الحلقة الثالثة من الحوار مع فضيلة الشيخ محمود ميرة

في هذه الحلقة الثالثة نتابع الحوار مع فضيلة العلامة الشيخ محمود ميرة وفيه يحدثنا عن رجوعه إلى المدرسة بعدما قرر الانقطاع عنها . وعن حجته الأولى وصحبته للشيخ أحمد البيانوني رحمه الله تعالى ، وعن دروسه الخاصة التي كان يحضرها على كبار علماء حلب وعن صلته الخاصة بالأستاذ الشيخ محمد الملاح رحمه الله تعالى وتأثره بشيخه العلامة عبد الفتاح أبو غدة.

ـ نعود للموضوع الذي سألناكم عنه وهو:كيف رجعتم إلى المدرسة بعدما قررتم الانقطاع عنها؟

_ أما عن المدرسة وطلب العلم فقد ألحَّ الشيخان القلاش والملاح وأقنعا الوالد ، وبذل الشيخ القلاش جهداً لإقناع الوالد ومما قاله له: إن محموداً إذا لم تقنعه أنت لا يعود إلى الطلب ؛ لأن الدنيا قد تأخذه فنخسر طالب علم جيداً ، وإذا كانت القضية من أجل المال فأنا أساعده ، و أُعطيه مايحتاجه . ولم يكن لديَّ هذا الاستعداد لأقبل مساعدة من أحد ، وكنت وقتها نشيطاً ، وكان بإمكاني أن أعمل فأكسب مالاً ، لكن شاء الله أن يوفق شيخنا القلاش فيقنع الوالد برجوعي إلى الدراسة. وقال لي الوالد رحمه الله : أما بيتك وعائلتك فأنا أتكفَّل بالمصروف ، وأنت ارجع إلى طلبك للعلم ، ورتِّب أمور نفسك، واكف نفسك بنفسك في أمورك الخاصَّة .

وصرت أنا أحرص على مايتوفَّر لديَّ ، ورجعتُ لأعمل مع والدي ، وكان الوالد قد ترك العمل بيده ، وصار يتعهَّد أعمال البناء للناس ، فيُهيء العمّال ويشرف على تنفيذ العمل ، و صار عملي هو تسجيل أسماء العمال الذين يعملون وأرتب الحسابات للوالد، وكان الوالد يكافئني عند انتهاء العمل فيكرمني بمبلغ لا بأس به ، أصرفه في تأمين حاجاتي وشراء بعض الكتب. وقد استلمت في عام 1954 مبلغ /700/ ليرة سورية مكافأه على عمل انتهى منه الوالد . فقلت في نفسي: لن يتجمَّع لديَّ في حياتي كلها سبعمائة ليرة ، فاخترت أن أؤدي بها نسك الحج ، فحججتُ في تلك السنة، وكانت أول حِجة برفقة شيخنا الشيخ أحمد عز الدين البيانوني رحمه الله ، وحج معنا ثلاثة مرافقين للشيخ معي لا أذكر أسماءهم ، ولكن أذكر أنهم من المقرَّبين لدى الشيخ رحمه الله .

_ هل كان بينكم وبين الشيخ أحمد البيانوني صلة من قبل ؟

_ نعم ، بعد عام 1952 م صرت أقرأ على أربعة مشايخ في آنٍ واحد، فقد كنت أدرس الفقه الحنفي على الشيخ محمد الملاح من حاشية ابن عابدين ، فقد قرأ لي المجلد الأول والثاني، وبدأنا بالثالث من كتاب البيوع ، وبعدها حدثت قصة أخذها علي وصرفني من الدرس .

ما السبب الذي دعا الشيخ الملاح رحمه الله تعالى إلى صرفكم عن درسه؟

حصلت لي مشـكلة مع الشيخ محمد الملاح رحمه الله تتلخص في أني كنت أقرأ عند الشيخ عبد الفتاح مع بعض زملائي كما تقدم وعند غيره وما أدري من نقل له أني كنت أقرأ خارج الدراسة عند بعض الأساتذة فقد قالوا له : إننا نحضر درس الشيخ عبد الله سراج الدين في جامع بانقوسا ، فجئت أنا إلى المدرسة ، وأنا الإمام والمؤذّن في المدرسة البهائية ، وراتبي من 3 إلى 4 ليرات في الشهر من عام 1949 إلى عام 1951 م ، سنتان أو ثلاث سنوات تقريباً ، فلما جئت إلى المدرسة رأيته ينتظرني لأصلي المغرب، فقلت له: خير إن شاء الله ، فقال : أنت تحضر درساً للحديث عند غيري، ولا يجوز لك أن تروي الحديث حتى تبلغ سن كذا ، ولا يجوز أن تقرأ بقية الفنون حتى تبلغ سن كذا، وأتى بنصوص من كتاب كان يحمله وقرأه لي، ثم في الأخير قال: نستفتي الشيخ مصطفى الزرقا في هذا، وفي اليوم الثاني جاء الشيخ مصطفى إلى الجامع الأموي وأفطر عنده، وسأله، فقال لي الشيخ الزرقا بيني وبينه : أنت تريد أن تستفيد من الشيخ الملاح أم لا تريد ؟ قلت : بل أريد. قال : لا تقل له أقرأ على أحد ، قلت له : أنا لم أقل له شيئا ، لكن لا أدري من أين عرف ، والشيخ الزرقا كان حكيماً وعاقلاً ، والشيخ الملاح يعد الشيخ مصطفى شيخه. وكان له حظ عند الشيخ أحمد الزرقا والد الشيخ مصطفى واستفاد منه، والشيخ مصطفى كان يحترمه إكراماً لوصية والده الشيخ أحمد به، فكان يحترمه ويداريه لأنه يعلم عقليته . والشيخ قال لي: عقليته صعبة.

_ وكانت بعض كتب الشيخ أحمد الزرقا التي علق عليها بخط يده كانت عند الملاح يقرأ لنا فيها منها: حاشية ابن عابدين ، وكانت محشّاة بخط الشيخ أحمد ، وهي نسخته الخاصة وكانت عند الملاح وهي الطبعة البولاقية من القطع الكبير. وبعدها أوصانا الأستاذ الزرقا أن نسايره ولا نخبره بشيء يتعلق بدراستنا عند غيره.

نعود إلى ذكر الشيوخ الذين كنت تقرأ عليهم دروساً خاصة؟

الشيخ أحمد القلاش كان يقرأ لنا من بعد صلاة الفجر إلى صلاة الظهر في الصيف شرح ألفية ابن مالك لابن عقيل .

والشيخ عبد الله سراج الدين كان يقرأ لنا في المدرسة الزينبية شرح جوهرة التوحيد في العقيدة .

والشيخ أحمد عز الدين البيانوني في مدرسة أبي ذر الحلبي في الجبيلة كتاب (فيض القدير) شرح الجامع الصغير، و (الرسالة القشيرية) للقشيري، وشرح الحكم لابن عطاء الله.

_ أين تقع المدرسة الزينبية ؟

_ في حي الفرافرة بقُرب المدرسة الشعبانية ، وبعد فتح الشارع الجديد من السبع بحرات إلى تحت القلعة صار ظهرها على الشارع ، وبقي بابها من داخل الفرافرة وهي قريبة من المدرسة السيَّافية .

ـ وماذا قرأتم على الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ؟

كنا نقرأ عند الشيخ عبد الفتاح أبو غدة كل يوم بعد صلاة العصر حتى صلاة المغرب، كان الشيخ عبد الفتاح يقرأ لنا من كتابين : من شرح صحيح مسلم للنووي، ومن كتاب (غذاء الألباب شرح منظومة الآداب) للسفَّاريني .

_ ومن كان يقرأ معكم عند الشيخ عبد الفتاح ؟

كنا أربعة طلاب مداومين ما انقطعنا عن الدرس يوماً إلا بعذر قاهرٍ وهم : عمر العطار ، ومحمد ربيع العطار ، ومصطفى الأعزازي ، وهو صهر الشيخ أحمد البيانوني على ابنته الكبيرة فاطمة ثم حدث خلاف فطلقها، ثم بعد انتهاء عدَّتها تزوَّجها الشيخ عثمان حزويني ، واستمرت معه ورافقته في حلِّه وتَرحاله .

_ وبنت الشيخ اسمها فاطمة الزهراء.

هذه كانت تحضر معنا الدروس على والدها في صغرها في مدرسة أبي ذر الحلبي .

_ هل درسكم الشيخ محمد سلقيني ؟

_ الشيخ محمد السلقيني رحمه الله لم ندرس عليه دراسة خاصَّة لكني كنت أستفيد منه في دروسه العامة .

_ نعود إلى موضوع الحضور على المشايخ بعد عام 1952 ، هل كان نشاطكم العلمي في الصيف فقط ؟

_ نعم ، جميع هذه الدروس في الصيف إلا درس الشيخ عبد الفتاح رحمه الله فقد كان مستمراً طوال أيام الدراسة ومدة طلب العلم ، لأنني بعد انقطاعي عن العمل وتفرغي لطلب العلم لم أعد أعمل إلا في الصيف .

_ يبدو أن للشيخ عبد الفتاح تأثيرا خاصاً بكم ؟

نعم ، ليس تأثيراً خاصاً فحسب، بل كان له زيادة فضل وعناية بنا. وسبب اهتمامه بي وبأمثالي بالطلاب المجدّين نظره الثاقب في تقويم كل طالب. ولقد وقعت لي معه قصة كانت سبب اهتمامه بي . ففي يوم من الأيام اشتريت مجموعة أوراق من كتب ووجدت بينها أوراقاً من كتاب من كتب الصرف ، وأستاذ الصرف أيامها كان الشيخ عبد الفتاح، فلما جاء الامتحان. وجاء سؤال فأجبت عنه وتوسَّعت بسبب استفادتي من تلك الأوراق فوُفِّقت لإجابةٍ مميّزة ، وكان من عادة الشيخ رحمه الله أن يعيد أوراق الاختبار للطلبة ويبيِّن لكل طالب إجادته أو تقصيره ويشجع الجيد وينبِّه المقصِّر . فجاء الشيخ بعد أن صحح أوراق الاختبار و قال: مَنْ محمود ميرة ؟ فقلت له : أنا ، فقال لي : من أين أتيت بهذه الإجابة ، فقلت له : لقد اشتريت مجموعة أوراق من كتاب في الصرف لا أعلم اسمه لكنني وجدت فيها ما يتعلق بنفس البحث الذي درسناه ، فحفظت منه ماساعدني على التوسع في الإجابة ، فمن يومها خصَّني رحمه الله بعنايته ، وشجَّعني على اقتناء الكتب والاستفادة منها . كل هذا كان سبباً في اقتنائي كثيراً من الكتب العلمية النافعة.

وفي كثير من الأيام كنت أرغب في شراء كتاب دلني عليه ولم يكن معي الثمن فأستدين منه ، وكان في كثير من الأحيان يلمس الحاجة فيعطيني دون أن أطلب ، ثم أعيده له بالأقساط المريحة .

_ قلتم أنه لم يكن عندكم في المنزل مكان للمكتبة ، حيث إنَّ منزلكم كان ضيِّقاً؟

_ نعم لم يكن هناك مكان مخصص للمكتبة فكان البيت يحتوي على غرفتين وقبو ، فالقبو للمؤنة وغرفة الوالد وغرفة لي .

وقد حدثت لي حادثة أفادتني طيلة عمري ، فأثناء قراءة الشيخ لنا في كتاب شرح صحيح مسلم للنووي في كتاب الإيمان باب الردة ، وكان من عادة الشيخ أن يكلفنا أثناء القراءة بمراجعة بعض ما يمر بنا مثل مراجعة لفظة لغوية أو حكم فقهي أو قضية تاريخية فيكلف كل واحد منا بمسألة، ثم في اليوم التالي يسأل كل واحد عما كلف به . وقد كلفني في يوم من الأيام أن أراجع مسألة مرت بنا في باب الردة من الشرح فقال لي: يا محمود راجع لنا موضوع الردة وقصة أهل البحرين لما ارتدوا وتحديد مسجد جواسى، وكانت كتبي تحت ( الكرويت ) والغرفة التي كنت أسكنها مع زوجتي وأولادي كانت مساحتها كلها ثلاثة أمتار بمترين ونصف ، وعدت والجميع نائمون ، فكيف أراجع ، والدرس ينتهي بعد العشاء ، وأنا أنام مبكراً ، واستيقظت لأصلي الفجر، ثم ذهبت إلى المدرسة، وبعد انتهاء الدوام في المعهد أذهب لأعمل مع والدي في ( البناء ) وبعد انتهائي من عملي آتي إلى بيت الشيخ لحضور الدرس ، فقال لي الشيخ : هات ما عندك يا محمود ، قلت : والله ما تمكَّنت وشرحت له الأسباب ، فقال لي : لماذا ؟ قلت: إن الكتب تحت ( الكرويت ) ومن الصعب استخراجها بسبب نوم الزوجة والأولاد وليس هناك مكان أجلس فيه، فقال لي : إذا كنت ستنتظر حتى يصبح الكرسي دوَّاراً وضوء الكهرباء يضاء مسلطاً على الطاولة، والمروحة تلطف الجو ... فهذا يعني أنك تنتظر حدوث هذا وعنده يذهب العلم ولا يُستفاد من الوقت ، إذا لم تَجِدُّوا من الآن وتتغلَّبوا على المستحيل فليس هناك فائدة ، أريدك أن لا تتعلل بمثل هذا في المرة الآتية إذا كلّفتك بشيءٍ لا بد من أن تُحَضِّره ، وفعلاً بعدها ما تخلَّفتُ عن شيءٍ طلبه مني الشيخ رحمه الله أبداً .

فبقي الشيخ رحمه الله يقرأ لنا من عام 1952 إلى عام 1957 أي قرابة الخمس سنوات من بعد العصر إلى ما بعد العشاء .

ـ وهل قرأتم على الشيخ أحمد البيانوني؟

نعم ، الشيخ أحمد رحمه الله كان يقرأ لنا من كتاب "فيض القدير شرح الجامع الصغير" ، ومن كتاب يعدُّ من كتب التربية والأخلاق والتصوف كتاب (ميزان الخضرية) للشعراني وهو كتاب صغير لكنه مفيد، وكتاب (الرسالة القشيرية) للقشيري، وقرأ لنا كتاب (شرح الحكم) لابن عطاء الله السكندري للنفزي، وكان هذا كله يحدث بعد الانتهاء من درس الشيخ عبد الفتاح.

وفي آخر السنوات اقتصر الدرس على الشيخ عبد الفتاح في بيته بعدما تزوج. وكان بيته بجانب مدرسة أبي ذر في الجبيلة ، فكنَّا نقرأ ومكتبته تُحيط بنا ، واستمررنا على هذا.

وفي عام 1956 قُبِلْتُ في كلية الشريعة في جامعة دمشق. بعد أن درست البكالوريا الشرعية في الشام في الثانوية الغرَّاء، وكان يديرها آنذاك الشيخ أحمد الدقر رحمه الله تعالى.

وإلى الحلقة الرابعة نتحدث فيها عن المشايخ الآخرين الذين أدركهم وانتفع بهم

* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين