرا وضعف الجسم ونحالته من ثم دائما، أو الزهد في الدنيا وعدم الاكتراث أبدا بالملبس والمأكل، أو العمل من كسب اليد والتجارة الصغيرة في السوق وسط حمص،أو فقدانه لاثنين من الأبناء الشهداء: الصيدلاني المتخرج حديثا معروف، ثم الطالب في الهندسة المدنية سلمان، رحمهما الله تعالى رحمة واسعة، ثم أو الأهم : العلم والمرجعية والعمل في التدريس والتوجيه...كل ذلك غيض من فيض من مآثر الشيخ محمود رحمه الله،هذا كله جعله معروفا مقدرا محترما من جميع الناس في المدينة..

كان للشيخ دروسه شبه اليومية للشباب في مسجد الشيخ كامل بين المغرب والعشاء، حيث هو مركز آخر من مراكز تنشئة اليافعين والشباب في ذلك الجزء من شرق حمص القديمة. ومن ذلك المسجد تخرج عشرات التلاميذ ممن درسوا على يد الشيخ. وكان له أيضا درسه في المسجد الكبير في وسط حمص، حيث كان يدرس شرح صحيح مسلم للإمام النووي رحمه الله تعالى. وهي الفترة التي عاصرته بها. وإن كان درس فيه في فترة أخرى شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني. وكان هذا الدرس لمجموعة قليلة من الناس رزقها الله النشاط وحب العلم بحيث تأتي إلى المسجد من أنحاء متفرقة من المدينة بعيد صلاة الفجر.. لكن ما أحفظه من تلك الأيام في ذاكرتي عن الشيخ-وهي صور كثيرة متعددة- أنه كان يجلس مع مجموعة من الناس في غرفة من المسجد، لا يعملون شيئا سوى ذكر الله تعالى.

لم يغادر الشيخ محمود سورية كما اضطر إليه باقي العلماء والمشايخ، في الثمانينيات. وبقي في المدينة مرجعا أول للناس، إلى أن انتقل إلى رحمة الله في التسعينيات.

وقد كان من إكرام الله تعالى للشيخ محمود، أن جنازته يوم توفي ، كانت من أكبر الجنائز التي عرفتها حمص على مدى عقود من الزمن. فيومها أغلقت متاجر حمص أبوابها، مسلمها ومسيحيها سواء. وكانت جنازة مهيبة عامرة بالناس الحزانى ، كما حدثني كل من لقيت بعد ذلك.

مسجد الشيخ كامل حيث كان الشيخ يدرس، كان أحد المراكز المهمة في الدعوة والتربية والتوجيه في تلك الفترة الذهبية من عمر الإسلام في سورية. والشيخ محمود كان شيخ هذا المسجد. وهو والعلماء الذين ذكرنا، كان لهم فضل كبير في تبرعم الإسلام وازهاره،لما حباهم به الله من العلم والقدرة على العطاء والتأثير. لكن هذا لا يعني أنه لا يوجد غيرهم ممن كان له أثره أيضا. ومن هؤلاء الذين لم يتح لي معرفتهم الشخصية، لكنني كنت وغيري نسمع بهم ونعرف تلاميذهم، الشيخ عبد الخالق الحصني رحمه الله تعالى. فهو كان له تلامذته ومريدوه. ثم العلماء الآخرون مثل الشيخ محمد علي مشعل رحمه الله تعالى، الذي كان يشارك في الأمسيات الدينية والمحاضرات في المساجد . و الشيخ المرحوم أبو السعود عبد السلام الذي كان يشارك بنشاط في جمعية العلماء وهو والد الأخ الدكتور فايز الذي قضى شهيدا في سبيل الله تعالى في سجن تدمر. إضافة إلى علماء آخرين لم يتيسر معرفتهم كثيرا أو اللقاء بهم.

رحم الله هؤلاء العلماء العاملين وغفر لهم، وجزاهم خير الجزاء عما قدموه في سبيل الله تعالى.