فتوى حول صلاة التراويح

نص الاستشارة :

ورد إلى لجنة الفتوى بالمجلس الإسلامي السوري السؤال الآتي : مع قدوم شهر رمضان في كل سنة يحدث خلاف في بعض المساجد بين المصلين على صلاة التراويح وبرزت ظاهرة في السنوات الماضية وبخاصة في المناطق المحررة بظهور فئة من الناس تفرض عدداً معيناً لركعات التراويح وأحياناً بالقوة والتهديد وترمي المخالفين بالابتداع والخطأ مما أحدث بلبلة في الصفوف وانقساماً في الرأي، فما القول الصحيح في هذه المسألة أفتونا مأجورين جزاكم الله خيراً.

الاجابة

الحمد لله رب العالمين شرع لنا ديناً قويماً وهدانا صراطاً مستقيماً وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة ، والصلاة والسلام على من بعثه الله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وبعد:

· فإن صلاة التراويح بحقيقتها هي (صلاة قيام رمضان) والتي جاءت بالحث عليها الأحاديث الصحيحة ومنها حديث الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال عليه الصلاة والسلام :" من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه" وإنما عرفت بعد ذلك بالتراويح لأنهم كانوا يطيلون القيام فيها ويجلسون بعد كل أربع ركعات للاستراحة، وهي بالاتفاق مثنى مثنى عدا الوتر الذي يقع آخرها فله أشكال عدة كما نقل الفقهاء، والفرق بين القيام والتهجد اصطلاحي فالتهجد صلاة التطوع في الليل بعد الاستيقاظ من النوم (الهجود).

· اتفق الفقهاء على أن صلاة التراويح سنة والجمهور على أنها سنة مؤكدة، واعتبرها بعضهم من أعلام الدين وشعائره الظاهرة، وهي مشروعة بسنته عليه الصلاة والسلام قولاً وفعلاً، فقد ندب إليها كما في حديث الصحيحين المتقدم وصلاها عليه الصلاة والسلام بالناس ثم امتنع عن أدائها في المسجد وبقي يؤديها في بيته وعلل ذلك بخشيته من أن تفرض على الناس فيعجزوا عنها كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، وواظب الناس في عصر الصديق وصدراً من خلافة عمر رضي الله عنهما على أدائها في المساجد لكن لا تنظمهم جماعة واحدة ولا يتقيدون بعدد معين، ثم جمعهم عمر رضي الله عنه بعد مدة من خلافته في جماعة واحدة على أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فأحيا عمر ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم وتركه بعد ذلك خشية الافتراض لعلم عمر رضي الله عنه بزوال المحذور وفعل ذلك على محضر ومرأى من كبار الصحابة وفقهائهم رضي الله عنهم أجمعين بعد أن رأى المصلحة تقتضي ذلك فلم يعترض منهم أحد، بل وافقوه وصوبوا فعله.

· أما بالنسبة لعدد ركعاتها، فلم يثبت عدد معين عن النبي عليه الصلاة والسلام فيها، وهذا ما نص عليه الفقهاء من جميع المذاهب وأئمة الاجتهاد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج22/272) ما نصه : (ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقّت عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزاد فيه ولا ينقص منه فقد أخطأ)، وأما ما نقل عنه عليه الصلاة والسلام (أنه ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة) فللفقهاء أقوال في ذلك فبعضهم حمل ذلك على صلاة الوتر وبعضهم على التراويح والوتر، والخلاف معروف في ذلك، وأكثر الرواة والفقهاء نقلوا أيضاً أن عمر رضي الله عنه لما جمعهم على أبيّ رضي الله عنه كان يصلي بهم ثلاثاً وعشرين ، يقوم بعشرين ويوتر بثلاث، وبقي عليه العمل في زمن الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وبقي إلى زماننا هذا والواقع يشهد له في كثير من مساجد المسلمين وكبارها كالحرمين الشريفين، وإن كان بعض الحنابلة كما قال البهوتي في كشاف القناع شرح متن الإقناع قد قال : (وهذا في مظنة الشهرة بحضرة الصحابة فكان إجماعاً) وإن كنا نرى أنه من سنة الخلفاء الراشدين وليس إجماعاً، والخلاف والترجيح في تعدادها مشتهر عند أئمة الفقه من قبيل الأفضلية لا المشروعية، فالجمهور من أئمة فقهاء المذاهب على أنها عشرون والمالكية نقل عنهم ست وثلاثون وغير ذلك، وتمسك كثير من الفقهاء المتقدمين والمتأخرين بالثمان، ونقل عن بعض السلف غير ذلك

· ولقد حقق هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (ج22/272) فقال ما نصه : (كما أن نفس قيام رمضان لم يوقت النبي صلى الله عليه وسلم فيه عدداً معيناً ، بل كان هو عليه الصلاة والسلام لا يزيد في رمضان ولا غيره على ثلاث عشرة ركعة، لكن كان يطيل الركعات، فلما جمعهم عمر على ابيّ بن كعب كان يصلي بهم عشرين ركعة ويوتر بثلاث، وكان يخفف القراءة بقدر ما زاد من الركعات، لأن ذلك أخف على المؤمنين من تطويل الركعة الواحدة، ثم كان طائفة من السلف يقومون بأربعين ركعة ويوترون بثلاث، وآخرون قاموا بست وثلاثين، وهذا كله سائغ، فكيفما قام في رمضان من هذه الوجوه فقد أحسن، والأفضل يختلف بأحوال المصلين؛ فإن كان فيهم احتمال لطول القيام فالقيام بعشر ركعات وثلاث بعدها، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي لنفسه في رمضان وغيره وهو الأفضل، وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل، وهو الذي يعمل به أكثر المسلمين، فإنه وسط بين العشر والأربعين، وإن قام بأربعين وغيرها جاز ولا يكره شيء من ذلك، وقد نص على ذلك غير واحد من أئمة المسلمين كأحمد وغيره) وهذا كلام أكثر الفقهاء والمحققين

· نخلص من هذا أن المدار في هذه المسألة كما بيّنا على الأفضلية التي يراعى فيها حال المأمومين، ويراعى فيها الاتفاق والائتلاف، وهذا باب عظيم من أبواب مقاصد الشريعة، بل لو أدى الأمر إلى ترك ما يراه الإمام مستحباً في مذهبه إلى قول آخر بغية الاتفاق والائتلاف وعدم الاختلاف لكان تركه أولى، وهذا ما نص عليه ابن تيمية رحمه الله في معرض حديثه عن كيفية صلاة الوتر في مجموع الفتاوى (22/268) فقال : (ولو كان الإمام يرى استحباب شيء والمأمومون لا يستحبونه فتركه لأجل الاتفاق والائتلاف كان قد أحسن، مثال ذلك الوتر فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال) وما يعيشه المسلمون وبخاصة في سورية ينطبق عليهم تماماً هذه المصالح في الظروف الاستثنائية التي يعيشونها، فتقدر المصلحة بحسب الزمان والمكان والحال، وبعد ذلك يختارون الأصلح لهم من هذه الأوجه، ولا يعيب بعضهم بعضاً ويصلي المرء بعد ذلك ما شاء، فإن صلى الإمام عشرين فلمن أراد أن يصلي ثمانياُ أو أكثر ما يريد فيصلي ما يشاء ويخرج وليس له أن يخطئ أو يبدع أو يفسق، والعكس بالعكس لو صلى الإمام ثمانياً فللمسلم أن يكمل ما يشاء في بيته حرصاً على الجماعة وقد يكون هو الأفضل لقول عمر: (والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون) يريد آخر الليل، فقد كان الناس يقومون أوله، وإذا كان هذا الخلاف بين المسلمين سيؤدي إلى التنازع والتخاصم والتنابذ كما حصل في أماكن شتى من قبل فترك صلاة التراويح أفضل وليصلها كل إنسان كما يشاء في بيته، لأن اجتماع الكلمة ودرء مفسدة الخصومة والتنازع أولى من مصلحة صلاة مسنونة، نسأل الله أن يفقهنا في الدين وأن يجعلنا مفاتيح خير ومغاليق شر والحمد لله رب العالمين.


التعليقات