الحلقة العاشرة من الحوار مع الشيخ محمد أديب الصالح -

الحلقة العاشرة

نتابع في هذه الحلقة حوارنا الممتع مع فضيلة العلامة الداعية الشيخ محمد أديب الصالح يحدثنا عن بدء الحياة العملية في دمشق بعد حصوله على الدكتوراه حيث بدأ معيداً في كلية الشريعة وتوليه رئاسة تحرير مجلة حضارية الإسلام وذكرياته عن مسجد الجامعة، وبعض ملامح الصراع الذي عايشه، وبعض ذكرياته عن مجلة الحضارة.

بدء الحياة العملية في دمشق:

حدِّثونا عن التدريس في جامعة دمشق، وحياتكم العملية بعد الحصول على الدكتوراه؟.

نظام الجامعة في دمشق لا يكتفي بالحصول على الرسالة، فمن يريد أن يدرس في الجامعة لا يكفي حصوله على الدكتوراه، بل لابد من تشكيل لجنة تفحص الرسالة من جديد. يعني منطقهم هناك أن هذه الرسالة صلحت لأن تأخذ دكتوراه، لكن هل تصلح لأن تجعلك مدرّساً؟

وأذكر أنه كان في اللجنة الأستاذ الزرقا رحمه الله تعالى، فتشكلت اللجنة فحصوا الرسالة، وبدأنا في التدريس، على أساس الدكتوراه. قبل المناقشة درست معيداً سنة كاملة.

مهمات أخرى:

بعد عودتي من القاهرة، كان ثمة مهمات بتقدير من الله تعالى تنتظرني في دمشق، فإلى جانب التدريس في كليتي الشريعة والحقوق، حيث كنت أدرس أصول الفقه في الحقوق بالإضافة إلى المواد التي أدرسها في الشريعة، كما كنت أدرس أحياناً البلاغة النبوية وأصول الحديث في كلية الآداب.

وفاة الأستاذ السباعي، ورئاسة تحرير حضارة الإسلام:

إلى جانب ذلك كان العالم الإسلامي أصيب بوفاة الأستاذ د. السباعي رحمه الله تعالى، فكان علي بإرادة من إخواني أن أتولى رئاسة تحرير مجلة "حضارة الإسلام" بعد أن عمل رئيساً لتحريرها- وهو الذي أنشأها- خمس سنوات كوامل.

الخطابة في جامع مسجد جامعة دمشق:

وبقدر من الله تعالى خلت الديار من خطيب لمسجد الجامعة حيث كان الأستاذ عصام يخطب فيه لمدة طويلة، ثم منع من دخول البلد، وأستاذنا الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى أعير إلى السعودية. كنت قبل ذلك أخطب فيه على قلة، بعض الضيوف كانوا يخطبون أحياناً أيضاً..

خوض السباعي انتخابات 1964م:

كانت وفاة السباعي سنة1965 بعد دخوله الانتخابات 64 . أذكر ونحن في مصر أنا قرأنا في الصحف قضية الانتخابات، وأنا والله ما أزعم أني عبقري في السياسة، لكن يومها أدركت أن هذه القضية ليست في صالح الإسلام ولا المسلمين، قضية الانتخابات التي حملوه عليها حملاً، حملته عليها بعض الجهات، مع أن إخوانه الأقربين ما كانوا يريدونها. وجاءه المرض رحمه الله تعالى، وعانى ما عانى ثم توفي.

فلم يبق في الميدان إلا حديدان ـ كما يقولون ـ فابتلي الناس بي في مسجد الجامعة.

كلمة عن مسجد الجامعة:

كان المسجد يمثل أنموذجاً من التلاقي على فكر معين وثقافة معينة، لا أعني أنه كان محدوداً، لكن أقصد أنه يُتكلم فيه بقضايا إسلامية من خلال المصادر والنصوص بروح معينة، فكان الشاب يمكن أن يمر بعشرات المساجد لكن يريد أن يصلي في مسجد الجامعة، والجامع لا يتسع إلا لعدد قليل، فكان المصلون في الحدائق والمداخل والطريق الموصلة إلى باب الجامعة، أحياناً ألوف يحضرون، حتى أحياناً تحت الثلج والمطر.

وفي البداية كنت أقيم في (قطنا) ما أزال أذكر أنه يكون ثلج ومطر وليست لدي سيارة، وأنا حامل حقيبتي، فكان يجب أن أمشي من منزلنا إلى باب السرايا كما يسمى، حتى أجد سيارة الأجرة، وفي العودة أحياناً بعض السائقين يتأدب فيوصلني إلى البيت.

* هل يمكن أن نتحدث هنا عن ملامح الصراع الفكري، عايشتموه في تلك الحقبة؟

الحقيقة، هذا الثلاثي المبارك: التدريس في الكليات الثلاث، والخطابة في مسجد الجامعة، بجانب العمل في المجلة، كلها كانت حزمة واحدة بالنسبة لمحاسبة الناس، يعني أنا تحسب عليَّ تحركاتي من خلال هذا الثلاثي، لكن عناية الله أكبر من ذلك الحمد لله.

لكن الإحساس بالصراع الفكري والأمني قائم، أنا الآن لما أعود إلى الحضارة سبحان الله أجد الكلام المكتوب من ثلاثين سنة وأكثر، كأنه يكتب الآن، بالنسبة للصراع بين الحق والباطل وملامح هذا الصراع، ثم المرتكزات والمحاور وسلاح العدو وسلاح الصديق .. فبقدر من الله تعالى كانت هذه المرحلة بعد أن جئنا من مناقشة الدكتوراه.. بل هي بدأت من أيام جئنا من حلب، كان كثير من الطلبة والطالبات يأتون عندي في المكتب، يقولون: أني تحدثت بكذا وكذا اليوم، وليتني أنتبه أكثر( وخلك معنا أحسن)

مرة من المرات مثلاً كنت أتحدث عن إقامة الحدود فسمعت طالباً يقول للآخر: لا تسأله.. قلت له: اسأل، قال: ما دام إقامة الحدود لها كل هذه الفوائد وخير من مطر أربعين صباحاً.. فوائد اجتماعية واقتصادية وفوائد للأسرة والمجتمع والبلد وتدفع الأذى وكذا.. فلم لا تقام في البلاد العربية والإسلامية.. قلت له: نحن هنا لا نتحدث في السياسة نتحدث في العلم، قال: والله يا أستاذ لا أقصد إنما أريد أن أعرف، فقلت له: يا أخي كثير من الحكام يستحقون إقامة الحدود عليهم، فكيف يطالبون بإقامة الحدود، فهناك عدد من حكام البلاد العربية والإسلامية يجب أن يقام عليهم الحد.فسمعت بأذني زميله: ألم أقل لك لا تسأله. ( كنت وقتها أسمع دون سمَّاعة)

كم هو غريب أن يحجر على أستاذ جامعي أن يقول أو لا يقول، يجب أن يكون هنالك كما يعبرون هذه الأيام بالشفافية..

يا أخي أستاذ جامعي وقال كلمة.. ما الذي حدث؟

أستاذ جامعي تورَّك على قضية من القضايا ضمن منهج علمي، يتكلم وليس بسم الله نشتم فلاناً.. الموضوع ليس هكذا..الموضوع كلام علمي ينتج كذا يثمر كذا، ليست القضية أن هذه المحاضرة ليست للشتم وللكلام غير المناسب على فلان أو علان.

لكن الذي تبين لي فيما بعد، بعد الاستمرار في الصراع الفكري، أنه حتى كون الأستاذ الجامعي مرغوباً فيه من قبل طلابه علمياً، هذا غير مرغوب للخصوم. لذلك كنت أقول للطلاب هنا في الرياض: يا أخي أنت بوصفك مسلماً مشكلة بالنسبة لأعداء الإسلام قبل أن تحسن أو تسيء، حتى لو أحسنت تزيد المشكلة، حتى لو أحسنت فهذا سيعطي صورة عن الإسلام، سواء كنت تدرس في الشريعة أو كنت طبيباً أو كنت مهندساً أو وليّ أمر في بعض القضايا، يقولون والله ما أحسن هذا الإحسان إلا لانتمائه للخط الإسلامي، إلا لأنه مسلم، فهذا يعتبرونه إساءة أيضاً، لذلك تظل أنت مشكلة قبل أن تحسن أو تسيء.

فتظل المؤاخذة سواء على خطبة مسجد الجامعة أو على التدريس أو على العمل في حضارة الإسلام.

الرقابة على حضارة الإسلام:

وعلى ذكر حضارة الإسلام، كان الرقيب أحياناً لا يعرف ماذا يحذف لأننا نحن مؤدبون أكثر من غيرنا في هذه القضايا، فصرت أكتب بأسلوب والحمد لله يفهمه إخواننا القراء ولا يفهمه الرقيب.

على سبيل المثال ذهب الأخ الذي يراجع الرقابة مرة، فقالوا له: لك هذا شيخكم ماذا يريد من هذا الكلام في الافتتاحية، قال واحد: يتحدث عن الرئيس، انتهينا. قال آخر: لا لا يتحدث عن مصطفى طلاس، الثالث قال: بل عن الشهابي، الرابع قال: يحكي ولا ما يحكي .. مزقَها، وقال: اذهب وقل لشيخكم يكتب غيرها.

من المصادفات العجيبة أنه في معرض الكتاب هنا في الرياض، التقيت بأخ سوري كنيته الكتبي عنده مكتبة هنا في الرياض، قال: أنتم كنتم جيراننا في الحلبوني، وأنا عندي كل أعداد حضارة الإسلام، وذكّرني أن الرقابة مرة طلبت منا أن نمزق صفحتين من العدد. وقال: إنه أتى بالصفحتين بطريقته الخاصة وأكمل بهما العدد.

قلت له: وأنا أذكر ذلك والمقالة عن علال الفاسي رحمه الله تعالى، بعد الطباعة قيل: هناك ورقتان لابد من نزعهما، طبعاً نحن نزعناهما من أعداد دمشق، أما البقية فذهبت بالبريد خارج دمشق.

قصة عن الشيخ بدر الدين الحسيني:

جد الأخ المذكور كان اسمه الشيخ يحيى زميتة، وغيَّروه إلى الكتبي، جده اسمه يحيى، رجل فاضل جدا، كان يخدم الشيخ بدر الدين الحسني: يسعى له بالماء البارد، يحضر له قطعة ثلج من السوق، إذا أراد خبراً لأحد العلماء. وكان الشيخ بدر الدين الحسني رحمه الله تعالى يعتبر شيخ المشايخ، وكان يسكن في مدرسة الحديث، كانت له غرفة فيها وكذلك الشيخ يحيى.

وهناك قصة سمعتها من جدّ الأولاد الشيخ إبراهيم الغلاييني رحمه الله تعالى إن الشيخ يحيى ذهب يريد إحضار قطعة ثلج وهذا الثلج كان يأتي من جبل الشيخ، ينشرونه بالمناشير ويحملونه على البغال وغيرها إلى قطنا، في كل سورية هكذا في المناطق التي فيها جبال، والباعة يلفّونه بكيس القنب يحافظون عليه فلا يتعرض للشمس أطول مدة ممكنة.

وكان الشيخ، لما غادره الشيخ يحيى يصلي ويقرأ الآية: [بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ] {القمر:46} وكان لا يسهر بعد العشاء بل يذهب إلى بيته، ينام ثم يعود قبل صلاة الفجر.

فذهب الشيخ يحيى وقضى بعض شؤونه ثم عاد فوجده يردد الآية نفسها: [بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ] {القمر:46}.. فظل يرددها حتى قبيل الفجر. فركع وقام وأتى بركعة خفيفة وصلى الفجر.

هذا بمناسبة دار الحديث، وكانت تقع ما بين باب البريد والعصرونية الآن، في الربع الآخير تقريباً من سوق الحميدية، إذا كنت متوجهاً نحو الجامع الأموي.

كانت عامرة.. من رجالها العظماء الإمام النووي درس فيها ودرّس علّم وتعلَّم رحمه الله تعالى الله تعالى. لذلك قال الشاعر عن دمشق:

ما بين جابيها وبين بريدها شمس تغيب وألف بدر يطلع

سبحان الله، تلك دمشق..

* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين