كل يوم عاشوراء - عاشوراء في التاريخ

عاشوراء... تلك المَحَطة التي تُؤَرِّخ لأحداث فاصلة؛ بين الحق والباطل حِيناً، وبين النبوة و"التَّفَرْعُن" بادّعاء الألوهية تارةً، وبين العدل والظلم ربما في كل عام... محطة تتجلى فيها عظمةُ قدرة الله بِخَرْق العادات التي أجراها الله في هذا الكون، وبالشخصيات القيادية المِقْدامة التي ترَبّتْ على دينه سبحانه وتعالى؛

1.ففي عاشوراء أوقف الله الطوفان الذي عاقب به الكافرين المستهزئين بالدعوة إلى الإيمان على مدار 950سنة، وبذلك استجاب الله لدعاء نوح: ?رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً?، واستَوَت سفينة نوح عليه السلامعلى الجودِيّ.

2.وفي عاشوراء أنقذ الله موسى عليه السلام وأغرق الطاغية فرعون (انظر مقال المنتدى: وأيضاً عاشوراء)، ولذلك سَنَّ رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم صيام عاشوراء شكراً لله واستذكاراً لجهود الأنبياء الإصلاحية ولثباتهم البطولي على المبادئ...

3.ثم في عاشوراء تأتي محطة استشهاد سيدنا الحسين رضي الله عنه  الشهيد المظلوم رَمْز الإصلاح والثورة على الظلم، والفدائية للقيم والعقائد، والشهامة والإباء.

وكانت هذه الحادثة (اسشهاد سيدنا الحسين رضي الله عنه ) حَلْقة في سلسلة المآسي والفتن التي تفيد القرائن صلتها تنفيذاً أو تحريضاً بالسبئيية (مدرسة المنافق عبد الله بن سَبأ اليهودي) منذ: اغتيال الخليفة عمر رضي الله عنه على يد أبي لؤلؤة المجوسي، إلى مَقْتَل الخليفة عثمان رضي الله عنه بعد حصار الثائرين لمنـزله، إلى مواجهات صِفِّين التي دبَّر لإشعالها قَتَلةُ عثمان بالحيل والفتن، إلى اغتيال عليّ رضي الله عنه على أيدي الخوارج... وإليك أهم الأحداث والتحليلات لِما جَرى للحسين رضي الله عنه :

الحُسَين رضي الله عنه  وعُمَلاء العرَاق: إن الحسن والحسين رضي الله عنهما هما سَيِّدا شباب أهل الجنّة وريحانتا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهم حفيداه اللذان كان يضمُّهما ويشمُّهما. ولَمّا توفي صلى الله عليه وسلم كانا دون السابعة من العمر. وقد بايع أبوهما عليٌّ رضي الله عنه كلَّ مَن سبقه من الخلفاء: أبا بكر وعمر وكان في اللجنة التي اختارت عثمان رضي الله عنه ، وساهم معهم في الشورى والقضاء وقتال المرتدين والجهاد لنشر الدين. فلما قَتل الثوارُ المارقون عثمان بايع المسلمون عليًّا بالخلافة، إلا أن معاوية (وَالِي الشامّ ووَليُّ دم عثمان فكلاهما أموي وقد أوكل أولياؤه الاقتصاص إليه) اشترط -وهو مجتهد مأجور رغم خطأه- قبل البيعة أن يقتص عليٌّ مِن قَتَلة عثمان الذين اندسّوا في صفوف أتباعه، أما علي فيطالبه -باجتهاده المصيب- بأداء البيعة حتى يستَتِبَّ الأمْن ليتسنَّى له مقاضاة القتلة للاقتصاص منهم، خاصة أنهم كثيرون يتوقَّع منهم إثارة الفتن والعصبيّات...

ودبّر الخوارجُ اغتيالَ علي ومعاوية رضي الله عنهما في يوم واحد فقُتل عليّ ونجا معاوية، وبايعَ المسلمون الحسن بن عليّ بالخلافة ولا زال معاوية متمسكًا برأيه في الامتناع عن مبايعة الخليفة عَلِيّ ومن بعده الحسن قبل أن يُقتصّ من قَتَلة عثمان. وبعد 6 أشهر اتخذ الحسن قراره -حقناً للدماء وجمعاً للصف وضجراً من صحبة الذين زعموا نصرته في العراق فتخاذلوا عن الانصياع لأوامره بل وحاولوا اغتياله- فتنازل لمعاوية بالخلافة. وبذلك تحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه: "إن ابني هذا سَيِّدٌ يُصْلِح اللهُ به فئتين من المسلمين" رواه الطبراني. وبعهد الحسن اكتملت 30 سنة من الخلافة الراشدة. قال حذيفة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تكون النبوّة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على مِنهاج النبوّة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون مُلكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون خلافة على مِنهاج النبوّة" رواه الإمام أحمد.

وقد خضع الحسين لقرار أخيه الأكبر بعد رَفْض، وبايع معاويةَ الذي دعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: "اللهم اجعله هاديًا مَهْديًّا واهدِ به" رواه الترمذي وحسنه. وبحكم معاوية سنة 41هـ تحوّل النظام إلى "المُلْك العاضّ" أي المتوارث وهو خلل في آلية انتقال السلطة رغم أنّ المرجعيّة كانت لا تزال للكتاب والسنة في الدستور، وعلى الأرض عمومًا.

بداية الأزمة: ولمّا أخذ الصحابي معاوية البيعة بالخلافة من بعده لابنه يزيد -الذي خلط عملاً صالحًا وآخر سيئًا ولم يكن من الصحابة فضلاً عن أن يكون من أَولاهُم بالخلافة- يومَها استاء الحسين، وإلا فقد غزا الحسين قبل ذلك القسطنطينية في جيش المسلمين الذي سَيَّره معاوية تحت إمرة ابنه يزيد.

فلمّا مات معاوية وآل الأمْرُ إلى يزيد امتنع الحسينُ وابنُ الزبير وغيرهما رضي الله عنهم عن مبايعته. وكان كلٌّ منهما يرشِّح نفسه لذلك المنصب. فخرجا من مكة إلى المدينة المنورة تهرُّباً من مبايعته.

أسباب الخروج: وتوافدت على الحسين الرسائل من أهل العراق فيها نَبْذُ الولاء عن يزيد والاستغاثةُ به وبيعتُه بالخلافة، حتى حملوا إليه سِجِلاً فيه أسماء 100 ألف مبايع، وفي الرسائل أن:

1.السنة أُميتتْ.

     2.والنفاق نَجَم وظَهر.

     3.والحدود عُطِّلت.

     4.وثغور الجِهاد فَرَغت.

فاقدمْ لعل الله يُصلح بك الأمة.

وبناء على ذلك بعث الحسين ابنَ عمِّه مسلمَ بن عقيل رضي الله عنهم لِيُعايِنَ ويتثبَّتَ. فلما وصل الكوفةَ أعطاه البيعة للحسين 12 ألفًا. فتهيأ الحسين للخروج إليهم. وقد استشارَ ابنَ عباس فحاول أن يصرفه عن الخروج حبًّا له، ثم سكت عن معارضته لمّا بَيّن له الحسين توقُّعَه للاغتيال في الحرم إن لم يخرج؛ قال: لأَنْ أُقتلَ بمكان كذا وكذا أحب إليّ من أن أستحلَّ حرمَتَها -يعني مكّة-.

أَخْذٌ ورَدٌّ وإصْرَار:  ورغم المخالفات الشرعية التي ظهرت في حكم يزيد إلا أن العلماء كان منهم:

1.من يَرى الإصلاح السياسي الداخلي تحت ظل النظام محافظة على الأمن وحقناً للدماء وتلافياً لِشَق الصف؛ ما دام الحاكم لم يصرِّح بالكفر ولم يُحكِّم غير الشريعة، بل الفساد جزئي بتعيين بعض الظالمين أو غير الأكْفاء.

2.ومنهم من يرى السعي لقلب النظام (مثل الحسين) كعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير وآخرين رضي الله عنهم. إلا أنهم كانوا يرون الحاجة إلى الإعداد والتحضُّر (كما فعل ابن الزبير في مكة مما أدّى إلى استشهاده).

فلما علم بعض الصحابة بتهيُّؤ الحسين قصدوه حبًّا له وكراهيةً لقتله وذكَّروه بطبائع الخيانة والجبن والعمالة في أهل العراق كما ظهر من تاريخهم القريب؛ حيث قتلوا أباه بعد أن خذلوه فمَلَّهم وكَرِههم، وطَعَنوا أخاه، وفعلوا وفعلوا. وكلهم يُنكر عليه الخروج، حتى أخبره بعضهم بتخوُّفه من أن يكون قد حان تنبؤ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتله بأرض بابل. فأجابه الحسين: (فلا بد إذًا من مَصْرَعي). ويُروى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره في المنام بالمضيّ لذلك الأمر.

   فلما خرج بَلَغَه خبرُ تفرُّقِ الناس عن ابن عمه مُسلم ومَقتلُه. فقال: (لقد خَذَلَتْنا شيعتنا!)، واستشار أصحابَه وكان فيهم نحو 19 شابًّا من أهل البيت: فأشار عليه ابنُه علي الأكبر بالرجوع، أما بنو عقيل فقرروا الثباتَ والثأرَ لأخيهم مُسْلم رضي الله عنه . فثَبَتَ معهم ولكنه جَعَل الناسَ في حِلّ من إكمال المسيرة: (ما أرى القومَ إلا سيخذلوننا، فمن أحب أن يرجع فليرجعْ).

مُحَادَثَةٌ وَحَادثَة: وتواجه الحسين في 45 فارسًا ونحو 100 راجل مع جيش يقابلهم من 4000 مقاتل فيهم: الزنديق الفاجر، والضعيف المتخاذل الذي وقع بين المطرقة والسندان فاختار التظاهر بتنفيذ الأوامر العسكرية دون مَسّ رَكْبِ الحسين بأي سوء، في أرض كربلاء. ومما يدعو للاستهجان -رغم أنه صار معتادًا متكررًا- أنه قد انضم إلى جيش عبيد الله بن زياد (والي يزيد) لمحاربة الحسين كثير من الذين بَعثوا إليه رسائل التحريض وبايعوه على الموت عبر ابن عمه مسلم بن عقيل!

عندها عرض الحسين على الجيش الذي بعثه عبيد الله أن يختاروا واحدة من ثلاث: 1.إما أن يَدَعوه فيلحقَ بالثغور الحدودية لجهاد الكافرين  2.وأما أن يذهب إلى يزيد فيتفاوض معه مباشرة  3.وأما أن يرجع إلى المدينة. فرفض عبيد الله بن زياد تلبية أَيٍّ من تلك العروض حتى يضع الحسين يده في يده. فقال الحسين: "لا والله".

ووقعت المواجهة وكان أصحاب الحسين يفدونه بأنفسهم ويموتون دونَه فَهُم مَن عاهدوه صادقين قائلين: (لا أبقانا الله بعدَك، واللهِ لا نفارقك)، حتى ماتوا عن آخرهم وفيهم أخواه: أبو بكر وعثمان ابنا عليّ رضي الله عنهم . وهناك انفرد الحسين فكان يقاتل قتال الفارس الشجاع، وقد تهيَّب الجيش الظالم عن الإجهاز على ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى حرضهم شِمْر بن ذي الجوشن فتَشارك في لعنةِ الله وجريمة قَتلِه وقطعِ رأسه مع سِنان النخعي وخَولي الأصبحي.

فكانت العِزَّة والشهادة للحسين ولمن معه، وكانت الذِّلَّة واللَّعنة على مَن باشَرَ قَتْله أو أَمر أو رضي به لأنهم آذَوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بقتل حفيده ظُلماً فتَنَاولهم قولُ الله تعالى: ?إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً? [الأحزاب: 57]، وكان الإثم والعار على يَزِيد الذي قد يتفهم قارئوا التاريخ حبَّه للكرسي وتمسُّكَه به ومحاولةَ قمعِ ثورة الحسين حفاظًا على مُلكه خضوعاً للهوى والشهوات، ولكن الذي لا يمكن تفهّمه هو:كيف يولِّي على الإمارة وقيادة الجيوش فاجِرِين أمثال أولئك الذين استهدفوا قَتْل الحسين حتى عندما عَرَض التهدئة، ثم لم يعاقبهم يزيد ولم يقتص منهم! مكتفيًا بأن "دَمعتْ عيناه وقال: "كنتُ أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين... فرحم الله حسينًا، عجّل عليه ابنُ زياد... ولَوَددت أن أُتِيْتُ به سلمًا"!

وقد خَلَّد الحسين كلمات أطلقها، كان منها: 

(اللهم احكم بيننا وبين قومنا؛ دعَونا لينصرونا، ثم يقتلوننا. اللهم إن أهل العراق غَرُّوني وخدعوني، وصنعوا بأخي ما صنعوا. اللهم شتِّتْ عليهم أَمْرَهم، وأَحْصِهم عَددًا).

ولئن كان خروج الحسين الإصلاحي غير متكافئ في العدد والعدّة مما يجعله غير واجب في تلك الظروف، وقد يعتبره المادّيون مغامرة أو انتحارًا، ولكنه شجاعة وبطولة مباحة لأصحاب العزائم وهي في المعيار النبوي قِمة الشهادة. قال صلى الله عليه وسلم: "سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ ورَجُلٌ قَامَ إلى إِمَامٍ جَائِزٍ فََامَرَهُ ونَهَاهُ فَقَتَلَهُ". رواه الطبراني في الأوسط والحاكم. فذلك التفاوت في الإمكانات المادية يسقط عنه وجوب المبادرة إلى تغيير تلك المنكرات من باب "الرخصة" التي اعتمد عليها المقتنعون بفكر الحسين يومَها، ولكن ذلك التفاوت لا يلغي "العزيمة" لأصحاب الهمم العالية كالحسين وأمثاله من الذين فهموا طرحه وسلكوا نهجه في كل زمان وكل مكان الذين سطروا شعار "كلُّ أَرض كَرْبَلاء وكلُّ يومٍ عاشوراء" بالدم لا بالهتافات؛ كالشرفاء الحسينيين الذين صمدوا في الفَلّوجة أمام أحفاد "شمر وسنان وعبيد الله ابن زياد" الذين بعثهم مَن هو شر مِن يزيد ليتكرر "المَشْهد الحُسيني" وتنقشع الغبار التي أحدثتْها كل الأسلحة الفتاكة عن شعار "الفلوجة كَرْبَلاءُ العَصر".

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين