وأيضاً عاشوراء - عاشوراء

في بداية كل عام هجريّ جديد يَتَذَكُّّر المسلمون حادثةَ الهجرة التي كانت منعطفًا في المسار الإسلامي العام؛ من "القِلة المستضعَفة" إلى "التمكين في الأرض". ثم يُعيد اليومُ العاشر من محرّم إلى الأذهان "محطات تاريخية"، ليست متطابقة على نَسَق واحد ولكن القاسم المشترك الذي يجمع بينها هو: طابع العظمة، وتَوَفُّر القائدِ الذي يتمتع بسمات: المؤمن الواثق بوعد الله، الفاهمِ لطبيعة دوره في الحياة، الواعي لمعاني النصر الحقيقي وأشكاله ووسائل تحقيقه. وإليك في هذا المقال نموذجاً منها:

موسى وعَبيدُ بني إسرائيل: وُلد موسى عليه السلام وبنو إسرائيل في مِصر قد استحكم فيهم الذل، وتغلغلت في أعماقهم نفسيةُ الخَدَم والعبيد جيلا ًبعد جيل، وتحكَّم فرعونُ وآلُه بمصائرهم بعد ما صادر ثرواتِهم وعَزَلهم من المناصب والمراكز الحيوية، حتى كان فرعون يُذَبِّح أبناءَ بني إسرائيل الذكور في محاولة للتخلّص من النبي الذي أُشيع انتظاره. ومن عظمة قدرة الله: تقديرُه أن يتربَّى موسى في قصر فرعون؛ يتنفس فيه هواء الحرية ويترعرع في كَنف النفوذ والقوة، وفي الوقت نفسه يُعاد إلى أمه يُستَرضَع عندها بالأُجرة كما ورد في سورة القصص في القرآن الكريم...

وبعد مناورات بين موسى وفرعون، وكَرٍّ وفَرٍّ، ومحاولات لإقناع بني إسرائيل بوجوب  الخضوع لله وَحْدَه والتحرر من الذل، وبأن ذلك ممكن، وأن فرعون لا يَبْلُغ أن يُغالِب قوةَ الله ويتحدى وُعودَه بنصر المؤمنين...

وبعد جهود امتدت نحو 20 سنة من: "القَول اللَّيِّن" والتذكير والحوار مع فرعون، و"المناظرات" مع سَحَرته عَلَناً أمام الجماهير، و"الدعوة والتربية" مع بني إسرائيل الذين سحقهم الاستضعاف وابتعدوا عن إيمانهم ومقتضيات عقيدتهم... بعد هذه السنوات ورغم المواجهة الشرسة من فرعون وممارسات التعذيب والقتل: ثَبَت سيدُنا موسى عليه السلام وثَبَّتَ مَن اتبعه من المؤمنين.

ثم خرج بقومه من مصر تجاه فلسطين فتجهَّز فرعون هذه المرة ليقود جيشه بنفسه لاستئصال "الشِّرذمة القليلة" الذين آمنوا بالله واستعصَوا على السيطرة لينال شرف قَمع "إرهابهم" في نحو 600 ألف جندي. فلما رأى أتباعُ موسى أن البحرَ الأحمر مِن أمامهم وفرعونَ مِن ورائهم ظنوا أنهم في نهاية المطاف فقالوا: إنّا لَمُدْرَكون. فأجابهم موسى: كَلا؛ إنّ مَعِيَ ربي سيَهدينِ! فضرب البحرَ بعصاه فانفلق بإذن الله فخاض موسى وأتباعُه اليابسةَ (قعر البحر)، أما فرعونُ فـ "رَكِب رأسَه" وأعماه الكِبْر ولم يَتُبْ ويَعتبِر أمام هذه الآية المعجزة، فخاص قعر البحر فانطبق فأغرقه الله وجنودَه الذين حَمَوا طغيانه وأرسَوا عرشَ ظلمه و"رَكِبوا الموجة" طَمَعاً بالرواتب أو لأن الواحد منهم "عَبْد مأمور"! بَدَل أن يواجهوا كُفرَه وإفساده، أو على الأقل ألا يعينوه. وهكذا نصر الله الفئة القليلة على الطغيان المستحْوِذ على القوة المادية والسلطة.

ولمّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنوّرة رأى اليهود يصومون عاشوراء، فسأل عن سبب ذلك فقال ذلك يوم نَجّى اللهُ فيه بني إسرائيل وموسى من فرعون. فقال صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بموسى منهم" وصام عاشوراء وسَنَّ صيامه، ولمخالفة المشركين أرشد إلى صيام التاسع من محرم مع العاشر.

فعندما نصوم ينبغي أن نتذكر لماذا نصوم وكيف استطاع موسى عليه السلام أن يحرِّر عبيد بني إسرائيل وأن يفعِّل الإيمان في قلوبهم ويحمِّلَهم مسؤولياتهم حتى قادهم إلى إحدى محطات النصر. هكذا يمكن أن نفهم حقيقة عاشوراء وسُنّية الصيام فيه باختصار. ويُمكنك الاطلاع على محطة أخرى هي الحسين رضي الله عنه وخَونة العراق في مقال "كلُّ يوم عاشوراء".

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 18-8-2021

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين