الدكتور محمد عادل الهاشمي: كلمات في وداعه ورثائه (3)

نشرت في الحلقة الثانية بعض كلمات أبنائه وأقربائه في رثائه. 

وأتابع في هذه الحلقة الثالثة نشر كلمَتَي الأستاذين الفاضلين: زهير سالم وحسن عبد الحميد جزاهما الله خير الجزاء.

كتب الأخ الأستاذ زهير سالم هذه الكلمات: 

في وداع الراحلين : 

الدكتور محمد عادل الهاشمي في ذمَّة الله ...

مَعْلمٌ على طريق الدعوة

يوم أمس بلغ الكتابُ أجلَه ، ونفذ قضاء الله الذي لا راد له ، وتلقينا النبأ الفاجع بوفاة الأخ الداعية المفكر الأريب الأديب الدكتور محمد عادل الهاشمي رحمه الله تعالى ، وتقبله في عليين .

وإذا كنتَ ممَّن عرف الراحل الحبيب في منزله الجميل في مدينة حلب، ثم أتيح لك أن تتابع الرجل الهمام اللين الذي لا يلين في حله وترحاله بين الجامعات ، معلمًا ومربيًا وناصحًا لأدركت بحق معنى قول القائل : 

وألقت عصاها ، واستقرت بها النوى ...كما قرّ عينا بالإياب المسافر

اللهم اجعل أوبة أخينا أبي النضر إليك أوبة مسافر يقدم على أهله .

اللهم واجعل ملائكة رحمتك وأنسك تستقبله كأجمل ما كان يستقبلنا إذ نطرق به ونحن فتية صغار ، في ساعات الليل والنهار . ولا ينس إذ يودعنا أن يكرر الوصية ( تفضلوا علينا ) تصحيحًا لما شاع على ألسنة أهل حلب ، اللهم إن أخانا وأستاذنا قد وفد عليك فتفضل عليه بفضلك ورحمتك ورضوانك اليوم عليك ..

يفجعنا الموت ، ونحن بنو الموتى ، وفجيعة الموت بالكبار الكبار ممَّن جمع إلى العلم الحكمة واللطف والأنس مثل أبي النضر أشد وأكبر ؛ فما أشد فجيعة الموت ، وهو حق ، حين تنزل في الرجال ، في زمن عزَّ فيه الرجال : 

وإذا أصابتك مصيبة تشْجى لها ..فاذكر مصيبتك بالنبي محمد 

اللهم اجبر كسر قلوبنا ، وعوّض أمتنا وشعبنا وجماعتنا فيمن تفقد من رجالها خيرا .

يختصر الأخ الراحل الداعية المفكر الأديب الإنسان الأنموذجَ العمليَ الواقعي المثالي للأخ المسلم في جماعة الإخوان المسلمين ، التي كان بحق قائدًا من قادتها ، ومَعْلما ومُعلّما لأجيالها . وحين ننعى اليوم بهذه الكلمات الأخ الداعية فإننا نقطع بالرجل الأنموذج الكثير من تخرصات المتخرصين ، وادعاءات المدعين ، نقطع كل التخرصات والادعاءات ليس بالكلمات المنمقة المرصوفة ، وإنما نقطعها بشهادة الواقع التي كان أخونا محمد عادل الهاشمي رحمه الله تعالى أحد النماذج الحية في هذه الجماعة التي قام بحقها . 

لقد تأسَّست جماعة الإخوان المسلمين في سورية على كواهل نخبة متقدمة من رجالات المجتمع السوري جمعها حب الخير ، والدعوة إليه ، وكان الرابط الأول بين أفرادها العلم والتنوير والإحساس بالمسئولية ، والشفقة على أحوال الناس. 

فحين تذكر النخبة السورية التي أخذت على عاتقها أمر تأسيس هذه الجماعة المباركة فسوف يقترن في سياق واحد رجال كرام منهم : الدكتور مصطفى السباعي، والدكتور محمد المبارك، والأستاذ عصام العطار ، والشيخ محمد الحامد، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، ثم الدكتور حسن هويدي، والأخ الأستاذ أمين يكن، والدكتور محمد علي الهاشمي، والدكتور محمد عادل الهاشمي الذي نكتب هذه الكلمة وفاء لذكراه ..نخبة كريمة متميزة يعترف كل من عرفها بفضلها حتى لتنشد : 

قوم كرام السجايا حيثما جلسوا ..يبقى المكان على آثارهم عطرا

وكان الأخ الراحل رحمه الله تعالى أحد النماذج الحية الشهود لهذه الجماعة المباركة ، بعلمه وفقهه وفكره وسلوكه وأدبه و تعامله مع الناس أجمعين . وما أقلّ من يدرك في هذا الزمان الفرق بين الرجل يكون شاهدًا لقومه والآخر يكون شاهدًا عليهم ؟! ربنا لا تجعلنا فتنة لا لكافر ولا لمؤمن . 

ويبدو أخونا أبو النضر ، رحمه الله تعالى ، لمن قاربه أو خالطه ، قوّامًا من وداعة و لطف ورقة معشر وخفض صوت وقلة كلام حتى إذا دقَّت ساعة الحق وجدَّ الجد ، استشعر كل من حوله أن ذلك الإهاب قد ملئ عزيمة وجلدا وقوة وصبر ومصابرة ودأبا وإحساسا بالمسئولية ..

وكان من أمره رحمه الله تعالى أنه تأخر في خروجه من البلد بعد أن قام نظام البعث الطائفي بالتضييق على كل الرجال الأحرار ، فغادر سورية رجالها أرسالا ، كلٌّ بعد أن شعر أن دائرة الفتنة قد أحاطت به . وأحكم الحصار حول الجماعة – جماعة الإخوان المسلمين -و بالملاحقة الثانية للأخ أمين يكن رحمه الله تعلى غاب أو غيّب الكثيرون حتى قيل : خلت الديار أو كاد..

"خلت الديار " أزمة أو مأساة يفرح بها ويعمل عليه الصغار ، ليقال لواحدهم: خلا لك الجو فبيضي واصفري .. وإنما الكبار الكبار هم الذين يدركون معنى أن يقال : 

خلت الديار ، فسدت غير مسوَّد ...ومن العناء تفردي بالسؤدد

نعم خلت الديار ، ووقع العبء في محافظة حلب على كاهل أخينا أبي النضر رحمه الله تعالى ، ومع إدراكه لحجم العبء ، وطبيعة التحدي ، وأبعاده ، فقد قرر " الرجل " أن يتحمَّل التَّبعة ، فثبت رحمه الله تعالى ، على ثغرته ، يقوم على أمر إخوانه رعاية وإرشادا ومتابعة ، حتى ضيقت عليه العين الحمراء ، فغادر بيته مكان إقامته وسكنه ، وتوارى عن أنظار الظالمين شهورا طوالا ، يتحمل مسئولياته الدعوية كاملة ، يطوف على إخوانه مثبتا وملهما ومشجعا . يغشاهم في مجالسهم على ما هو في من ملاحقة ومتابعة ،يدخل على إخوانه مرة بزي رجل من أهل الريف فلا يكادون يتبينونه ، وأخرى في زي عامل ببدلة زرقاء ملطخة بغبار المهنة ..

وظل الرجل اللطيف الوديع قائمًا على ثغرته ، يغدو ويروح ، حتى اطمئن أنه ترك الأمانة بيد جيل آخر من الرجال . وقيل قد ضاق الخناق فلم يعد إلى البقاء سبيل. 

ولو يعلم الطغاة أي جناية يجنونها على أنفسهم وعلى من حولهم بمطاردة جيل القادة من العلماء والحكماء ، لعضوا أصابع الندم ..

أُخرج الأخ ( أبو النضر ) من وطنه ، ولكن وطنه لم يخرج منه . وقضية دعوته وأمته ظلت همه الأول . يحمل المسئولية ويؤديها بالكلمة المرشدة .

كان رحمه الله تعالى من السابقين إلى طرح عنوان ( الأدب الإسلامي ) . وكان فهم الرجل الأديب الأريب للأدب الإسلامي أنه الأدب الذي يعبِّر عن الكون والحياة والإنسان برؤية متَّسقة مع التصور الإسلامي الأصيل ، وليس كما حاول أن يختزله البعض في شعر المواعظ والمآثر..

رحم الله أخانا أبا النضر، وأحسن نزله ، وغفر ذنبه ، وعوض المسلمين والسوريين في مصيبتهم خيرًا ..

وعزاؤنا إلى أسرة أخينا الحبيب ؛ أنجاله وبناته وعموم آل الهاشمي الكرام. وإنا لله وإنا إليه راجعون ..

لندن : 10 شعبان / 1439 – 26 / نيسان / 2018 

زهير سالم : مدير مركز الشرق العربي

وكتب الشيخ حسن عبد الحميد

أفل قمر الجنوب

كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر 

فليس لعين لم يفض ماؤها عذر 

لما سمعت النبأ هزّ مشاعري، وأسال دمعي ، ومرّ بالذهن بيتان شعريان :

أمر ُّعلى الديار ديار سلمى 

أقبل ذا الجدار وذا الجدارا 

وما حب الديار شغفن قلبي 

ولكن حب من سكن الديارا 

الديار هي مدينة أبها عروس السعودية، أجمل بلاد الدنيا مناخا وجمالا ، وزادها جمالا وروعة ساكنها الأديب الأريب الحبيب محمد عادل الهاشمي الذي توفاه الله أمس .

هو أستاذ الأدب الإسلامي في جامعة أبها، صاحب رسالة : ( الإنسان في الأدب الإسلامي ). 

الطريق من نجران إلى أبها متعب وشاق ، لكن لقاءك بالحبيب ينسيك التعب ، وجه بشوش ولسان يكثر من كلمة أهلا أهلا مما ينسيك تعب الطريق ووعثاء السفر ، لطيف المعشر .

رجل من رجال الرعيل الأول أعظم ما قرأت له كتابه العظيم ( مصطفى السباعي : رائد أمة وقائد دعوة ) وكتابه ( الإنسان في الأدب الإسلامي )، و (في الأدب الإسلامي تجارب ومواقف) .

كلما زرت أبها أنهل من أدب عادل رحمه الله، وكرمه وحسن ضيافته ، رئيس قسم الأدب في جامعة أبها، ويعدّ رحمه الله من رواد وبناة الأدب الإسلامي في العالم الإسلامي الذي كان يقود ركبه أبو الحسن الندوي، وحمل الراية بعده الأديب عبد القدوس أبو صالح حفظه الله ، وله ولإخوانه رواد الأدب الإسلامي أحر التعازي وأبلغ الرثاء ، وآمل أن تصدر مجلة الأدب الإسلامي عددا خاصا عن الذي حمل الراية في بدء المسيرة الأدبية محمد عادل الهاشمي رحمه الله .

زارني في نجران عدة مرات ، طابت مجالسنا بوجوده ، وتعطَّرت أنفاسنا بلقائه حياه الله ، إنه رجل دعوة يدعو لها بلسانه وقلمه ، سئل الإمام علي رضي الله عنه عن أطيب الطيبات فقال : إكرام الضيف وضرب الأعداء بالسيف ، وقد تحقق لنا البند الأول في أروع صوره وأرجو أن يتحقق الثاني بأن نرى الأعداء صرعى ويومئذ يفرح المؤمنين بنصر الله 

سلام عليك أيها الحبيب يامن حققت هدي النبي صلى الله عليه وسلم بإكرام الدعاة ، لقد غرست حب الإسلام وهدي المصطفى عليه السلام في نفوس الآلاف من طلابك 

عليك سلام الله وقفا فإني رأيت الكريم الحر ليس له عُمر 

أهلا بك في ضيافة الرحمن ، يا صاحب كلمة أهلا أهلا ، أهلا بالضيوف 

هو من حلب الشهباء بلد الجهاد والبطولات فتحها سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أخوه الدكتور المجاهد الأديب محمد علي الهاشمي رحمه الله ، وهما علي وعادل فرسان رهبان في الدعوة إلى الله 

حقا وصدقا لقد :

ذاد عن مقلتي لذيذ المنام =شغلها عنه بالدموع السجام 

كان رحمه الله مشعل الهداية للشباب الظامئ لفهم الدين والجهاد في سبيل الله ، كان يسمع الأنباء عن دمار وطن كثر الحنين إليه ، كانت حلب تملأ ناظريه ، كان صوت الوطن الذي حرم منه يرن في أذنيه ، مات الأديب الأريب ولم ير قلعة حلب الشامخة ولا مآذنها العالية 

رأيته في الحرم المكي عند الكعبة المشرفة فكان حديثه حديث حنين لوطن الذكريات ، يتناثر الشعر الرطب والحب العذب لوطن هُجر منه قسرا ، فعرفته الجزائر واليمن والإمارات والسعودية رحمه الله 

رحمك مولاك أبا النضر واللقاء إن شاء الله عند الحوض المورود ، يظلنا اللواء المعقود قرب سيد الوجود عليه السلام .

لقد قرنت اسمك باسمه عليه الصلاة والسلام فكان اسمك أيها الحبيب محمد عادل وهو عليه السلام إمام العدل في الدنيا رفع مشعله وأنار به السبل.

رحمك الله أيها الحبيب فقد حملت في أبها مشعل الهداية الربَّانية وأرويته قلوبًا ظامئة للهدى والنور 

رحمك الله وحيّاك وبيّاك من داعية، الله غايتك ، ومحمد قدوتك ، والقرآن دستورك، والجهاد سبيلك، والموت في سبيل الله أسمى أمانيك. 

إنَّ حلب تبكيك والصالحون فيها يدعون لك ، أيها القائد الحبيب لقد اقترب الفجر وانشق عموده .

وعلى مثلك يا أبا النضر فلتبك البواكي. 

نمْ قرير العين أيها الرائد فاللواء سيظل عاليا ، وستظل كلمة: الله أكبر يصرخ بها تلامذتك في كل الجبهات .

رابطة الأدب الإسلامي ، الأخوة آل الهاشمي، أسرة الفقيد ، الأخ نضر الهاشمي وإخوته : أعظم الله أجركم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

الحلقة الثانية هنا