بعد كيماوي خان شيخون: قراءة في التحولات الإستراتيجية

 

مقدمة

 

من الأخطاء الكبرى في الممارسة السياسية اعتبار العلاقات والسياسات الدولية حالة ستاتيكية جامدة، فيما هي -في الحقيقة- حالة ديناميكية دائمة الحركة والتبدل، ومَن لا يلاحظ حركتها ويدرك تغيّرها فإنه سيعجز عن مواكبتها، وسوف يخسر كثيراً بالتأكيد.

 

على أن من المهم -في هذا السياق- التمييز بين نوعين من التحولات: التحولات الإستراتيجية الكبرى، أو ما يسمّى في الأدبيات السياسية "تغيير الأهداف" (Goal Change) والتحولات الإستراتيجية الصغرى التي تسمى "تغيير البرامج" (Program Change). النوع الثاني ليس تحولاً حاسماً ويقتصر على تغيير أدوات المشروع السياسي ووسائله، أما الأول فإنه يصل إلى درجة تغيير أهداف وغايات المشروع السياسي برمّته. فأيّهما الذي يحصل في الملف السوري حالياً؟

 

لو تابعنا الفضاء الثوري في الأسبوع الأخير سنلاحظ أن الانطباع السائد عن اللحظة الراهنة هو أنها لحظة تغيّرات إستراتيجية كبرى، وهو انطباع يحمل في ثناياه الكثير من التفاؤل والارتياح، وقد يتسبب في ردود أفعال مغرقة في الخطأ أو يقود إلى الاسترخاء والتواكل المذموم. من هنا يجب علينا أن نفحص التطورات الأخيرة بدقّة لنعرف حجم التغير الإستراتيجي واتجاهاته الجديدة.

 

لنبدأ بتفكيك الملف السوري إلى عناصره الرئيسية، وهي خمسة ملفات فرعية بالغة الأهمية، ثم لنفحصْ كلاً منها لنتعرفَ على ما جَدّ فيه من تغيرات على المستوى الإستراتيجي. هذه الملفات -من وجهة نظر الإدارة الأمريكية- هي: الحرب على الإرهاب، ومستقبل النظام، والعلاقة بالفصائل الثورية، ومشروع الإقليم الكردي، والنفوذ الإيراني في سوريا.

 

(1) الحرب على الإرهاب

 

استطاعت إدارة أوباما أن تغيّر عنوان الملف السوري من "ثورة شعبية على نظام مستبد" إلى "حرب على الإرهاب"، وكانت داعش هي الحامل الرئيسي للمشروع الأمريكي والدولي الذي فرّغ الثورة الشعبية من مضمونها وأفقد العالَم الاهتمام بها والتعاطف معها، حيث تصدّرت داعش وجرائمُها اهتمامَ المجتمع الدولي وأنسته همومَ الشعب السوري ومعاناته الهائلة.

 

ما تزال الحرب على الإرهاب على رأس سلّم الأهداف الإستراتيجية الأمريكية في سوريا والعراق، ولم يحصل أي تغيير لا في مضمون الهدف ولا في ترتيبه ضمن أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة.

 

(2) الفصائل الثورية

 

اتخذت الإدارة الأمريكية السابقة في أوائل عام 2012 قراراً إستراتيجياً بالمساواة بين طرفَي الصراع والعمل على استنزافهما ومنع أي منهما من تحقيق انتصار حاسم، واستطاعت أن تصنع ذلك فعلاً من خلال التحكم بالسلاح، فقد ازداد تدفقه كلما تقدم النظام وشَحّ كلما تقدمت الفصائل، مع منع دائم وصارم لمضادات الطيران التي كان من شأنها -لو امتلكها الثوار- أن تقصّر أمد الصراع وتقلل حجم الخسائر البشرية بشكل كبير.

 

لم تكن الفصائل خياراً مفضَّلاً لإدارة أوباما ولا هي خيار مفضَّل لإدارة ترامب، ويبدو أن الإدارتين اشتركتا بالنظر إليها كأدوات مرحلية، لها دور محدود في "مرحلة الاستنزاف" وليس لها أي دور حقيقي في مستقبل سوريا. لا جديد في هذا الملف على المستوى الإستراتيجي.

 

(3) الإقليم الكردي

 

من المثير للانتباه أن أولى القرارات الميدانية التي اتخذتها إدارة ترامب الجديدة في سوريا كانت دعم الوحدات الكردية وتزويدها بعربات مدرعة وأسلحة ثقيلة، والإصرار على دورها المحوري في الحملة الدولية على داعش في الرقة، رغم الرفض الجازم والاعتراض المتكرر الذي تبديه تركيا بهذا الخصوص.

 

طوال عهد أوباما وخلال ستّ سنوات من المد والجزر وتبادل الأراضي بين الثورة وداعش والنظام بقي استقرار وتوسع المشروع الكردي أحدَ الثوابت الإستراتيجية في السياسة الأمريكية، ويبدو أنه ما يزال كذلك في عهد ترامب. لا جديد في هذا الملف.

 

(4) الملف الإيراني

 

لعل هذا هو الملف الوحيد الذي خضع لمراجعة جذرية وتحوّل إستراتيجي كبير منذ اليوم الأول في عهد ترامب الجديد، وهو يشمل الاتفاق النووي وتمدد إيران في سوريا ونشر المليشيات الشيعية قريباً من حدود إسرائيل.

 

هذا الملف عظيم الأهمية والخطورة بالنسبة لسوريا والمنطقة، وهو أكبر من حجم الفصائل والقوى الثورية في سوريا ويحتاج إلى قدر كبير من التنسيق وتكامل المواقف والأدوار مع حلفاء الثورة الإقليميين، فعسى أن تدرك القوى الثورية السياسية والعسكرية أبعاده وتستفيد من تحولاته الخطيرة.

 

(5) مستقبل النظام

 

هذا هو أهم ملفات القضية السورية على الإطلاق، فماذا جَدّ فيه؟ لقد دعمت الإدارةُ الأمريكية السابقة الأسدَ في مواجهة الثورة خلال أشهرها الأولى، ثم ضغطت عليه لإجراء إصلاحات شكلية بهدف امتصاص الغضب الشعبي ووقف الثورة في وقت مبكر، فلما أخفقت في ذلك تبنّت إستراتيجية واقعية من شأنها تحييده وتكريس نظامه. وبدا منذ مؤتمر جنيف الأول في أواسط عام 2012 أن أمريكا تسعى إلى إعادة إنتاج النظام برموز جديدة، ربما مع نقل السلطة إلى عائلة علوية أخرى أكثر قبولاً من عائلة الأسد (في ذلك الوقت طُرح اسم عائلة حبيب).

 

كانت هذه هي الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع النظام السوري أيام أوباما، فهل تغيرت في عهد ترامب؟

 

يبدو أن الموقف الأمريكي الحالي هو إخراج بشار الأسد من الصراع وإنهاء علاقة عائلته بمستقبل سوريا، وهو موقف حصل على تأييد مجموعة السبع وعلى دعم كامل من حلفاء أمريكا في الإقليم. لكن ماذا عن النظام نفسه؟ وما هو البديل؟ وما هو مستقبل سوريا؟ هذه هي الأسئلة الكبرى التي تهم الثورة السورية.

 

افترضَ كثيرون -بحماسة كبيرة- أن الإدارة الأمريكية الجديدة جادّة في اقتلاع النظام السوري الحاكم من الجذور. وأنا أرى أن في هذا الافتراض قدراً كبيراً من المجازفة، فهو يعني أن الإدارة الأمريكية الجديدة انقلبت انقلاباً جذرياً وغيرت أهداف اللعبة كلها ولم تغير قواعدها فحسب، وهو يعني أيضاً -ضمنياً- أن إسرائيل غيرت إستراتيجيتها في التعامل مع المشكلة السورية بصورة جذرية، ويعني أيضاً أن أمريكا عثرت على بديل مناسب تثق به وتطمئن إليه.

 

نعم، حصل في الأيام الماضية تغيّر واضح في طريقة تعامل الإدارة الأمريكية مع المشكلة السورية، ولكنه -لو أمعنّا النظر- تغيّرٌ في الشكل والأسلوب، تغيّرٌ يقتصر على الأدوات ولا يصل إلى الأهداف؛ بإيجاز: لقد استبدل ترامب بالقوة الناعمة التي كانت تناسب أوباما قوّةً خشنة تناسبه، وهذا كل شيء.

 

الخلاصة

 

ما تزال الحرب على الإرهاب واستئصال داعش على رأس هرم الإستراتيجية الأمريكية في سوريا، ومن بين ملفات الثورة السورية الخمسة الكبرى لا يمكننا الجزم بأن أياً منها سيخضع لتحول على المستوى الإستراتيجي الكبير (تغيير الأهداف) باستثناء الملف الإيراني الذي يبدو مرشحاً بقوة لمثل هذا التحول، ولو حصل فعلاً فإن نتائجه ستكون إيجابية بالنسبة لسوريا وللدول الأخرى في الإقليم.

 

أما مستقبل النظام السوري فمن المبكر الحكم على الموقف الأمريكي الجديد بشأنه، ومن الصعب الجزم بأي تحول إستراتيجي كبير اعتماداً على تصريحات ترامب ومسؤولي إدارته حتى الآن، بل يغلب أن يقتصر التغيير -بعد كل هذا الضجيج- على البرامج والأدوات دون تغيير هدف أمريكا القديم، وهو إعادة إنتاج النظام بوجوه مختلفة ومظهر جديد.

 

إن التحدي الذي تواجهه الثورة السورية اليوم كبير كما كان كبيراً على الدوام، وأعتقد أن الثورة سترتكب خطأ هائلاً لو علّقت مصيرها بخطط ترامب وقراراته، فمهما يكن موقع الأسد ونظامه في سياسة الرجل فإن الفصائل الثورية ليست في موقع أفضل، أما المراهنة على "إنسانية ترامب" فإنها أكثر المضحكات إثارة للرثاء، فهو لن يهتم بسلامة السوريين وحريتهم كما لم يهتم سلفُه بذلك، وهذا أمر أدركه حتى الأمريكيون أنفسهم، فقد قرأت عشرات الردود الغاضبة على تغريدات مندوبة أمريكا في الأمم المتحدة، نيكي هيلي، وكان أكثرها تعبيراً التعليق الذي قال صاحبه: صحيح أن نظام الأسد المجرم قتل مئة سوري بالسلاح الكيماوي، لكننا نحن قتلنا أضعاف هذا العدد من الأبرياء في سوريا والعراق، فكفّوا عن النفاق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين