هل كان الشيخ محمد عبده عميلاً للاحتلال الإنجليزي؟

إنه لمن نكد هذا الزمان أن يضطر كاتب هذه الأسطر إلى دفع هذه الفرية عن الأستاذ الإمام، ولولا أن فئامًا ممّن أعوزتهم النصَفة، واختلطت عليهم سبل المعرفة، سوّلت لهم أنفسهم أن يقذفوا هذه التهمة في عرض ذلك الجبل الأشم، لما خطَطَتُ في هذا الأمر سواداً في بياض.

فإنه من المعلوم لكل دارس لحياة الشيخ رحمه الله أنه جاهد الإنجليز بلسانه وقلمه لمّا أقدمَ جندُهم على احتلال مصر سنة 1882، ووقف مع رجال الثورة العرابية حينذاك مع خلافه معهم، وتلقّى لأجل ذلك حكماً بالنفي من البلاد ثلاث سنوات، ثم أتمَّها بثلاث سنوات أخرى من عنده إباءً للخضوع للمستعمر، وقضى بعض تلك السنين متنقلاً في المنافي يحرّض على الإنجليز ويُعرّي ظلمهم واستكبارهم صحبة شيخه الأفغاني.

إلا أن الحصيلة التي أنتجتها تلك السنين العجاف كانت المزيد من الإحباط، والتآمر الخفي من الدولتين الكبريين بريطانيا وفرنسا على القضية المصرية، وإغلاق صحيفة العروة الوثقى التي كان يقوم عليها مع شيخه، ممَّا ولّد قناعة عند الشيخ رحمه الله بضرورة انتهاج سبيل أخرى للإصلاح.

فكان أن قرَّر الشيخ الرجوع الى بلده بدلاً من هجرها، والعمل على إصلاح الأوضاع الدينية والتعليمية فيها ، لإخراج جيل جديد يتنكَّب ما وقع فيه الجيل الحاضر من تخلف وهوان.

وفي مصر، يَرجع الشيخ بصره كرَّتين، فيجد مشايخَ جامدين على إلف الآباء، ينتهجون طرائق القدماء في التدريس رغم اختلاف الزمان، ويجد الخديوي متمسكاً بغِرز أولئك الأشياخ، فكان أن تشفّع له بعض المتنفذين عند الخديوي، مثل سعد زغلول والأميرة نازلي فاضل، فعيّنه قاضياً في القرى، بعيداً عن العاصمة، وبذلك أُبعد الشيخ عما حرَص عليه من الإصلاح، وأقصاه عما رغبتْه نفسه من مجال التعليم.

وحينئذٍ، عرفَ الشيخ أن لن يسانده في خطته إلا الإنجليز، الذين لهم اليد العليا والحل والعقد في البلاد، فتقرب إلى مندوبهم اللورد كرومر، عازماً تطويع هذه العلاقة فيما يفيد العباد.

وهنا، يتصّيد الشانئون للشيخ في الماء العكر، ويظنون فيه ظِنَّة السوء، ثم يطلقون ما تحفل به خيالاتهم المختلّة من ظنون وتُهم هي عن الصدق والحق بمعزل، بل بأبعد منزل.

ونحن في تعاطينا لمسألة العلاقة بين الشيخ وكرومر لا يجوز أن تعزب عن بالنا جملة من الحقائق، وهي:

بُعد التيار الديني عن الإصلاح

الحقيقة الأولى: أن المزاج العامّ للمشايخ في ذلك الزمان هو ضيق العطن، والتقليد الأعمى، والقطيعة مع كل أسباب القوة من مستجدّات الزمان، وبذلك ساهموا في إضعاف جذوة الدين، وعزله عن أي تحديث للجيل.

ويكفيك أن تعلم أن قرائح أولئك المشايخ عجزت عن وضع مناهجَ حديثة لطلبة الأزهر، فكانوا يدرّسون المتون القديمة نفسها، مع شروحها وحواشيها وتقريراتها، ولا ينتقل الملقن من جملة إلى جملة إلا بعد أن يقتلها بحثاً، ويذكر الإيرادات التي قد تأتي عليها، وأكثرها إيرادات شكلية تمس لفظ الكلمة، وقد تضيع الساعة أو الساعتان في سطر إذا اقتضى الحال(1)! وأي عمر يتَّسع لذلك؟

أما النظافة فحدّث عنها ولا حرج، فقد كانت أمكنة الأزهر من صحنه إلى مقاصيره ومغاطسه وميضئاته مجتمع أوساخ، ومهب رياح عفنة، وبؤْرة أمراض معدية، ومقر بقايا الكراث والفجل وقشور البصل! ولا عجب، فالحنفيات عند الأشياخ بدعة مُذهبة للبركة! وكان الشيخ رحمه الله إذ كان يدرس في الأزهر لا يتوضأ من الميضأة، بل كان يأخذ الماء من مصبّه فيها ليتجنَّب ما في الميضأة من فضلات! (2)

فهذا هو الأزهر في ظلال المقلدين المتحجّرين المناوئين للشيخ بل المكفرين له أحيانا!!

وكان شيخ الأزهر الشيخ الشربيني يصرّح مع ذلك بأن الأزهر لا يحتاج إلى إصلاح!! (3)

ثم يعيب الشانئون الشيخَ رحمه الله حين كان يسمي الأزهر (الإسطبل) أو (المارستان) أو (المخروب)! فيذكرون شطر الحقيقة ومُسبَّبها، لكنهم لا يذكرون شطرها الآخر وسببها! ليوهموا الأغرار أنَّ الشيخ كان ضد التعليم في الأزهر من أصله.

كره الخديويَّين للشيخ محمد عبده

الحقيقة الثانية: أن الخديوي توفيقاً كان كارهاً للشيخ رحمه الله لما قام به في المنفى من تحريض ودعاية ضده، ثم لما تولى ابنه الخديوي عباس أخذت العلاقة بينهما تتحسَّن، ولكنها رجعت سيرتها الأولى بعد تبين فساد الخديوي الجديد.

وقصة ذلك: أن الخديوي عباساً أراد الاستيلاء على بعض أراضي الوقف، فلجأ إلى الحيلة في ذلك، فعرض على مجلس الأوقاف استبدال بعض أراضي الوقف في الجيزة بمزرعة من مزارع الخديوي الخاصَّة، بناءً على تقدير ريع المزرعة وكونه أعلى من ريع تلك الأرض.

فرفض ذلك الشيخ محمد عبده وقال: الأنفع للوقف في مثل هذا إنما يُعرف بتقدير الثمن لا بالغلة السنوية(4).

ومن هنا حقدَ الخديوي على الشيخ محمد عبده، وضيّقَ عليه في إصلاحاته، حتى حمله على الاستقالة من مجلس إصلاح الأزهر.

وقد كان أحد الباشوات يرجو الشيخ أن يترك الخديوي يتصرف في الأوقاف، وقال له: والله إن إطلاق الحرية لك في إصلاح الأزهر خير لك وللإسلام والمسلمين من كل ما توفره الأوقاف من مال؟ فكان جواب الشيخ رحمه الله: أعلم ذلك، ولكن وجداني ومراقبتي لله لا تمكنني من إقرار ما لا يبيحه الشرع، والباطل لا يكون وسيلةً إلى الحق(5).

فكيف يُرجى والحال كذلك الإصلاح من طرف الخديوي؟

الإنجليز لم يتدخلوا في الشؤون الدينية للمسلمين

الحقيقة الثالثة: أن الإنجليز وإن كان أكثرهم -ومنهم كرومر- حاقداً على الإسلام وأهله، متعصباً لنصرانيته، إلا أن الأصل في سياستهم كان يقتضي ترك الأمور الدينية الخاصة بالمسلمين للمسلمين أنفسهم، وعدم التدخل فيها إلا إذا طُلب منهم ذلك أو كان هناك خطر عليهم، وآية ذلك: أنَّ كرومر لما عزم على قطع أقوى صلة للدولة العثمانية بمصر، وهو منصب قاضي القضاة بمصر والذي يتولاه عالم من الترك، واستبداله بعالم من الأزهر، اعترض الخديوي عباس على هذا القرار بنصيحة من الشيخ محمد عبده باعتبار أنَّ هذا شأن ديني لا شأن للاحتلال به، فرضخ كرومر لاعتراض الخديوي(6). 

ثم إن اهتمام الإنجليز كان ينصبّ على تطوير التعليم بما يخدم أهدافهم، وبذلك يضمنون انفضاض الناس عن الأزهر ذي النهج القديم، ولهذا قال بعض المصريين المتملقين لوزير التعليم في حكومة الاحتلال دنلوب: (لماذا لا تصلحون الأزهر كما أصلحتم وزارة المعارف؟) فكان جوابه: (إن الأزهر بناءٌ متداعٍ للسقوط من طبعه، ولا بد من سقوطه، فإذا وضعنا يدنا فيه قال الناس: إننا نحن الذين أسقطناه) (7).

وعليه، فلم تكن إصلاحات الشيخ محمد عبده بتحريض من الإنجليز ولا بدفع منهم، لأن هذا ليس من شأنهم الذي اشتغلوا به أصلا.

وإنها لمن إحدى العبر أن لا يقف للشيخ في إصلاح الأزهر المحتلون الغاصبون، بل المسلمون الجامدون، وتلك شكاةٌ ظاهرٌ عن الشيخ عارُها، ولا يُسأل الشيخ عن أوزارها.

وقد نفث الشيخ رحمه الله مرةً نفثة مصدور، وشهدَ أنه لم يعمل عملاً لمصلحة المسلمين ووجد له من يعارضه فيه من غير المسلمين، لا من الإفرنج ولا من القبط ولا من السوريين!! (8)

وقد يقول قائل: فلماذا حرص كرومر-والحال كذلك- على بقاء الشيخ محمد عبده في منصب الإفتاء، وأثنى على إصلاحاته؟

فالجواب: أن كرومر لم يعيّن محمد عبده مفتياً ابتداءً، بل كان الذي عينه الخديوي، وكان تعيينه له ليصرف عنه مشيخة الأزهر، ويقلل بذلك خطر إصلاحاته(9).

نعم، كانت لكرومر يدٌ في إبقاء الشيخ محمد عبده بهذا المنصب، ومنع الخديوي من إقالته، وذلك لسببين:

الأول: علاقة الشيخ محمد عبده الحسنة به.

والثاني: تقاطع بعض ما يدعو إليه الشيخ محمد عبده بما يعتقده كرومر، كالدعوة الى التنظيم والتطوير والمدنية، وعدم تدخل الشيخ في السياسة.

أما من ادعى أن الشيخ كان مدفوعاً من كرومر، فقد افترى عظيماً لا قبل له على إثباته، والشيخ خصيمه في ذلك يوم القيامة، فإن الشيخ رحمه الله حين مات لم يترك لأهله ثروة سوى ما جناه من رواتبه ومؤلفاته، وكانت ثروته كلها أرضاً في صحراء عين شمس اشتراها بالتقسيط، ومسكنه المتواضع(10).

ثم إن الشيخ رحمه الله كان حريصاً على أن يكون الإصلاح تدريجياً وبالتشاور مع كبار علماء الأزهر، وليس مفروضاً بسيف القانون المؤيد من الإنجليز، وإن كان يملك ذلك.

وبرهان ذلك: أنه لما تولى الشيخ سليم البشري مشيخة الأزهر، حرَص على تعطيل قرارات مجلس إصلاح الأزهر الذي يرأسه الشيخ، فكان الشيخ يصبر على ذلك، وقال مرة: (إن الشيخ سليماً مسكين، لا يعلم أن مادة كذا من قانون العقوبات تقتضي بمحاكمة كل رئيس مصلحة رسمية يمتنع من تنفيذ ما يتقرر من أحكامها محاكمة جنائية، ولو أنني بلغت النائب العمومي بأن مجلس الإدارة قرر كذا، وامتنع شيخ الأزهر من تنفيذ هذه القرارات، فإنه لا يسعه إلا أن يدعوه للتحقيق في محكمة الجنايات، ولكنني إنما أريد أن يكون إصلاح الأزهر برأي شيوخه واقتناعهم لا بسلطة الحكومة) ثم قال: (وأنا ما دمتُ في هذا المكان لا أدع للحكومة مجالاً للتدخل في شؤونه –أي الازهر- لأنها حكومة واقعة تحت سلطة أجنبية) (11). 

ولما بلغت دسائسُ الخديوي وشيخ الأزهر لكرومر بفعل جواسيسه، أرسل يريد زيارة الشيخ للعمل معه على عزل شيخ الأزهر، فعزم الشيخ – كما أخبر بذلك تلميذه رشيداً- أن يقول لكرومر أحسن ما يعلم، ويسكت عن شر ما يعلم، ولا يقول إلا حقا، ولا يدع منفذاً لنفوذ الأجنبي أن يتسرب إلى هذا المعهد الديني(12).

تقلد المناصب عند الكفار لا يخالف الشريعة بذاته

الحقيقة الرابعة: أن من أصول الشريعة الحكيمة: تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وكان الإصلاح تحت حكم الانجليز، وتولي المناصب لديهم بما يخدم المسلمين؛ أولى من تركه.

ولا تحسبنّ أني جئت بنكر من القول، أوبدعٍ من الأمر، فإن هذا ما جرى عليه عمل المسلمين الذين اجتاحهم الكفار، كمثل عطاءِ المُلك الجويني وابن الفُوَطي الحنبلي والعضد الإيجي، الذين تولَّوا مناصب عند التتار، ولم نسمع أحداً كفّرهم وأخرجهم من الملة.

وبذلك أفتى سلطان العلماء العز بن عبد السلام ، حيث قال: (ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة فالذي يظهر إنفاذُ ذلك كله جلباً للمصالح العامة، ودرءًا للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات كمالٍ فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهلٌ لها، وفي ذلك احتمالٌ بعيد) (13).

وإنه من المعلوم أن الله يؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بعمّه أبي طالب في دفع أذى قريش، وحضّ أصحابه على اللجوء إلى النجاشي وهو كافر، وتحالف بعد صلح الحديبية مع خزاعة وهي كافرة وكانت عيبة نصح له.

وقد أفتى الشيخ محمد عبده بجواز الاستعانة بالكفار وأهل الأهواء والبدع في مصالح المسلمين إذا لم تشتمل على معنى الإذلال والولاية المنهي عنها، وأن الذي يكفّرون المسلمين بذلك أولى بالتكفير إذا اعتقدوا كفر فاعلها لما سلف من الأدلة(14).

ومنه يتبيَّن أن الموالاة المحرمة هي الموالاة للكفار في دينهم وباطلهم، وليست مما فعله الشيخ رحمه الله وحاشاه من ذلك بسبيل.

فأين ذلك مما زعمه فهد الرومي في كتابه (منهج المدرسة العقلية في التفسير) (15) من أن الشيخ محمد عبده كان يرشد الإنجليز إلى (ما يوطّد دعائم احتلالهم)! لأنه نصح اللورد كرومر بعدم إلغاء النيابة العامة، لما في ذلك من عجز القضاة عن القيام بعمل النيابة، وكأنّ ترك البلاد كلأً مباحاً للمجرمين وقطاعي الطريق يمهّد لتحرير البلاد من الاحتلال، مع العلم أنه لم تكن هناك مقاومة مسلحة للاحتلال في البلاد!!

وقد كان الشيخ رحمه الله يُتهم في حياته بمماشاة المحتلين ومواثقة اللورد كرومر، فكان يصبر على ذلك، ويبثّ شجاه إلى الأمير شكيب أرسلان، وممَّا قاله له في هذا الصَّدد: (الأحوال هي مما يتعاظم له الألم، ويعجز عن وصفه القلم)، وعقب على ذلك أمير البيان بقوله: (فكنت أعلم أنه ما أراد إلا تخفيف الداء، وتقريب أجل البلاء، وتمهيد طريق الجلاء) (16).

هذا أهم ما أحببت التعرض إليه، والكلام في هذا الشأن طويل الذيل، وإنني أنصح القراء الكرام بالتثبُّت والتروي في كل ما يُفوّق إلى الشيخ ومدرسته كلها من سهام الأكاذيب والمفتريات، وسؤال أهل الذكر فيما يشكل عليهم من ذلك، فإنني لم أرَ مدرسةً بُهتت بما ليس فيها كهذه المدرسة المباركة عبر الأزمنة والعصور.

------------

(1) انظر: زعماء الاصلاح في العصر الحديث، أحمد أمين، ص288.
(2) تاريخ الأستاذ الإمام، محمد رشيد رضا 1/480
(3) تاريخ الأستاذ الإمام 1/503
(4) تاريخ الأستاذ الإمام 1/497 وعبقري الإصلاح والتعليم، عباس العقاد، ص155
(5) تاريخ الأستاذ الإمام 1/572
(6) تاريخ الاستاذ الإمام 1/577
(7) تاريخ الأستاذ الإمام 1/553، ومن هذا النص المهم يتبين من صاحب المصلحة الحقيقية في إبقاء الأزهر على حاله دون إصلاح.
(8) تاريخ الأستاذ الإمام 1/637
(9) عبقري الإصلاح والتعليم ص154
(10) عبقري الإصلاح والتعليم ص204
(11) تاريخ الأستاذ الإمام 1/494
(12) تاريخ الأستاذ الإمام 1/495
(13) قواعد الأحكام 1/122
(14) تاريخ الأستاذ الإمام 1/636
(15) ص152
(16) حاضر العالم الاسلامي 1/283