وقفات وتأملات مع سيول جدة - سيول جدة وتأملات معها

وقفات وتأملات مع سيول جدة،،

بقلم د. محمد ياسر المسدي

الحمد لله ربَّ العالمين وأفضل الصلاة وأتم التسليم على البشير النذير محمد وعلى آله وأصحابه.
وبعد :
فإن الحدث الأليم الفاجع الذي أصاب مدينة جدة يوم الأربعاء في الثامن من ذي الحجة يوم التروية حيث يتوجه الحجيج إلى منى، ويستعد الآخرون لاستقبال يوم عرفة بالصوم وبعده لاستقبال أيام العيد بالفرحة والسرور بعد العبادة   في الأيام المعدودات وإذا بالفرحة تختلط بالأسى والحزن حيث الأمطار الغزيرة التي هطلت على جدة وتبعها السيل الجارف الذي أتى على كل شيء في طريقه مهما كان ثقيلاً أو كبيراً.
فتهدمت البيوت وشرد أهلها ، وتلاطمت السيارات ببعضها حتى أصبحت كأنها دمى أطفال في هذا السيل الجارف..  كما أتى السيل على المحلات التجارية حتى أصبحت أثراً بعد عين يحسب الرائي لتلك الأماكن التي أصابها السيل أنه أمام مخلفات حرب مدمرة ، وآخر يقول كأن القيامة قد قامت .
هذا بالإضافة إلى سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والجرحى مما جعل الناس يعيشون في ذعر ورعب لم يسبق له مثيل في هذا البلد الطيب المبارك.  
أمام هذا الحدث المروع لا بد لنا من وقفات تأمل ومراجعة حيث إن الله تبارك وتعالى ندب أصحاب العقول والألباب إلى التفكر والتبصر فيما يحدث في الكون من آيات لأخذ الدروس والعبر                                             فقال تعالى :[ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ] {الحشر:2}  .      
وأجمل الوقفات فيما يلي :
أولاً :   ينبغي أن لا نعتبر الحدث حدثاً عابراً يسيراً ، بل ينبغي ان ننظر إليه على أنه حدث فيه الكثير من الدروس والعبر والمفاجاءات التي لا تخطر ببال إنسان ، وقد لاحظنا كثيراً من هذا .
ثانياً :   ليس كلُّ بَلاء ينزل بأهل الأرض عقوبة ولكن لا يخلو من التحذير والنذير ، وخاصة أن الله تعالى عذَّبَ قوماً بالأمطار ، وعَذَّبَ آخرين بالسيل ، وعذَّبَ قوماً بالرياح ، فعذب قوم نوح بالأمطار والينابيع                            فقال تعالى :[فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ] {القمر:11ـ12}  وقال عن قوم سبأ : [فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ] {سبأ:16}
فسبأ قبيلة معروفة مشهورة، مسكنها مأرب، وقد كانوا بنوا سداً محكماً تجتمع فيه المياه ثم يفرقونها على بساتينهم عن يمين الوادي وشماله، فكانت بلدهم جنات وارفات تزخر بالثمار اليانعات، فكفروا بنعم الله تعالى وجحدوا بها فأرسل الله تعالى عليهم سيل العرم..  
تلك السيل التي حملت في طريقها كلَّ شيء أتت عليه من صخور وبساتين وقرى بأكملها.  
كما عذب قوم عاد بالريح العقيم قال تعالى: [وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ] {الذاريات:41ـ42}
ثالثاً :   ينبغي على المؤمن إذا نزلت به أو بمن حوله مصيبه أن يراجع حساباته ويهرع إلى الله تعالى بالتضرع والإنابة. وقد وجهنا الله تعالى إلى ذلك في سورة الأنعام حيث يقول تعالى : [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ] {الأنعام:42ـ44}
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم وأحبُّ الخلق إلى الله تعالى ، وعصره خير العصور إذا رأى غيماً أوريحاً عُرف الخوف في وجهه .
فقد روى الإمام أحمد رحمه الله عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف ذلك في وجهه قالت : يارسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفتُ في وجهك الكراهية ؟  فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  ( ياعائشة يايؤمنني أن يكون فيه عذاب ، قد عُذب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب ، وقالوا هذا عارض ممطرنا ) .
وفي ذلك إشارة إلى قوله تعالى : [فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ] {الأحقاف:24ـ25} .
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : ( اللهم إني أسالك خير ها وخير مافيها ، وخير ماأرسلت به واعوذ بك من شرها وشر مافيها وشر ماأرسلت به ) .
وروي عنه أيضاً صلى الله عليه وسلم أنه قال : إذا وقعت كبيرة ، أو هاجت ريح عظيمة ، فعليكم بالتكبير ، فإنه يجلو العجاج الأسود ) الأذكار عن ابن السني ص 125و126
وروى الإمام الشافعي بسنده إلى ابن عباس رضى الله عنهما قال : ماهبت الريح إلا جثا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتيه وقال : اللهم اجعلها رحمة ولاتجعلها عذاباً ، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً ) .
والرياح وردت في القرآن الكريم في مقام التبشير والنفع قال تعالى :[وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ] {الحجر:22}  وقال أيضاً : [وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ] {الرُّوم:46}.
أما الريح فجاءت في صدد الحديث عن العقوبه قال تعالي : [فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ] {فصِّلت:16} وقال أيضاً : [وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ العَقِيمَ] {الذاريات:41}.
رابعاً : العقوبة إذا نزلت فإنها لا تنزل على أهل المعاصي فقط بل إنها تنزل على الجميع ، فالبلاء يعم ، والرحمة تخص       قال تعالى : [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16} فالعقوبة هنا ليست للمترفين فقط بل لكلِّ أهل القرية ، ثم يُبعثُ كلُّ شخص على نيته وعمله ، وقد جاء في الحديث الصحيح الذي ترويه السيده عائشة رضى الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم قالت : قلتُ يارسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ( أي : عامة الناس الذين لايعلمون لماذا خرجوا ) قال : يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم )) متفق عليه .
خامساً : الابتلاء سنة الله تعالى في مخلوقاته قال تعالى : [وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ وَالجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ] {البقرة:155} .
والبلاء رحمةٌ وأجرٌ للصابرين ، وعقوبة للجاحدين والظالمين ، فالمؤمن شاكرٌ في السراء صابرٌ في الضراء أمره دائماً إلى خير كما قال صلى الله عليه وسلم : ( عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ... إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) .
والابتلاء في هذه الحادثة يتناول الفئات التالية :
•    مَنْ قضى نحبه فكانت منيته في هذا السيل فهو شهيد بإذن الله تعالى وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه         قال : ( الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله : المطعون شهيد والغَرِق شهيد ، وصاحب ذات الجنب شهيد ، والمبطون شهيد ، وصاحب الحرق شهيد ، والذي يموت تحت الهدم شهيد ، والمرأة تموت بجمع شهيدة ) ومعنى تموت بجمع : أي حال الولادة ((رواه أحمد وأبوداود والنسائي بسند صحيح)) .
•    أهل الشهيد : وهم مأجورون إن صبروا واحتسبوا قال تعالى : [الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ] {البقرة:156ـ157}. فالصلوات والرحمة والهداية لم تجمع في القرآن الكريم إلا للصابرين .
•    المصاب اختبار لأهل البلد الذين حفظهم الله وسلمهم من ناحيتين :
 أولاً : ليظهر تكافلهم وتعاطفهم مع الأسر المنكوبة وهل يتحقق فيهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم :           ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر ) .
     وبفضل الله تعالى فقد تناقل الناس أخباراً كثيرة تفيد تضحيات كثيرين ممن كانوا في الحدث وقاموا بإنقاذ أعداد كبيرة من المصابين وانتشالهم من الغرق حتى إن أحدهم أنقذ أكثر من عشرة أشخاص حتى عاجله السيل فقضى نحبه ، فقد أعطى أولئك أروع الأمثلة في التضحية والإيثار فرحم الله تعالى كلَّ من بذل واجتهد في إسعاف المصابين وجزاه أفضل الجزاء ، كما ظهر التلاحم والترابط في إقبال أعداد كبيرة من المتطوعين في العمل الخيري على الجمعيات الخيرية لتقديم كل ما يستطيعون من خدمات لإيواء المشردين وإطعام الجائعين ، ومسح دموع البائسين ، هذا بالإضافة إلى وقوف ثلة مباركة من رجال الأعمال والتجار في بذل مالهم وما يستطيعون مساهمة منهم في ذلك ولقد توّج ذلك كله وقفة خادم الحرمين عبدالله بن عبدالعزيز وفقه الله ورعاه بكلمته التي أثلجت صدور المكلومين بداية من المبلغ السخي الذي وعد به أسر الشهداء وانتهاءً بالتشديد على محاسبة المقصرين ، وتشكيل لجنة للتحقيق في الإهمال الذي تعاني منه مدينة جدة منذ أمد بعيد ، من عدم وجود شبكة صرف صحي إلى عدم تأمين مجرى للسيل استعداد لمثل هذه المفاجأة ، لاشك أن ما حصل بقضاء الله وقدره ولكن نحن مأمورون بأن ندفع قدر الله بقدر الله ، وذلك بالأخذ بالأسباب والاستعداد للمفاجآت ، ولعل من الخير الناتج عن هذه الكارثة أن يكون هذا الحدث سبباً قوياً للحيلولة دون الفساد ، والجد في محاسبة ومساءلة المقصرين وأنه ليس أحد فوق المساءلة كما أشار إلى ذلك خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ورعاه في كلمته التي توجه بها إلى الشعب عامة وإلى من المنكوبين خاصة من المواطنين والمقيمين .
    ثانياً : ليكون في ذلك عبرة وعظة في العودة إلى الله تبارك وتعالى والتأهب للقائه ، فالموت يأتي بغتة ولن يأخذ الإنسان من هذه الدنيا سوى عمله ، فإن كان صالحاً فقد أفلح وانجح وإن كان طالحاً – والعياذ بالله – فقد خاب وخسر والموفق مَنْ وفقه الله للتوبة والإنابة قبل أن لاينفع الندم قال تعالى :[وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ] {الزُّمر:54} [وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ المُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ] {الزُّمر:55ـ58}

وختاماً أسال الله سبحانه وتعالى أن يرحم الشهداء وأن يلهم أهليهم الصبر ويعوضهم الخير ، كما نسأله أن يحمي هذا البلد المبارك وسائر بلاد المسلمين من كل سوء ومكروه ، وأن يوفق ولاة أمور المسلمين لما فيه خير الإسلام والمسلمين في الدنيا الآخرة ، وأن يرزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه ، إنه أكرم مسئول ونعم المجيب .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين