كيلا تضيع التضحيات سدى

 

لا شك أن الثورة ليست نزهة، فلها ضريبتها التي يدفعها الناس من أمنهم على حياتهم وأموالهم وأعراضهم واستقرارهم، ولا شكَّ أن من ينخرط في العمل الثوري إن لم تكن عنده الصورة للمستقبل الذي ينشده واضحة، فهو مغامر خاطئ، فالثورة وسيلة وليست غاية، والثورات إنما تقوم لتصحيح مسارات سير الأمم، واستحضاراً للأعمال النافعة التي تحتاجها للنهوض، وحَجْراً على من يقودها نحو الهاوية ويهبط بها إلى الحضيض، والثائر إنسان علت في نفسه قيم الحق والعدل؛ فاسترخص لأجلها بذل الغالي والرخيص، لكن هذه التضحيات والأثمان الباهظة على أهميتها ليست كافية لصيانة المكتسبات، -كما يظن كثير من الناس- وكمثال على ذلك فلنا في التجربة الجزائرية خير مثال، إذ قدمت الجزائر أكثر من مليون شهيد في سبيل حريتها، لكنها أضاعتها على الطريق، حين تسلَّم الحكم فيها من لم يجد غضاضة في نسيان دماء الشهداء، وأشاد دولة على طريقة بناء الديكتاتوريات الصلبة، وها هي اليوم ترزح اليوم تحت حكم شمولي مؤيد بوقاحة لعصابة الأسد، ويصادر أشواق المواطنين الجزائريين وتطلعاتهم نحو الحرية.

يرى الأستاذ مالك بن نبي أن نجاح ثورة ما أو فشلها، هو بقدر ما تحتفظ بمحتواها أو تضيعه في الطريق، ويكمل الشيخ محمد الغزالي الفكرة، ليؤكد أن الجهد الذي بذل لتحصيل المكاسب، لا يعني التوقف عنه (عن بذل الجهد) بعد الحصول عليها، فيقول: "إن البقاء في القمة يحتاج إلى مثل الجهد الذي بذل في بلوغها"

إن الفكرة الأساسية للثورة بالأساس أنها قائمة على التمرد على الواقع السيء الذي لم تجدي معه أي محاولة للإصلاح، والثورة كذلك هي رفض للاستسلام للحالة المزرية التي تحاول الحكومات المستبدة تكريسها، فهل يمكن أن يثور الناس على واقع سيئ لينتقلوا إلى حالة سيئة أو ربما أسوأ، وهل يمكن أن تضيع تضحيات الناس هباء؟

يخبرنا تاريخ الثورات أن ذلك أمر ممكن، إن أصاب الخلل طريق العبور من مرحلة إلى أخرى من مراحل الثورة وهي التي يحدثنا عنها مالك بن نبي بقوله: "الثورة لا ترتجل، إنها اطراد طويل، يحتوي ما قبل الثورة، والثورة نفسها، وما بعدها. والمراحل الثلاث هذه تمثل نموا عضويا وتطورا تاريخيا مستمرا، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور، فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال"

وكمثال على ذلك فالثورة الفرنسية أثناء عبورها إلى مرحلة ما بعد الثورة أصابها خلل، حيث سيطر عليها أشباه الثوريين، وحاولوا بناء أمجادهم الشخصية على حسابها، الأمر الذي أوصلها لأيدي نابليون الذي صنع منها، قضية شخصية تحت لواء الإمبراطورية.

لذلك فقد تحتاج الثورة لثورة داخلها، لحفظ مسارها من الانحراف، وحرصاً على صيانة بوصلتها نحو الطريق الصحيح الذي قصدته منذ البداية، لذلك فقد تقسو على واقعها لضمان مستقبلها، وإما إن استسلمت للواقع "السيء" فقد بدأ الانحراف، وقد وجب التقويم، وأولى الناس بتقويم المسار هم أولئك الذين لم يتخذوا الثورة وسيلة لمشاريعهم الشخصية أو الفصائلية.

وكمثال على ذلك يمنُّ القرآن الكريم على المسلمين عدم لحاق المنافقين بهم في بعض الغزوات، بالرغم من قلة عدد المسلمين من المهاجرين والأنصار وعدتهم، وحاجتهم لأي شخص يكثِّر سوادهم،  فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} فهؤلاء غرباء عن الثورة، حتى وإن انخرطوا في صفوفها، فغايتهم ليست غايتها، وأهدافهم ليست أهدافها، ولن يقصروا في حرفها عن مسارها إن استطاعوا، ولن يكفوا عن السعي للوصاية عليها.

فحتى لا تضيع تضحيات الثورة سدى، لا بد من إبقاء الأهداف الفكرية والسياسية والأخلاقية حاضرة في وجدانها، لتمثل بذلك البوصلة التي يهتدي بها الجميع، والبُعْدُ عنها يمثِّل علامة الانحراف الذي يشاهده الجميع، ولا بد من نواة ثورية تصحح أي انحراف يطرأ، وهذا "الخط الثوري" يمثل الرقابة الضرورية لاستمرار الثورة، وبدون هذه النواة الموجِّهة لا تنجح الثورة أصلا، بل تتحول إلى حرب عدمية، تتضارب فيها المصالح، وتتوازى فيها القوى، هذا عدا عن إمكانية الاختراق الخارجي، والتوجيه الخفي، فتنتهي إلى حالة مزرية من الارتماء في أحضان المجهول، والاستمرار بلا أفق منشود، "وإن هي نجحت في معركة الهدم، فإنها تفشل في معركة البناء، فتضيع تضحيات الشعوب هدراً"  كما يرى الدكتور الشنقيطي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين