غيبوبة الغيبوبة كيف تجنّت آيات عرابي على الأفغاني ومحمد عبده؟

كتبت آيات عرابي منذ مدة مقالة بعنوان (الأفغاني وعبده: مائة عام على الغيبوبة)، حشدت فيها الكثير من الأباطيل والأضاليل بحق هذين الإمامين الجليلين، وقد اغترّ بهذه المقالة الكثيرون ممَّن لا علم لهم بجلية الأمور، فكان لا بد من هذا البيان.

استفتحت الكاتبة مقالها بالزعم أن الأفغاني لم يكن أفغانيا، ولكن كان شيعياً من إيران تعلّم في النجف!

وهذا ترديد لادعاءات رجل إيراني نكرة يدعى (لطف الله خان) زعم أنه ابن أخت الأفغاني، ووافقه على ذلك بعض الشيعة، وهي دعوى عن البرهان عرية، ويردها:

1- أن عائلة الأفغاني مشهورة جداً في أفغانستان، وهي من السادات الذين ينحدرون من آل البيت الكرام.

2- وأن قبر الأفغاني نُقل من تركيا إلى أفغانستان في أربعينيات القرن المنصرم، ولم تعترض على ذلك إيران.

3- وأن دعوى إيرانيته ألصقها به أنصار شاه إيران حينذاك حتى يتمكنوا من استرداده من العثمانيين ومحاكمته، بعد اتهامه بتدبير مقتل الشاه.

4- وأن رواية إيرانيته متناقضة، حيث يزعم بعض القائلين بها أنه لم يطأ في حياته أرض أفغانستان، بينما يقول لطف الله خان أنه ذهب إلى أفغانستان وتقرب إلى ملكها.

5- وأن كثيراً من الإيرانيين يردّون زعم كونه إيرانيًا، بينما يُجمع الأفغان على كونه منهم.

6- وأن القبور التي يزعمونها لأجداده في أسد أباد الإيرانية ليس فيها قبر والده المجمع على اسمه (صفدر) (1).

ثم ثنّت الكاتبة بأن الأفغاني طُرِدَ من إسطنبول لأنه ألقى خطبة ادَّعى فيها أن النبوة صنعة بشرية!

وهذا ما يذكره المناوئون للسيد، والحقيقة أن القائم على السيد حينئذٍ كان شيخ الإسلام في الدولة العثمانية حسن فهمي أفندي، وكان بينه وبين السيد عداوة، فاستغلّ ضعف السيد باللغة التركية وحرّف معنى كلامه، واتهمه بالزندقة، فردَّ عليه السيد وبيّن أنه لم يقصد هذا المعنى الذي ذكره شيخ الإسلام(2).

وثالثة الأثافي زعمُ الكاتبة أنّ رياض باشا هو الذي استقبل الأفغاني في مصر، وكان رئيس الوزراء وكان من أصل يهودي! لتوهم القراء أن مجيء الأفغاني على مصر كان مؤامرة يهودية!

والحقيقة أن رياض باشا من رجال مصر المشهورين، وقد تولى رئاسة الوزراء خمس مرات، وله سيئات يوصم بها كالاستبداد وموالاته للاحتلال، وله حسنات، ومن أجلّها إلغاؤه للسخرة وضرب الفلاحين بالكرباج لأجل أخذ الضريبة، واتهامه بأنه ذو أصل يهودي أطلقها عليه الصحفي أديب إسحاق انتقاماً منه لمّا نفاه رياض باشا من مصر، وقد برأه من هذه التهمة –إن صحّ وصفها بالتهمة لرجل مسلم-المؤرخُ الكبير عبد الرحمن الرافعي، وبيّن أنه من عائلة مصرية مسلمة هي عائلة الوزان (3).

ثم زادت الكاتبة في الطنبور نغمة، فذكرت أن الأفغاني انضمّ إلى المحفل الماسوني البريطاني، وليس صحيحاً أنه دخله في سبيل الموضة، لأنه ترك المحفل البريطاني ليؤسِّس محفلاً تابعاً لفرنسا!

والحقيقة أن الماسونية كانت جمعية علنية مرخَّصاً بها في الدولة العثمانية آنذاك، وانتمى إليها كبار رجال تلك الدولة، مثل الصدر الأعظم إبراهيم باشا ومدحت باشا(4)، فكل اتهام للأفغاني بأنه كان يعرف أهدافها السرية فهو اتهام للدولة العثمانية نفسها بترخيص جمعية تعمل ضد الإسلام.

ولذلك انتمى كثير من الفضلاء الى الماسونية في تلك الفترة اغترارًا بشعاراتها الظاهرة كالحرية والإخاء والمساواة.

ثم زعمت الكاتبة أن الأفغاني كان أول من طعن في الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، واتهمه بالمسؤولية عن الطبقية والاقطاع، ووصف من حاصر داره بالمستضعفين.

والحقيقة أن الأفغاني مثل سائر أهل السنة يحب الصحابة ويصلي عليهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في مفتتح كتبه كما هو دأب أهل السنة خلافاً للشيعة، حيث استفتح كتابه (مرآة العارفين) (5) بقوله: (وصلى الله على الاسم الأعظم والردء المعلم... محمد وعلى آله وصحبه وسلم)، لكنه لا يجعلهم معصومين عن الخطأ والزلل، ومن هنا كان نقده لعثمان رضي الله عنه.

وأما زعم الكاتبة بأن الأفغاني وصف من حاصر دار عثمان بالمستضعفين فهو كذب صراح، وبهتان بيّن.

والذي ذكره الأفغاني أنه نتج في عهد عثمان رضي الله عنه من (المظاهر التي أحدثها وجود الطبقات المتميزة عن طبقة العاملين والمستضعفين من المسلمين طبقةٌ تتحسَّس بشيء من الظلم، وتتحفز للمطالبة بحقهم المكتسب من مورد النص، ومن سيرتي الخليفة الأول والثاني أبي بكر وعمر) (6).

فلم يذكر- كما ترى- أن هذه الطبقة هي التي تولت حصار عثمان رضي الله عنه، فلا يجوز لنا أن نقوّل الرجل ما لم يقله.

ثم ذكرت الكاتبة أن الأفغاني ادعى أن أبا ذر الغفاري رضي الله عنه هو أبو الاشتراكية في الإسلام!

وهذا أيضا بهت وكذب، فالأفغاني أثنى على سلوك أبي ذر مع معاوية حين ذمَّ تصرفاته المالية، لكنه لم يجعل أبا ذر منظّر الاشتراكية في الاسلام، بل جعل كل ما جاء به الإسلام من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وفرض الزكاة وخمس الغنائم وتحريم الربا من (اشتراكية الإسلام)، وهو لم يدعُ يوماً إلى الاشتراكية الغربية، لأنه جعل كل اشتراكية تخالف اشتراكية الإسلام مرفوضة (ولا تكون نتيجتها إلا ملحمةً كبرى وسيل الدماء ولا سيل العرم من الأبرياء) (7) .

 

ثم ذكرت الكاتبة أن كرومر هو الذي سعى في تعيين الشيخ محمد عبده مفتياً لمصر!

وهذا خطأ، فإن الذي عينه مفتياً كان الخديوي عباس حلمي، وكان دور كرومر إبقاءه في هذا المنصب لحصول تقاطع في المصالح بينه وبين محمد عبده.

ثم ذكرت أن محمد عبده أفتى بأن الحجاب مجرد عادة!

وهنا لا بد من التفصيل، فإن قُصد بالحجاب منع النساء من العلم والعمل، فهذا ما حاربه محمد عبده، وإن قُصد بالحجاب اللباس الشرعي الساتر فأين هي فتوى محمد عبده بخلعه؟ إن هذا إلا اختلاق.

ثم ذكرت أن محمد عبده دعا إلى فصل الدين عن الدولة!

وهذا لا يصح، لأن الذي حاربه محمد عبده هو الدولة الثيوقراطية، أو ما يسمّى بالحق الإلهي(8)، ولم يدعُ يوماً إلى تعطيل شريعة الاسلام.

ثم ذكرت أن الأفغاني ومحمد عبده كانا لا يصليان ويشربان الخمر!

وهذه الدعوى خبر، والخبر الذي جاء بذلك هو من الشيخ يوسف النبهاني، وهذا الشيخ كان عدواً لدوداً للإمامين، فلا تُقبل شهادته عليهما.

وكان الشيخ محمد عبده يقوم الليل، كما حكى عنه تلميذه الشاعر حافظ إبراهيم، فكيف يوصف بترك الصلاة؟(9)

وقد شهد مفتي مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي أمام شيخ الأزهر بأن محمد عبده من أشد طلبة الأزهر محافظةً على الصلوات، وكان يأتمّ به لصلاحه وتقواه، بالرغم من مخالفته له في كثير من الأمور(10). 

كما أنَّ المطيعي شهد للأفغاني بالاستقامة والغيرة على الدين، فقال: (وأستاذنا الجمال يُنسب إلى صاحب هذا الدين جده محمد صلى الله عليه وسلم، فهو أولى بالذبِّ عن هذا الدين، وقد عاشرناه منذ وطئت قدماه مصر إلى أن فارقها، وأخذنا عنه كثيراً من العلوم والفلسفة وغيرها، ولم نرَ منه في هذه المدة على طولها وكثرة اجتماعنا به أنه رحمه الله يدين بما يدين به رينان أو يقول ما يُشمّ منه رائحة الطعن على الإسلام والمسلمين، بل الذي علمناه منه وعلمه منه أيضاً الأستاذ الشيخ محمد عبده أنه فيلسوف الإسلام حقا، متمسك بدين الإسلام صدقا، مدافع عن ذلك الدين بكل ما أوتيه من قوة في العلم، وإجادة في التعبير) (11).

فمن أحقّ بالصدق، أمفتي مصر الشيخ المطيعي الذي عاشر الشيخين وخبرهما أم صاحب المنامات والحكايات الشيخ يوسف النبهاني الذي لقيهما لماماً؟

ومن العجب أن يزعم الشيخ النبهاني: أنه ذكر أنه سمع الشيخ المطيعي مراراً يضلل الشيخ محمد عبده! (12) فأي القولين أحق بالصدق، ما جاء في كتب المطيعي التي نشرها في حياته، أم ما نقله عنه النبهاني؟؟

وأصل تهمة شرب الخمر التي ادّعاها النبهاني منقولة من كلام سليم عنحوري الذي وصف بها الأفغانيَّ، وهو ممّن لم تكن لهم خبرة بالسيد، حتى إنه وصفه بالإلحاد! وقد رد ذلك رشيد رضا بقوله: (لم نسمع حتى من أعدائه أنه كان يشرب المسكرات، فإن لم يكن ما قيل من شربه قليلاً من الكونياك فرية، فيُحتمل أن يكون له شبهة، كأن يكون رآه الناقل يشرب شيئاً يشبه الكونياك أو يكون شرب ذلك القليل تداوياً فظنه الناظر عادة) (13).

ثم دندنت الكاتبة على علاقة الشيخ محمد عبده بعلي عبد الرازق المتعلمن صاحب كتاب (الإسلام وأصول الحكم) وزعمت أنه خرج من عباءة الشيخ! 

وقد تولى الشيخ محمد بخيت المطيعي دفع هذه الشبهة فقال: (الشيخ الجليل، والأستاذ الكامل، الحجة الشيخ محمد عبده، وما لهؤلاء –يقصد علي عبد الرازق-وللشيخ محمد عبده ؟ هؤلاء ما عاصروه ولا خالطوه تمام المخالطة، ولا اجتمعوا معه في درس، ولا أخذوا عنه شيئاً من العلم، وإنما هؤلاء يتشبثون بكل من اشتهر بالفضل والعلم وهو بريء منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب) (14).

وبعد، فهذا أهمّ ما جاء في مقالة آيات عرابي، وهو قُلّ من جُلّ، وغيض من فيض، وهو يدل على مستوى ما بلغته من دراية في التاريخ وإنصاف للحقائق!

------------

(1) انظر مقال (دعوى إيرانية جمال الدين الافغاني تفكيك وتفنيد) لكاتب هذه الأسطر.
(2) انظر مقدمة الشيخ محمد عبده لكتاب الرد على الدهريين للأفغاني ص3
(3) الثورة العرابية والاحتلال الانجليزي ص47
(4) اليهود والدولة العثمانية ، د. أحمد النعيمي ص176
(5) 2/33 من أعمال الأفغاني الكاملة.
(6) خاطرات الأفغاني ص127.
(7) خاطرات الأفغاني ص129، لذلك فلا أوافق على قول بعضهم: إن الأفغاني تحول من مناصرة الرأسمالية إلى مناصرة الاشتراكية الغربية!!
(8) أعمال الشيخ محمد عبده الكاملة 1/107
(9) تاريخ الأستاذ الإمام 1/1042
(10) تاريخ الأستاذ الإمام 1/1043
(11) تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية ص4.
(12) البشائر الإيمانية في المبشرات المنامية ص36
(13) تاريخ الأستاذ الإمام 1/53
(14) حقيقة الإسلام وأصول الحكم ص366