هل هناك فرق بين الإرادة الربانية والقضاء والقدر؟ وهل يصح قول بعضهم: الله لايريد ولا يحب ؟

نص الاستشارة :

نقل بعضهم عن الكواكبي الحلبي هذه العبارة: " فناء دولة الاستبداد لا يصيب المستبدين وحدهم، بل يشمل الدمار الأرض والناس والديار، لأن دولة الاستبداد في مراحلها الأخيرة تضرب ضرب عشواء، كثور هائج أو مثل فيل في مصنع فخار، وتحطم نفسها وبلدها وأهلها قبل أن تستسلم للزوال، وكأنما يستحق على الناس أن يدفعوا في النهاية ثمن سكوتهم الطويل على الظلم وقبولهم القهر والذل والاستعباد، وعدم تأملهم في معنى الآية الكريمة : (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب).

فعلق الأخ بلال البيانوني على هذه الكلمة :

الثورة قامت بإرادة ربانية.. وأصبحت واقعاً يجب علينا أن نحسن التعامل معه.. والله أعلم. وجزاكم الله خيرا

فرد عليه فضيلة الشيخ أبي الفتح البيانوني: "هناك فرق كبير بين اﻹرادة الربانية والمشيئة اﻹلهية، وبين القضاء والقدر الربانيان، فالله عز وجل يقدر ويقضي بعلمه ما يشاء خيرا أوشرا، ولكنه ﻻ يريد وﻻ يحب لعباده الشر.. فلا يجوز تبرير اﻷخطاء البشرية باﻹرادة والمشيئة الربانية!!! ومن هنا: جاء إنكار الله عز وجل على مقولة المشركين: (وقالوا لوشاء الرحمن ما عبدناهم، مالهم بذلك من علم ، إن هم إﻻ يخرصون) وقال:( وﻻ يرضى لعباده الكفر)، فلندقق في كلامنا عن الله جل جلاله".

الاجابة

وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان عن الاعتراض المذكور، أورده مع بعض الشرح والتفصيل بين معقوفين تفضل بهما الأخ د. حمزة البكري  :

لو حُدِّدَ الانتقاد بما يلي :

-  فرَّق بين الإرادة الربّانية والقضاء والقدر!

 - يقدر بعلمه ، ولا يريد ، ولا يحب !

-  لايجوز تبرير الخطأ البشري بالإرادة !

-  ساق الآية : " وقالوا لوشاء الرحمن .." على أنه سبحانه " لا يريد الشر "

وساق الآية الثانية :" وﻻ يرضى " دليلا على أنه " لا يحب ولا يرضى !

إذا صحَّ هذا الفهم لكلام المنتقد فنقول :

1ـ قرر العلماء أن القضاء والقدر عقيدة ترجع إلى صفات الله: العلم والإرادة والقدرة، وقالوا في هذا: "القضاء والقدر عقيدة جزئية، تندرج في صفات العلم والإرادة والقدرة"، وقد بيّنوا أن العلم ليس من صفات التأثير، فهو صفة انكشاف، وأن الإرادة صفة تخصيص، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق "العلم".

وكلٌّ من الانكشاف والتخصيص أزليان، والترتيب بينهما "عقلي" وليس وجودياً!

والقدرة من صفات التأثير يتأتى بها إيجادُ كلِّ ممكن وإعدامُه، على وَفق الإرادة. وتتعلق القدرة بالممكن تعلقاً تنجيزياً حادثاً.

[يعني: المُمكِنُ " هو ما " يجوز عليه الوجودُ والعدمُ على حدٍّ سواء، فالذي يُعيِّنُ أحدهما هو صفةُ الإرادة، وكذا تعيينُ الزمان الذي يوجد فيه من بين الأزمنة المتعدِّدة، وتعيينُ المكان من بين الأمكنة، إلى غير ذلك " من الممكنات المتقابلات ". فالإرادةُ صفةُ تخصيص، وهذا التخصيص يجري بحسب علمه تعالى ، فيعلمُ الله تعالى أزلاً أنّ زيداً مثلاً سيتزوج سنة 1435هـ مثلاً، وإذا أراد الله أن يهبَ له ولداً، فزمانُ هذا الولد سيكونُ أواخر سنة 1435 فما بعدها، ولن يكون قبل ذلك،" لأن الإرادة قد خصصت كل ما يتعلق بزيد زمانا ومكانا وهيئة و... فتخصيصُ الولد بهذا الزمان المُعيَّن ، أو بواحد من هذه المتقابلات يكونُ  بإرادة الله " على وفق ما تعلق به علمه ".

لكن تقدُّم العلم على الإرادة على الوجه المُبيَّن آنفاً أمرٌ عقليّ، يُدرَك في الأذهان، ولا وجودَ له في الخارج، لأنّ تعلق كل من الإرادة " تخصيصا" والعلم " انكشافا " أزلي ، ولا سبق لإحداهما على الأخرى بهذه المثابة !

هذا الترتيب بين العلم والإرادة، أما الترتيبُ بين الإرادة والقدرة، فتخصيص الإرادة أزلي ، وأما القدرة فتعلقها تنجيزي حادث ، إذ لو كان ازليا كالإرادة لكان وجود المخلوقات من الأزل ! ففي المثال السابق إيجادُ وَلَدِ زيد يكونُ بقدرة الله في الزمان والمكان اللذَيْن خصَّصَتْهما الإرادة، وعلى الجهة والمقدار اللذَيْن عيَّنَتْهما الإرادة، ونحو ذلك.]

2ـ ممَّا تقدّم لا يكون هناك فرق بين صفات العلم والإرادة والقدرة ، وبين القضاء والقدر، إذ عنوان القضاء والقدر يندرج فيه الصفات الثلاث !

[يعني: أن معنى قولنا: قضى الله كذا، أو قدَّر كذا، أو هذا قضاء الله، أو هذا قَدَرُ الله، ونحو هذه العبارات، معناها: أن الله عَلِمَ ذلك الشيء وأراده" أزلا " وأوجده فيما لا يزال، أي: أحاط به علما، وخصَّص له زماناً ومكاناً ومقداراً وكيفيةً وأحوالاً ...، وأوجَدَه على وَفْق ما أراد.]

3ـ ليس صوابا أن نقول: " يقدر بعلمه ، ولا يريد" ومن يقول ذلك لا يدري : ما القضاء والقدر !!

[لأن قول القائل: "يقدر بعلمه ، ولا يريد" معناه: أن القدرة تنجز بحسب العلم دون توسُّط الإرادة، وهذا غلط ظاهر، فالله تعالى يعلمُ ما كان وما يكون وما هو كائن وما ليس بكائن، فلو قلنا: يقدر بعلمه، والقدرة صفةُ إيجاد وإعدام، فهذا يعني: أنه سيوجد ثم يُعدِم هذا الأشياء جميعاً، ومنها: ما ليس بكائن، وهو ليس بكائن، فكيفَ  سيوجد؟! ومعنى ذلك أيضا أنه يُوجد ما لا يريد ! وأن ما يوجد لا يريده الله ، علما أن تخصيص الممكن بالوجود دون العدم سابق على الإيجاد ،والتخصيص من شأن " الإرادة " وإلا كيف يكون الممكن في ساحة الوجود بكل ما يتصور في حقه ن وما يتصور في حقه متعارض ، إذ يقبل ان يكون طويلا وقصيرا ، وفي الزمن الفلاني والزمن الفلاني ، فكل الصور الممكنة في حقه يقبلها قبولا ذاتيا ! وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله- تعالى - (في أي صورة ما " شاء " ركبك )

4ـ من الصواب القول: " يقدر ولا يحب "؛ إذ إن المحبة والرضا يرجعان لِـمَا شرع الله، وما شرع الله من الأوامر والنواهي شرعه للمكلفين الذين أعطوا الاختيار، وعلى هذا يمكن للمكلف أن يطيع الله بما أمر به ونهى عنه ، فيكون ممن يحبه الله، ويمكن أن يعصي فلا يحبه !

وهذا كله يندرج في الأمر الشرعي الذي يمكن للمكلف باختياره السوء أن يناكفه !

أما الأمر الكوني ، الذي يُظهِرُ الإرادة الكونية، فهيهات لمخلوق أن يتمكن من "ردِّه"، فأمرُه تعالى الكوني نافذ في الوجود ، وبنو إسرائيل ناكفوا النهي عن الاصطياد يوم السبت واحتالوا

عليه ، ولما جاء الأمر الكوني (كونوا قردة)، فهل بقي واحد ممن تلقوا هذا الأمر خارج "المسخ الحسيّ"؟

[يعني: أنّ فَهْمَ الإرادة على معنى التخصيص، وترتيبَ القدرة عليها، يُظهِرُ بكلِّ جلاء ووضوح أنّ المحبة والرضا أمرٌ مُغايرٌ لهما،" فالخلق يرجع إلى الربوبية ، وعموم تعلق العلم والإرادة والقدرة - وهو القضاء والقدر - ، والمحبة والرضا يرجعان للتشريع والأمر والنهي الذي أعطي الإنسان حرية الاختيار فيهما " ومثالُه: المُعلِّم يضعُ اختباراً لطلّابه، ويعلمُ ـ يناءً على معرفته باستِعداداتِهم ومستوياتهم ـ أن بعضَم سينجح وبعضهم سيرسب، ويريدُ أن يحصل الأمران، أعني: نجاح بعض ورسوب بعض، لكنّه لا يُحبُّ الرسوبَ ممن رسب ولا يرضى به، إلا أنه أراده لحكمة، وهي تحقيق العدالة بين الطلبة، ونحو ذلك.]

5ـ المحبة مرتبطة بالطاعة ، لا بالقضاء والقدر إلا من حيث الإجمال !

يعني: عبد أطاع فأحبه الله لطاعته ، فالعبد وجوداً ومدداً وتوفيقاً، وما ترتب على الطاعة، والطاعة نفسها، لم يخرج ذرة من هذه عن كونها من القضاء والقدر، أي: عَلِمَه الله أزلاً، وتعلّقت به إرادته تخصيصاً من الأزل، وتعلقت قدرة الله بذلك إيجاداً وإمداداً فيما لا يزال !

6ـ أما الآية التي ساقها دليلا على أنه لا يشاء أن يُعبَدَ غيره : (وقالوا لوشاء الرحمن ما عبدناهم، مالهم بذلك من علم ، إن هم إﻻ يخرصون)، فلو فرّق بين الدعوى التي ارتكن إليها مَنْ قال: (ما عبدناهم) وما ردّ عليهم في نفس الآية، ولو فرّق بين ما ساقه صواباً حيث قال بعدم تبرير المعصية بالمشيئة ، ولو فرّق بين المشيئة الكونية التي لا يخرج عنها ذرة في الوجود، أقول: لو فعل ذلك لَـمَا وقع فيما وقع فيه :

لا يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر للتنصل من المعصية !

جاء الرد دون أن يصرح بقضية المشيئة نفياً لها ، ولا تعرضاً لها ، وإنما بيّن أن هؤلاء الذين يبنون شِركَهم على المشيئة أنى لهم أن الله شاء ذلك؟ وردّهم للعلم الذين ليس لديهم منه ما يستندون إليه، وكان عليهم أن يلتزموا بأوامر الشريعة التي جاء بها الكتاب ، ويبنوا سلوكهم على أعمال يحبها الله ، وأما ما شاء الله أزلاً فهذا نؤمن به دون أن ندري ما أراده بنا، وإذا ظهر في الوجود علمنا مما ظهر أن الله أراد ذلك ، وهذا من عمق أجوبة كتاب الله المتعلقة بالتصور.

[يعني: أننا لا نعلم ما الذي أراده الله إلا بعد وقوعه،" حتى لو علمنا قبل الوقوع فإن العلم كاشف غير مجبر !!" فالذي يُقدِمُ على المعصية (((ولم يفعلها بعدُ؛)))لم أدر لم هذه الجملة ؟؟؟! ما أدراه أنّ الله أراد له أن يعصي، وأنّ المعصية هي قضاءُ الله وقَدَرُه؟!

ويُقال له أيضاً: لا تفعل هذه المعصية التي هممتَ بها، وليكن تَرْكُك إياها هو ما أراده الله، وهو القضاءُ والقَدَر!

وهذا هو حاصلُ جواب عمر رضي الله عنه لـمّا عَدَلَ في سفره عن دخول بلدة فيها الطاعون، فقيل له: أنفرُّ من قَدَر الله؟ فقال: «نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله». يعني: نحن لم نعرف بعدُ ما الذي قدَّره الله علينا، فدخولنا البلد ـ لو دخلناه ـ سيكونُ هو قضاءَ الله وقَدَرَه، وعَدَمُ دخولنا البلد ـ إذا عَدَلنا عنه ـ سيكونُ هو قضاءَ الله وقَدَرَه.

ولذلك لم يُكذِّب الله تعالى المشركين في قولهم: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، لأنها كلمة حق، لكنْ أُريدَ بها باطل، فعبادتهم لأصنامهم وأوثانهم وسائر معبوداتهم وقعت بمشيئة الله، لأنه لا يجري في ملك الله تعالى إلا ما يشاء، لكنّ احتجاجهم بالمشيئة على الدوام على تلك العبادة هو المُغالطة، فلينتهوا عنها وليدخلوا في دين الله وليقولوا: شاء الله أن لا نعبدهم، وأراد الله أن نؤمنَ به ونُوحِّدَه ونعبدَه.]

وهذه نصوص دون شرح تجلي بعض ما ذكرت ، فلتتدبر !

في صحيح مسلم عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ باللَّهِ ولا تَعْجِزَنَّ ، وإنْ أصابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ : لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ، فإنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ "

عن أنس قال :خدمت النبي صلى الله عليه و سلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لي لشيء لم أفعله، ألا كنت فعلته، ولا لشيء فعلته لم فعلته " صحيح "

وعن أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلا والله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء لم أصنعه ألا صنعته؟ ولا لامني، فإن لامني بعض أهله قال: دعه، وما قدر فهو كائن ، أو ما قضي فهو كائن.

الاجابة

وقد أجاب فضيلة الشيخ عبد الكريم تتان عن الاعتراض المذكور، أورده مع بعض الشرح والتفصيل بين معقوفين تفضل بهما الأخ د. حمزة البكري  :

لو حُدِّدَ الانتقاد بما يلي :

-  فرَّق بين الإرادة الربّانية والقضاء والقدر!

 - يقدر بعلمه ، ولا يريد ، ولا يحب !

-  لايجوز تبرير الخطأ البشري بالإرادة !

-  ساق الآية : " وقالوا لوشاء الرحمن .." على أنه سبحانه " لا يريد الشر "

وساق الآية الثانية :" وﻻ يرضى " دليلا على أنه " لا يحب ولا يرضى !

إذا صحَّ هذا الفهم لكلام المنتقد فنقول :

1ـ قرر العلماء أن القضاء والقدر عقيدة ترجع إلى صفات الله: العلم والإرادة والقدرة، وقالوا في هذا: "القضاء والقدر عقيدة جزئية، تندرج في صفات العلم والإرادة والقدرة"، وقد بيّنوا أن العلم ليس من صفات التأثير، فهو صفة انكشاف، وأن الإرادة صفة تخصيص، تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه على وفق "العلم".

وكلٌّ من الانكشاف والتخصيص أزليان، والترتيب بينهما "عقلي" وليس وجودياً!

والقدرة من صفات التأثير يتأتى بها إيجادُ كلِّ ممكن وإعدامُه، على وَفق الإرادة. وتتعلق القدرة بالممكن تعلقاً تنجيزياً حادثاً.

[يعني: المُمكِنُ " هو ما " يجوز عليه الوجودُ والعدمُ على حدٍّ سواء، فالذي يُعيِّنُ أحدهما هو صفةُ الإرادة، وكذا تعيينُ الزمان الذي يوجد فيه من بين الأزمنة المتعدِّدة، وتعيينُ المكان من بين الأمكنة، إلى غير ذلك " من الممكنات المتقابلات ". فالإرادةُ صفةُ تخصيص، وهذا التخصيص يجري بحسب علمه تعالى ، فيعلمُ الله تعالى أزلاً أنّ زيداً مثلاً سيتزوج سنة 1435هـ مثلاً، وإذا أراد الله أن يهبَ له ولداً، فزمانُ هذا الولد سيكونُ أواخر سنة 1435 فما بعدها، ولن يكون قبل ذلك،" لأن الإرادة قد خصصت كل ما يتعلق بزيد زمانا ومكانا وهيئة و... فتخصيصُ الولد بهذا الزمان المُعيَّن ، أو بواحد من هذه المتقابلات يكونُ  بإرادة الله " على وفق ما تعلق به علمه ".

لكن تقدُّم العلم على الإرادة على الوجه المُبيَّن آنفاً أمرٌ عقليّ، يُدرَك في الأذهان، ولا وجودَ له في الخارج، لأنّ تعلق كل من الإرادة " تخصيصا" والعلم " انكشافا " أزلي ، ولا سبق لإحداهما على الأخرى بهذه المثابة !

هذا الترتيب بين العلم والإرادة، أما الترتيبُ بين الإرادة والقدرة، فتخصيص الإرادة أزلي ، وأما القدرة فتعلقها تنجيزي حادث ، إذ لو كان ازليا كالإرادة لكان وجود المخلوقات من الأزل ! ففي المثال السابق إيجادُ وَلَدِ زيد يكونُ بقدرة الله في الزمان والمكان اللذَيْن خصَّصَتْهما الإرادة، وعلى الجهة والمقدار اللذَيْن عيَّنَتْهما الإرادة، ونحو ذلك.]

2ـ ممَّا تقدّم لا يكون هناك فرق بين صفات العلم والإرادة والقدرة ، وبين القضاء والقدر، إذ عنوان القضاء والقدر يندرج فيه الصفات الثلاث !

[يعني: أن معنى قولنا: قضى الله كذا، أو قدَّر كذا، أو هذا قضاء الله، أو هذا قَدَرُ الله، ونحو هذه العبارات، معناها: أن الله عَلِمَ ذلك الشيء وأراده" أزلا " وأوجده فيما لا يزال، أي: أحاط به علما، وخصَّص له زماناً ومكاناً ومقداراً وكيفيةً وأحوالاً ...، وأوجَدَه على وَفْق ما أراد.]

3ـ ليس صوابا أن نقول: " يقدر بعلمه ، ولا يريد" ومن يقول ذلك لا يدري : ما القضاء والقدر !!

[لأن قول القائل: "يقدر بعلمه ، ولا يريد" معناه: أن القدرة تنجز بحسب العلم دون توسُّط الإرادة، وهذا غلط ظاهر، فالله تعالى يعلمُ ما كان وما يكون وما هو كائن وما ليس بكائن، فلو قلنا: يقدر بعلمه، والقدرة صفةُ إيجاد وإعدام، فهذا يعني: أنه سيوجد ثم يُعدِم هذا الأشياء جميعاً، ومنها: ما ليس بكائن، وهو ليس بكائن، فكيفَ  سيوجد؟! ومعنى ذلك أيضا أنه يُوجد ما لا يريد ! وأن ما يوجد لا يريده الله ، علما أن تخصيص الممكن بالوجود دون العدم سابق على الإيجاد ،والتخصيص من شأن " الإرادة " وإلا كيف يكون الممكن في ساحة الوجود بكل ما يتصور في حقه ن وما يتصور في حقه متعارض ، إذ يقبل ان يكون طويلا وقصيرا ، وفي الزمن الفلاني والزمن الفلاني ، فكل الصور الممكنة في حقه يقبلها قبولا ذاتيا ! وقد أشار القرآن إلى ذلك بقوله- تعالى - (في أي صورة ما " شاء " ركبك )

4ـ من الصواب القول: " يقدر ولا يحب "؛ إذ إن المحبة والرضا يرجعان لِـمَا شرع الله، وما شرع الله من الأوامر والنواهي شرعه للمكلفين الذين أعطوا الاختيار، وعلى هذا يمكن للمكلف أن يطيع الله بما أمر به ونهى عنه ، فيكون ممن يحبه الله، ويمكن أن يعصي فلا يحبه !

وهذا كله يندرج في الأمر الشرعي الذي يمكن للمكلف باختياره السوء أن يناكفه !

أما الأمر الكوني ، الذي يُظهِرُ الإرادة الكونية، فهيهات لمخلوق أن يتمكن من "ردِّه"، فأمرُه تعالى الكوني نافذ في الوجود ، وبنو إسرائيل ناكفوا النهي عن الاصطياد يوم السبت واحتالوا

عليه ، ولما جاء الأمر الكوني (كونوا قردة)، فهل بقي واحد ممن تلقوا هذا الأمر خارج "المسخ الحسيّ"؟

[يعني: أنّ فَهْمَ الإرادة على معنى التخصيص، وترتيبَ القدرة عليها، يُظهِرُ بكلِّ جلاء ووضوح أنّ المحبة والرضا أمرٌ مُغايرٌ لهما،" فالخلق يرجع إلى الربوبية ، وعموم تعلق العلم والإرادة والقدرة - وهو القضاء والقدر - ، والمحبة والرضا يرجعان للتشريع والأمر والنهي الذي أعطي الإنسان حرية الاختيار فيهما " ومثالُه: المُعلِّم يضعُ اختباراً لطلّابه، ويعلمُ ـ يناءً على معرفته باستِعداداتِهم ومستوياتهم ـ أن بعضَم سينجح وبعضهم سيرسب، ويريدُ أن يحصل الأمران، أعني: نجاح بعض ورسوب بعض، لكنّه لا يُحبُّ الرسوبَ ممن رسب ولا يرضى به، إلا أنه أراده لحكمة، وهي تحقيق العدالة بين الطلبة، ونحو ذلك.]

5ـ المحبة مرتبطة بالطاعة ، لا بالقضاء والقدر إلا من حيث الإجمال !

يعني: عبد أطاع فأحبه الله لطاعته ، فالعبد وجوداً ومدداً وتوفيقاً، وما ترتب على الطاعة، والطاعة نفسها، لم يخرج ذرة من هذه عن كونها من القضاء والقدر، أي: عَلِمَه الله أزلاً، وتعلّقت به إرادته تخصيصاً من الأزل، وتعلقت قدرة الله بذلك إيجاداً وإمداداً فيما لا يزال !

6ـ أما الآية التي ساقها دليلا على أنه لا يشاء أن يُعبَدَ غيره : (وقالوا لوشاء الرحمن ما عبدناهم، مالهم بذلك من علم ، إن هم إﻻ يخرصون)، فلو فرّق بين الدعوى التي ارتكن إليها مَنْ قال: (ما عبدناهم) وما ردّ عليهم في نفس الآية، ولو فرّق بين ما ساقه صواباً حيث قال بعدم تبرير المعصية بالمشيئة ، ولو فرّق بين المشيئة الكونية التي لا يخرج عنها ذرة في الوجود، أقول: لو فعل ذلك لَـمَا وقع فيما وقع فيه :

لا يجوز الاحتجاج بالقضاء والقدر للتنصل من المعصية !

جاء الرد دون أن يصرح بقضية المشيئة نفياً لها ، ولا تعرضاً لها ، وإنما بيّن أن هؤلاء الذين يبنون شِركَهم على المشيئة أنى لهم أن الله شاء ذلك؟ وردّهم للعلم الذين ليس لديهم منه ما يستندون إليه، وكان عليهم أن يلتزموا بأوامر الشريعة التي جاء بها الكتاب ، ويبنوا سلوكهم على أعمال يحبها الله ، وأما ما شاء الله أزلاً فهذا نؤمن به دون أن ندري ما أراده بنا، وإذا ظهر في الوجود علمنا مما ظهر أن الله أراد ذلك ، وهذا من عمق أجوبة كتاب الله المتعلقة بالتصور.

[يعني: أننا لا نعلم ما الذي أراده الله إلا بعد وقوعه،" حتى لو علمنا قبل الوقوع فإن العلم كاشف غير مجبر !!" فالذي يُقدِمُ على المعصية (((ولم يفعلها بعدُ؛)))لم أدر لم هذه الجملة ؟؟؟! ما أدراه أنّ الله أراد له أن يعصي، وأنّ المعصية هي قضاءُ الله وقَدَرُه؟!

ويُقال له أيضاً: لا تفعل هذه المعصية التي هممتَ بها، وليكن تَرْكُك إياها هو ما أراده الله، وهو القضاءُ والقَدَر!

وهذا هو حاصلُ جواب عمر رضي الله عنه لـمّا عَدَلَ في سفره عن دخول بلدة فيها الطاعون، فقيل له: أنفرُّ من قَدَر الله؟ فقال: «نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله». يعني: نحن لم نعرف بعدُ ما الذي قدَّره الله علينا، فدخولنا البلد ـ لو دخلناه ـ سيكونُ هو قضاءَ الله وقَدَرَه، وعَدَمُ دخولنا البلد ـ إذا عَدَلنا عنه ـ سيكونُ هو قضاءَ الله وقَدَرَه.

ولذلك لم يُكذِّب الله تعالى المشركين في قولهم: (لو شاء الرحمن ما عبدناهم)، لأنها كلمة حق، لكنْ أُريدَ بها باطل، فعبادتهم لأصنامهم وأوثانهم وسائر معبوداتهم وقعت بمشيئة الله، لأنه لا يجري في ملك الله تعالى إلا ما يشاء، لكنّ احتجاجهم بالمشيئة على الدوام على تلك العبادة هو المُغالطة، فلينتهوا عنها وليدخلوا في دين الله وليقولوا: شاء الله أن لا نعبدهم، وأراد الله أن نؤمنَ به ونُوحِّدَه ونعبدَه.]

وهذه نصوص دون شرح تجلي بعض ما ذكرت ، فلتتدبر !

في صحيح مسلم عن أبي هُريرة رضي اللّه عنه قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : " المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأحَبُّ إلى اللَّهِ تَعالى مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ باللَّهِ ولا تَعْجِزَنَّ ، وإنْ أصابَكَ شَيْءٌ فَلاَ تَقُلْ : لَوْ أَني فَعَلْتُ كَذَا كانَ كَذَا وَكَذَا، وَ لَكِنْ قُلْ قَدَّرَ اللَّهُ وَما شاء فَعَلَ، فإنَّ " لَوْ " تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطانِ "

عن أنس قال :خدمت النبي صلى الله عليه و سلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لي لشيء لم أفعله، ألا كنت فعلته، ولا لشيء فعلته لم فعلته " صحيح "

وعن أنس: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فلا والله ما قال لي لشيء صنعته لم صنعته؟ ولا لشيء لم أصنعه ألا صنعته؟ ولا لامني، فإن لامني بعض أهله قال: دعه، وما قدر فهو كائن ، أو ما قضي فهو كائن.


التعليقات