فتنة الـ(أنـــــــا)

 

الفتن كثيرة وعديدة ووفيرة ، عددنا منها في السابق فتنة النساء ، وفتنة المال ، وفتنة الشهرة ، وفتنة الزوجة والأولاد ، لكن ثمة فتنة هي أخوف وأضعف( من الضِّعف ) ... وهي أبلغ وأشنع ... هي أكثر تهديداً للمرء وأسرع تأثيراً وأوسع تدميراً ...هي فتنة ال( أنا) ... فتنة الأنانية ... فتنة الإعجاب بالنفس...  فتنة الاغترار بالذات ... فتنة الزهو بما تملك من قوة وحول ومال وطول...  وأنك فعلت ما فعلت وبلغت ما بلغت بنفسك وحققت ما حققت من نجاحات بذاتك دون قوة خارجية ودون توفيق إلهي والعياذ بالله ... هنا تقع على أم رأسك ، وتزل بك القدم ، وتتردى في سوء تقديراتك وأعمالك ... وما أحسن قول الشاعر : 

إِذا لَم يَكُن عَونٌ مِنَ اللَهِ للِفَتى       فَأَكثَرُ ما يَجني عَلَيهِ اِجتِهادُهُ

وفي رواية للبيت أخرى : فأول ما يقضي عليه اجتهاده ... فعليك أيها الإنسان أن تدرك قصور باعك وضعف قدراتك ، وتخرج من حولك وقوتك إلى حول الله وقوته ، فإن فعلت وفقك الله وأنجح مقاصدك وبلغك مآربك ، وإن لم تفعل وكلك إلى اجتهادك ، وودعك وتقديراتك ، فصار الهلاك قرينك ، والفشل نديمك ، وتدميرك في تدبيرك ... 

ولو ألقينا نظرة عجلى على بعض من اغتروا بأنفسهم ، وانخدعوا بما يملكون من قدرات وخصائص ، وبغوا وطغوا ، ما كان مصيرهم ؟ لرأينا صدق ما قلناه .

ففرعون الذي قال لقومه يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53)( الآيات من سورة الزخرف ) ...وتمادى في الطغيان إلى أن قال : أنا ربكم الأعلى ... ما كان مصيره ؟ أهلكه الله فأخذه نكال الآخرة والأولى . 

ونمرود بن كنعان الذي حاج إبراهيم في ربه وجادله فيه ظل يتجبر أربعمائة عام فعذبه الله تعالى بعدد سني تجبره ، وكان عذابه صورة فريدة ... اذ دخلت بعوضة في منخره ، فمكث يضرب رأسه أربعين عاماً ، وكان لا يهدأ عليه حتى يضرب النعال والقباقيب والمطارق . 

في القرآن أيضاً ضرب الله عز وجل لنا مثلاً رجلين أحدهما يرى كل ما أوتيه إنما هو بمحض قوته وتدبيره وتفكيره وتخطيطه ... والآخر يذكره ببشريته ، وأنه لا يملك من أمر أمره شيئاً ، يقول تعالى : وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالا وَأَعَزُّ نَفَراً (34)

وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالا وَوَلَداً (39)

فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى مَا أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44).

وقال عن قارون حين لامه وأرشده اهل العلم من قومه وذكروه بأن ما يرفل فيه من نعمة إنما هو من صنع الله تعالى : إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يَا لَيْتَ لَنا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79)

وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83).

 وقال في سورة الزمر  : فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49).

فتنة أن يعجب الإنسان بنفسه ويزهى بها... فتنة أن يقول : أنا فعلت وأنا عملت وأنا خططت وأنا دبرت ... دون أن يخطر بباله أن جميع ما هو فيه إنما هو من لطف الله وجميل صنعه به وإنعامه عليه ... عندها يكله إلى نفسه ويجعل تدميره في تدبيره . 

لذا ورد في بعض الأثر أن عليه الصلاة والسلام كان يكثر أن يقول : «لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» 

وطرفة العين قدرها بعض العلماء اليوم بما يستغرق حوالي 170 جزءاً من ألف من الثانية  ...

حتى في تلك اللحظة اليسيرة لا تتركني ووحدي ... ولا تذرني وتدبيري فأنا أضعف ما أكون حينما أكون لوحدي. 

 ومن دعاء أبي عثمان عمرو بن بحر رحمه الله في فاتحة كتابه البيان والتبين : اللهمّ إنّا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل، ونعوذ بك من التكلّف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العجب بما نحسن، ونعوذ بك من السّلاطة والهذر، كما نعوذ بك من العيّ والحصر.

فمن أنت أيها الإنسان ومن تكون وماذا تظن نفسك ؟ أنت إنسان ضعيف ، هذا ما يقوله ربك عنك وهو أعلم بك { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً }النساء28... لا يملك من أمر نفسه شيئاً .. لا يقوى على وقاية نفسه من الردى . 

هل أنت إلا من لحم ودم ... هل أنت إلا نطفة في شنة ...كما قال عبد الله بن رواحة مخاطباً نفسه وقد ترددت في أرض المعركة ...

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ ... لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ

إنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرّنّه ... مَا لي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ

قَدْ طَالَ مَا قَدْ كُنْتِ مُطْمَئِنَّهْ ... هَلْ أَنْتِ إلَّا نُطْفَةٌ فِي شَنَّهْ 

مهما علا أمرك وزاد قدرك وأقبلت النفوس عليك ، قال عروة بن الزبير رضي الله عنهما : رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على عاتقه قربة ماء، فقلت: "يا أمر المؤمنين؛ لا ينبغي لك هذا، فقال: لما أتاني الوفود سامعين مطيعين، دخلت نفسي نخوة، فأردت أن أكسرها".

وكسر النفس أيها السادة يكون بتعريفها بحدودها ... بقدراتها المحدودة ... بمعرفتها بأصلها وحقيقتها ... رَوَى الأَصْمِعِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَّ الْمُهَلَّبُ بْنُ أَبِي صُفْرَةَ عَلَى مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَهُوَ يَتَبَخْتَرُ فِي مَشْيَتِهِ فَقَالَ مَالِكٌ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ هَذِهِ الْمِشْيَةَ تُكْرَهُ إِلا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُهَلَّبُ: أَمَا تَعْرِفُنِي؟ قَالَ: أَعْرِفُكَ أَوَّلُكَ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ وَآخِرُكَ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ وَأَنْتَ بَيْنَهُمَا تَحْمِلُ الْعُذْرَةَ، فَقَالَ الْمُهَلَّبُ: الآنَ عَرَفْتَنِي حَقَّ الْمَعْرِفَةِ ( تاريخ الإسلام للذهبي ) .

فالحذر الحذر أخي وأختي أن تصرفنا أنفسنا وفتنتنا بها عن خالقنا سبحانه ... فالإنسان قوي بربه ضعيف بسواه ، وما أجمل دعاء الداعي : يا رب إن كنت معي فمن عليَّ ... وإن كنت عليَّ فمن معي . 

اللهم كن معنا ولا تكن علينا ... وامكر لنا ولا تمكر بنا يا رب العالمين ...

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين