حِكمة موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفته اليهود في صيام عاشوراء

نص الاستشارة :

 

 

ما الحِكمةُ من موافقة النبي صلى الله عليه وسلم ومخالفته اليهود في صيام عاشوراء؟

الاجابة

أولا : حكمة الموافقة فى صيامه  صلى الله عليه وسلم للعاشر من المحرم مراعاة لحقوق الأخوة بينه وبين موسي عليه السلام فى الصحيح : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ، فَسُئِلُوا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا اليَوْمُ الَّذِي أَظْفَرَ اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَبَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى فِرْعَوْنَ، وَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «نَحْنُ أَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ، ثُمَّ أَمَرَ بِصَوْمِهِ»[1] ، ومراعاته صلى الله عليه وسلم لحقوق الأخوة النبوية هنا لها أخوات منها، يوم أن أمكنه الله تعالى من عفريت ليلا وأراد أن يربطه بعمود من أعمدة المسجد فتذكر دعوة أخيه سليمان عليه السلام "رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ"[2] فلهذا أطلق سراحه ، فى الصحيح أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ فَصَلَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهُوَ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ، فَالْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: " لَوْ رَأَيْتُمُونِي وَإِبْلِيسَ، فَأَهْوَيْتُ بِيَدِي، فَمَا زِلْتُ أَخْنُقُهُ حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ لُعَابِهِ بَيْنَ إِصْبَعَيَّ هَاتَيْنِ - الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - وَلَوْلَا دَعْوَةُ أَخِي سُلَيْمَانَ، لَأَصْبَحَ مَرْبُوطًا بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، يَتَلَاعَبُ بِهِ صِبْيَانُ الْمَدِينَةِ"[3] من هذين النموذجين يتعلم المسلم فى حياته مراعاة حقوق أخوة الإيمان - ومنها شكر الله على نعمه على أخيك وإن تباعد بينكما الزمان والمكان والفضل ، ومراعاة الخصوصية وعدم تمنى ما فضل الله به بعضكم على بعض - فكم بين محمد وموسي وسليمان عليهم الصلاة والسلام من الزمان والمكان والدرجات ، وهو درس بليغ ، من معلم البشرية الأول الذي بُعث ليتمم مكارم الأخلاق ، ولهذا يشكر المسلم ربه صباح مساء على نعمه عليه وعلى إخوانه" فى الحديث: «مَنْ قال حين يُصبحُ: اللَّهمَّ ما أصبحَ بي من نعْمَةٍ، أو بأحدٍ من خَلْقِكَ، فَإِنَّها مِنْكَ وحدَكَ، لا شَريكَ لَكَ، لَكَ الحمدُ، ولك الشُّكْرُ، فقد أدَّى شُكْرَ يَوْمِهِ، وَمَنْ قال مِثلَ ذلك حين يُمسْي، فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ»[4]

ثانيا : صورة مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فى صيام عاشوراء بصيام اليومين قبله وبعده مع العاشر أو أحد اليومين معه ؛  قصد النبي صلى الله عليه وسلم مخالفة اليهود والمشركين وغيرهم قصداً ودليله: (خالفوا المشركين)[5]لأسباب كثيرة، وحكم عظيمة منها :

1-حتى لا تكون الموافقة الدائمة مدخلاً لإثارة اليهود - وغيرهم - الشبهات، فإنهم قد يقولون: إن المسلمين إنما فعلوا ذلك موافقة لنا، ومتابعة لنا، وليس عندهم شيء، وما جاءوا به إنما هو من آثار ديننا وكتابنا، بلبلةً للعقول والأفكار، وترويجا للشبهات، فذلك ديدنهم، كما حدث فى تحويل القبلة فقد استقبل النبي صلى الله عليه وسلم بيت المقدسستة عشر أو سبعة عشر شهرا ، ثم تحول إلى الكعبة  فاتخذ اليهود هذا التحوُّل ذريعة للتشويش على المسلمين، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم ، فأذاعوا أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك على حساب عقيدته ، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا، فكيف استباح لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند الله، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين ، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عنده وعمله، فله أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء.! بمثل هذه التخرصات قابل اليهود المسلمين وألقوا على ألسنة المنافقين ومن فى قلوبهم مرض حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح، ولهذا أمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام! فتولى  الله عز وجل الرد عليهم بأن ذلك كان عن أمره وحكمه، واختباره لصدق الأتباع فى الاتِّباع وجعل ذلك سبيلا للتميز والتفرد لأمة الإسلام. "سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"[6]  وأن صلاتهم إلى بيت  المقدس لن تضيع " ..وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ"[7]

2- منها : منع تسرب الأثر السيئ للموافقة؛ لأن طبيعة النفوس إذا وافقت في أمر وآخر وثالث فإنها تميل بعد ذلك إلى موافقة عامة فقطع النبي صلى الله عليه وسلم دابر ذلك ، فكانت الدعوة إلى المخالفة بصيام اليومين قبله وبعده - أو أحدهما - معه ، ولهذه المخالفة نظائر كثيرة لمن تأمل وتدبر ، فى الصحيح: («خَالِفُوا الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ فِي نِعَالِهِمْ، وَلَا خِفَافِهِمْ)[8]..وعند مسلم (خالفوا المجوس، أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى)، فقصد المخالفة لبيان التميز والتفرد ، وفى الآذان :" كَانَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ يَجْتَمِعُونَ فَيَتَحَيَّنُونَ الصَّلَوَاتِ، وَلَيْسَ يُنَادِي بِهَا أَحَدٌ، فَتَكَلَّمُوا يَوْمًا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: اتَّخِذُوا نَاقُوسًا مِثْلَ نَاقُوسِ النَّصَارَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَرْنًا مِثْلَ قَرْنِ الْيَهُودِ، فَقَالَ عُمَرُ أَوَلَا تَبْعَثُونَ رَجُلًا يُنَادِي بِالصَّلَاةِ؟ قَالَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم: «يَا بِلَالُ قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ»[9] ومن ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[10] نهى الله تعالى المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، لأن اليهود كانوا إذا أرادوا أن يقولوا: اسمع لنا يقولون لرسول اللهصلى الله عليه وسلم: راعنا، يُورُّون بالرعونة، فيقولون: راعنا، ويقصدون الرعونة والطيش والخفة، يتنقصون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستهزئون به، ويُحرِّفون الكلم عن مواضعه، ويلوون ألسنتهم بذلك طعناً في الدين، فنهى الله عز وجل المسلمين عن ذلك ، فلم تبدل كلمة مكان كلمة فقط. ومن أراد المزيد فليطالع كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم

3- منها كذلك: بيان زيادة الفضل والمثوبة والأجر لأمة الإسلام بزيادة العمل الصالح ، فهذا العمل الصالح تتحقق فيه أكثر من نية صالحة فضلا عن الاقتداء والتأسي بالمصطفى صلى الله عليه وسلم ، شكرا لله تعالى على إغراق عدو الله ، فما يُصيب العدو من مضرَّة يُدخل على القلب المسرَّة ، ونجاة نبيه موسي عليه السلام ، وكفارة لذنوبنا ، أضف إلى ذلك التباعد عن النار سبعين خريفا. أو مائة عام ، أو كما بين السماء والأرض ودلائل ذلك فى الصحيح،  وسائر فضائل ومنافع الصيام. هذا وبالله التوفيق ومنه وحده العصمة من الزلل والخطأ والخلل فى القول والعمل.

 

 


[1]  صحيح البخاري كتاب مناقب الأنصار بَابُ إِتْيَانِ اليَهُودِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ قَدِمَ المَدِينَةَ

[2] ص: 35

[3] مسند الإمام أحمد بن حنبل

[4] سنن أبى داود في الأدب، باب ما يقول إذا أصبح

[5] صحيح البخاري كِتَابُ اللِّبَاسِ بَابُ تَقْلِيمِ الأَظْفَارِ أخرجه مسلم في الطهارة باب خصال الفطرة

[6] البقرة :(142)

[7] البقرة : (143)

[8] صحيح سنن أبى داود كِتَاب الصَّلَاةِ بَابُ الصَّلَاةِ فِي النَّعْلِ حديث رقم ( 652)

[9] صحيح البخاري كِتَابُ الأَذَانِ بَابُ بَدْءِ الأَذَانِمسلم في الصلاة باب بدء الأذان

[10] [البقرة:104]


التعليقات