سؤال مهم عن العدل الإلهي

نص الاستشارة :

تحياتي لكم أنا أتابع قناتكم على يوتيوب منذ مدة وهي قناة جميلة وهادفة، ولدي سؤال يحتاج إلى متخصص بالدين للإجابة عليه:

منذ 4 سنوات قدمت إلى أوروبا مع زوجتي و 2 من أولادي الصغار جدا الذين تعلموا هنا الكلام ولا يعرفون اللغة العربية، و بعد فترة قصيرة طلبت زوجتي الطلاق، والحضانة هنا للأم و حتى المنزل، ولذلك قامت بطردي من المنزل برفقة عشيقها و حرمتني من رؤية اولادي، حاولت بكل الطرق على الأقل استرجاع أولادي كي أعلمهم اللغة العربية او استرجاع تكاليف سفري وقدومي إلى أوروبا ولكن دون نتيجة، مع العلم بأن هذه النقود تعود لأولاد أخي اليتامى، وعدتهم بإعادتها من راتب الأولاد هنا في أوروبا، ولكن كل محاولاتي فشلت، وهي أمورها المادية والعاطفية بتحسن مستمر ومن عشيق إلى عشيق آخر، ومحبوبة من قبل الناس الأوروبيين، بينما أنا أموري بتعثر دائم ودَين يجب أن أرجعه ومحروم من تربية أولادي ولا أجد فتاة عربية ترضى بالزواج هنا، الخلاصة والسؤال: أين الله الذي من صفاته العدل، هل من المعقول أن الله يساعدها لأنها تعيش بالزنا وبالحرام وقطعت صلة الرحم وأكلت أموال الأيتام، بينما أنا كان هدفي الأولاد والزواج والعائلة ورد الدين للأيتام فقد أغلقت كل الأبواب بوجهي.

لقد صبرت 4 سنوات وأدعو الله ولكن دون نتيجة، وبصراحة أخاف بأن ألجأ للإلحاد بسبب قصتي التي لا أجد ان الله يتدخل بها نهائيا. وهل الله مع الظالم أو مع المظلوم ومن يحدد من هو الظالم ومن هو المظلوم؟. شكرا لكم ووفقكم الله.

الاجابة

حياكم الله أخي الكريم، وشكرا على مراسلتكم وتواصلكم معنا.

في هذه الحياة قد أعطانا الله حرية اختياراتنا وقراراتنا، ولا شك بأن مقابل هذه الحرية في الاختيار لا بد من أن نتحمَّل تبعات قراراتنا واختياراتنا، وما يلجأ إليه كثير من إخوتنا وأحبابنا الشباب بالسفر إلى دول الغرب دون اضطرار أو مبررات شرعيَّة لا يخلو ذلك من عدّة إشكالات فالقوانين والأنظمة لا تراعي كثيرا من الأحكام الشرعية مما يجعل المسلم في حرج وضيق في أمور دينه وأسرته وتربيته لأبنائه، ناهيك عما يستغله كثير من النساء في ظل هذه الظروف مما يتيح لهن أبواب الفساد والانفلات والعياذ بالله تعالى. كذلك يبدو أن قرارك في اختيار زوجة لم تكن ذات دين كان له الأثر الكبير فيما وصلت إليه حالياً من مشاكل وإحباطات وتعثرات، ولعل الله أراد بك الخير فيما يؤول إليه أمرك فيما بعد بأن يرزقك الله امرأة ذات دين وخلق إن شاء الله تكمل معها مسيرة حياتك.

بداية للإجابة عن تساؤلاتك لا بد من إدراك التصور الإسلامي الصحيح عن وجودنا في هذه الحياة الدنيا، فهذه الحياة ليست دار جزاء، وإنما هي دار ابتلاء وامتحان وصبر، والجزاء ليس في الدنيا وإنما في الحياة الآخرة فإما إلى نعيم أو إلى جحيم والعياذ بالله تعالى، فاللهُ تعالى لم يخلقْ الإنسانَ ليكونَ سعيداً دائماً في الدُّنيا، بل ليبتليه، فإذا نجحَ في امتحان الدُّنيا سيكونُ سعيداً دائماً في الآخرة: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]

والإنسان المسلم يبتليه الله بأنواع الابتلاءات ليرتقي عند الله درجات عالية بصبره وثباته على الطاعة والإيمان، فلو قرأت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام فقد تعرَّضوا لأنواع شديدة من الأذى والابتلاءات والحصار والتضييق من قبل المشركين، فصبروا وصابروا السنوات الطويلة وقاسوا وعانوا من الأهوال العظيمة حتى اضطروا لأن يهاجروا ويتركوا بلدهم التي نشأوا وترعرعوا فيها. وبعد هذه السنوات الطوال من الصبر والتضحية أكرمهم الله بالنصر والعزة والتمكين. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُون}[النور:55].

نستخلص مما سبق أن العطاء الدنيوي ليس بالضرورة أن يكون هو بسبب رضا الله تعالى عن الإنسان، بل قد يكون على العكس من ذلك بأن يكون من قبيل الاستدراج والإملاء للظالمين والعياذ بالله تعالى، فالإنسان الظالم أو الفاسق إذا أغدق الله عليه الدنيا فقد يأخذه الله على حين غفلة أو غرَّة، قال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون}[الأنعام:44]

فالدنيا حقيرة تافهة في ميزان الله تعالى لا تساوي شيئا في مقابل الآخرة الباقية، قال الله تعالى: {وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُون} [الأعراف:169].

روى سهل بن سعد، رضي الله عنه قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة فرأى شاة شائلة برجلها فقال: «أترون هذه الشاة هَيِّنة على صاحبها؟» قالوا: نعم، قال: «والذي نفسي بيده، للدنيا أهون على الله من هذه على صاحبها، ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء». [رواه الحاكم وصحَّحه، والترمذي وغيرهما].

والإنسان في لحظات الابتلاءات والمصائب يكون في حالة ضعف بل ويأس واستسلام أحيانا، فيتدخل الشيطان في هذه اللحظات الحرجة فيسوس له بعدة أفكار وعدة أسئلة حتى يثنيه عن إيمانه بالله، فيسأله الشيطان:

أين الله من كل هؤلاء الظالمين؟ أين الله من هؤلاء الفاسقين الذي يخرجون عن أمر الله وهديه ويؤذون عباد الله؟ إلى غير ذلك من الأسئلة التي قد توصله إلى الكفر والإلحاد.

لكن لو تفكرت في حقيقة هذه الأسئلة لعلمت أنها أسئلة مغلوطة تقوم على تصورات فاسدة من الأساس:

فلو تدخَّلَ اللهُ لمعاقبة كلِّ مَن يقومُ بظُلمٍ لَمَا كان للابتلاء من معنى، ولَما تجرَّأَ أحدٌ على أن يظلمَ الآخرين خوفاً من العقاب الفوري الذي سيُنزلُه اللهُ به، وحين يغيبُ الابتلاء تفقدُ الحياةُ معناها: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُون}[النحل:61].

يستطيعُ اللهُ أن يمنعَ كلَّ ظالمٍ عن ظلمه، لكنَّ هذا المنعَ يتعارضُ مع سنَّة الابتلاء التي خُلِق البشرُ من أجلها: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين} [الشعراء:4].

وقد يكون من حكمة الله وقدره، أن ينجو ظالم من عقاب الله في الدنيا، ليس عن ظلم من الله حاشاه، بل لأن المظلوم لم يأخذ بأسباب نيل حقه من الظالم، وربما كان المظلوم سببا وأداة لتمكين الظالم منه، وعندئذ يكون المظلوم قد جمع عليه ظلمين: ظلم المستبد به، وظلمه لنفسه، بأن كان لقمة سائغة لظالم، دون اللجوء والسعي لامتلاك أسباب القوة التي تحميه، حتى لا ينال منه الظالم.

لكن الحياة الآخرة هي دار الجزاء والحساب حتى إذا وقف الظالمون يوم القيامة فسيلقون جزاءهم ومصيرهم المحتوم، قال الله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} [إبراهيم: 42].

عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ» قَالَ: ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102]. [رواه البخاري ومسلم].

فهذه عقيدة المسلمين الراسخة أن الله لا يترك الظالم هكذا يعيث في الدنيا فسادا دون عقوبة ولا جزاء، وإن لم يعجِّل الله تعالى عقوبته له في الدنيا فذلك لحكمة يريدها الله تعالى، من امتحان المؤمنين وابتلائهم واختبار إيمانهم بالله تعالى. إلا أننا نجد أن كثيراً من الظالمين قد أذاقهم الله أنواعاً شديدة من العذاب في هذه الدنيا قبل الآخرة ولو بعد حين، سواء في أبدانهم وعافيتهم أو أموالهم أو غير ذلك، والقصص في ذلك من واقع حياتنا كثيرة لا تحصى.

أخيراً ننصحك أن تقوي يقينك وإيمانك وعلاقتك بالله تعالى، فالإيمان هو بلسم الحياة وهو الترياق الذي يعينك بإذن الله على مواجهة الصعاب والشدائد، وذلك من خلال المحافظة على ورد يومي من القرآن الكريم بقراءته بالتدبر ولو لمدة يسيرة كل يوم، والأذكار، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يومياً فهي سبب عظيم لتفريج الكروب كما ورد في السنَّة النبوية، وأن تتعرف على صحبة صالحة تلتقي بهم يومياً ليعينوك على الطاعة، وثق بالله أن العسر لا يستمر ولا يدوم بل يعقبه الفرج القريب. والله الموفق.


التعليقات