الحلقة السادسة من الحوار مع الدكتور أديب الصالح -

نتابع في هذه الحلقة تتمة الحوار الشائق مع فضيلة أستاذنا المربي الجليل الشيخ محمد أديب الصالح حفظه الله تعالى، بعد أن حدثنا في الحلقات السابقة عن شيوخه في الكلية الشرعية، وعن شيوخه في الجمعية الغراء ، وفي هذه الحلقة نحاور فضيلة الشيخ في مرحلة دراسته في كلية أصول الدين في الجامع الأزهر ، وكلية الحقوق في دمشق.

الحلقة السادسة:

متى انتسبتم إلى كلية أصول الدين في الأزهر؟

انتسبت إلى كلية أصول الدين في الجامع الأزهر وكلية الحقوق بدمشق عام1946-1947، وكان عميد الكلية فضيلة الشيخ عبد الجليل عيسى ـ رحمه الله تعالى ـ وكان شيخ الأزهر مأمون الشناوي، وقد أدركت آخر مرحلة الملك فاروق، وكانت أجواء الحرية سائدة.

من هم الطلاب الذين أوفدت معهم للدراسة بمصر؟

ذهبت إلى مصر للالتحاق بالأزهر مع عمر عودة الخطيب بطريق البر من فلسطين، وقد تأخَّرنا بعض الشيء في الالتحاق بإخواننا: أحمد الجنادي، وعبد الغني الخطيب، وعبد الحميد الهاشمي، وأحمد الأحمد، وهم أكبر منا سناً، إذْ أتوا إلى الكلية الشرعية، وكانوا قبل ذلك في المدرسة الكاملية، رحم الله الجميع،وكنت أصغرهم سناً مع الأستاذ محمد القاسمي، وإخوة آخرين في الكلية الشرعية نفسها.

وقد استأجر الإخوة الأربعة الذين سبقونا إلى الالتحاق في الأزهر شقة، وصرنا ستة في تلك الشقة ريثما نتوزَّع بعد ذلك.

سكنت مع هؤلاء الإخوة في منطقة (شبرا) ، وكانت كلية أصول الدين هناك، وهي وقف لأميرة من الأميرات، وسكنَّا في شارع صغير اسمه شارع الورد، بيننا وبين الكلية شارع صغير من خلفها، والجامع الملحقة به الكلية يسمى: جامع الخازنداره.

كيف ابتدأتم الدراسة في الكلية؟

كان الطلاب آنذاك في إضراب لاختلاف الأزهريين على اختيار الشيخ مأمون الشناوي شيخاً للأزهر ، الذي خلف الشيخ المراغي، والسوريون قد اعتادوا على الإضرابات، إذْ كنا نضرب عن الدراسة ، ونخرج ـ مع حرصي على الدوام والانتظام ـ عندما كنا طلاباً بالتجهيز في مظاهرات ضد الفرنسيين ونردِّد :

يا ظلام السجن خيم.... إننا نهوى الظلاما

ليس بعد السجن إلا.... فجر مجد يتسامى

فلم تكن الدراسة منتظمة في الأزهر بسبب الإضراب، فكنا نتجول في القاهرة،ونحضر المحاضرات والندوات، فاشتكت الكليَّة للسفارة السورية لعدم التحاقنا بالدراسة ، فاتصل الملحق الثقافي بنا، وسألنا عن سبب تأخرنا في الالتحاق بالدراسة، فأعلمناه بأن الطلاب مضربون عن الدوام، فقال: إن وضع المصريين يختلف عنكم، فإما أن تداوموا وإما أن تعودوا من حيث جئتم، فقررنا الالتحاق والمداومة، فكان النادل في الشارع الذي نسكن فيه خلف الكلية ينادي: يا شوام بدأت المحاضرة، ولم يكن يحضر سوانا نحن الستَّة، وكان أساتذتنا في الأزهر يشجعوننا على الحضور، وهم من أنصار الدوام، وكان أحد زملائنا المصريين مكفوف البصر، يتابع من يداوم في الكلية، فلما عرف أن بعض الطلبة يحضرون، وقال له الفراش: هم من الشوام، رفع صوته من خارج قاعة الدرس حيث كنا: من أجل الجراية! أي القروش التي تُعطى للطلاب ، وأنا لم آخذ الجراية، وما ذهبت مرة من أجل ذلك، إذ كنا نأخذ راتبنا من الدولة، وما جئنا من أجل الجراية.

ذهبنا للعميد الأستاذ عبد الجليل عيسى وذكرنا له القصة ، فاستدعى ذلك الطالب ونحن جلوس، وكلمه كلاماً في غاية الحزم ، وقال: ألا تعلم أننا إخوة جميعاً، وأن هؤلاء جاءوا من بلادهم لطلب العلم، وليسوا أصحاب جراية، والأزهر للعالم الإسلامي ، فاعتذر الطالب لنا، فلم يكن هناك تفريق بين طلاب ولا تمييز بين جنسية وأخرى، ولم يخطر على بال أحد أن يقول لنا أنت أجنبي.

لقد جمعتم بين كلية أصول الدين في الأزهر وكلية الحقوق بدمشق فمن هم أساتذتكم في كلية الحقوق ، وكيف كان تحصيلكم العلمي؟

كان يدرسنا الأساتذة مصطفى الزرقا، ومعروف الدواليبي، وسامي الميداني، وأبو اليسر عابدين، واثنان من آل الكزبري، وعبد الوهاب حومد، ومحمد الفاضل، وفؤاد شباط وآخرون، وثقافتنا كانت متنوعة، ولذلك يجب أن توجد عند الإنسان بواعث في تربيته أن لا يجنح إلى الحزبية في الفكر، وأن يكون له وجود مع الدليل دائماً على قدر المستطاع، وقد تزوَّدنا بألوان متنوعة من الثقافة، ولهذا فإن مكتبتي تجمع بين الفلسفة والحقوق والشريعة والتاريخ واللغة.

هل تذكرون بعض المواقف في دراستكم في كلية الحقوق بجامعة دمشق؟

كانت الاختبارات في الحقوق تحريرية وشفهية، وفي إحدى المرات بعد نجاحي في الامتحان التحريري في مادة الحقوق الإدارية، جئت لتقديم الامتحان الشفهي، وكان في لحيتي بعض شعيرات، فرأيت أمام الباب عدداً من زملائي الطلاب لا أذكر أسماءهم، وكلهم خائفون من الدخول إلى الامتحان الشفهي، فقالوا لي: تفضَّل ، تفضَّل يا شيخ أديب ، ودفعوني أمامهم، فدخلت إلى الامتحان، ورأيت أستاذ المادة في الحقوق الإدارية، الدكتور: فؤاد شباط، وهو غير مسلم وذو خلق وإنصاف، ومعه هيئة من قصر العدل، قاضي التمييز والاستئناف، وكان الطالب يتقدم بالامتحان الشفهي أمام كل هؤلاء ، وكانت الطريقة في الامتحان أن يسحب الطالب قطعة نحاسية مرقمة، فسحبت القطعة فخرج لي موضوع في الحقوق الإدارية، وكان السؤال : إذا أخطأ الموظف هل نحاسبه فقط أو نحاسب من شاركه في الخطأ؟ وما هي العلاقة بين الخطأ وموقف الشريعة منه؟ وقال لي الدكتور شباط أمام هؤلاء : أنت درست الشريعة الإسلاميةـ لما رأى الشعيرات في ذقني ـ فقارن بين هذا السؤال وبين قوله تعالى في الآية الكريمة:{ ألا تزر وازرة وزر أخرى}، وقد رآني الأستاذ قبل ذلك في كلية الحقوق أثناء المحاضرات، ودراستنا في الحقوق مطعمة بعلوم الشريعة، فقد كنا ندرس أصول الفقه، ودرسنا أستاذنا الزرقا المدخل الفقهي، فعندما سئلت ذلك السؤال أجبت- بحمد الله- جواباً وافياً باللغة الفصحى طبعاً، وهو أمر جدُّ قليل عند الطلاب مع الأسف، وكأني ألقي محاضرة في هذا الموضوع بتكامل ووضوح، فقال لي الدكتور شباط أمام الحاضرين: ـ وهذا من إكرام الله تعالى ـ: أهنِّئك على هذا الأسلوب في الإلقاء، وأتمنى أن يأتي يومُ يقدِّم فيه أساتذتنا في كلية الحقوق محاضراتهم بهذا الأسلوب الجميل، ويغلب على ظني أنه أعطاني العلامة التامة.

ومرت الأيام وأصبحت مدرساً في كلية الحقوق، وكان الدكتور فؤاد شباط، الذي امتحنني، عميداً لكلية الحقوق، فسلَّمت عليه، وقلت له: أنا من طلابك في الكلية، وقد أجريت لي امتحاناً شفهياً، فقال لي : أرأيت كيف كانت فراستي صادقة، وها قد أصبحت معنا أستاذاً في الكلية.

كما أذكر واقعة أخرى خلاصتها، أني دخلت على لجنة الامتحان بأصول الفقه، وقوامها: الشيخ أبو اليسر عابدين والدكتور معروف الدواليبي؛ فسألني الدكتور أبو اليسر: هل صحيح أنك صهر الشيخ إبراهيم الغلاييني؟ فأجبته على استحياء: نعم، ثم بدأ أستاذنا الدواليبي الكلام معي عن أصول الفقه، وسرعان ما أردف- رحمه الله- قوله: نحن الآن سنختبرك في أصول الفقه؟ قم وانصرف فتح الله عليك!! وأعطياني أيضاً الدرجة التامة في امتحان أصول الفقه الشفهي. جزى الله أساتذتنا أجمعين كل خير.

وما أزال أذكر أنه في وقت الاختبارات التحريرية مرّ من أمامي الدكتور عبد الوهاب حومد- وأنا أكتب_ وقال لي: صحيح أنك تدرس في مدرسة الأزهر؟ هكذا بهذا التعبير.

هل الامتحان الشفهي يقتصر على المرحلة الجامعية أم في بقية المراحل الدراسية؟

كانت الشهادات العامة فيها امتحان شفهي مع التحريري الكتابي من المرحلة الابتدائية إلى الكفاءة إلى البكالوريا، قدَّمت الامتحان الشفهي في المرحلة الابتدائية وأنا صغير فكان الطلاب يعاونوني لصغري.

وفي امتحان الكفاءة قدمت امتحاناً شفهياً في مادة التاريخ مع صديقي الأستاذ أحمد الأحمد، وكان أقدم مني في الدراسة السابقة للكفاءة، وكان أستاذ المادة : بسام كرد علي ابن الأستاذ : محمد كرد علي، فلما سألني أجبتُه بالفصحى وأنا في سن الكفاءة، فقال للأساتذة حوله: كل الطلاب لا يتكلَّم أحد منهم بالفصحى إلا هذا الطالب وطالب آخر جاءنا صباحاً... فعرفت أنه يقصد أخانا أحمد الأحمد ـ رحمه الله تعالى ـ

هذه الذكريات التي مرت بنا من الطفولة فيها توفيق الله وفضله وكرمه، فقد رُبِّيت يتيماً، وليس في (قطنا) كلها وما حولها مَن تدرَّج في مراحل التعليم، فنلتُ الكفاءة الشرعيَّة والكفاءة العامة، والثانوية الشرعية والثانوية العامة، وانتسبتُ إلى الكليتين: أصول الدين في الأزهر والحقوق بجامعة دمشق وتخرَّجت من الجامعتين، وكانت مظاهر توفيق الله تحيط بي، فله الحمد والشكر، وأرجو أن لا يكون في هذا الحديث حظٌ للنفس.انتهى

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين