خطبة في حجة - خطبة في حجة

خُطبة في حجَّة ([1])

أخرج مسلم من حديث جابر بن عبد الله أنَّ النبيَّ ^ خَطَبَ النَّاس في حجَّة الوَدَاع، فقال: >إنَّ دِمَاءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم، كحُرمةِ يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية مَوضوعة، وإنَّ أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، وربا الجاهلية موضوعة، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس ابن عبد المطلب فإنَّه موضوع كله، فاتقوا الله في النساء، فإنَّكم أخذتموهنَّ بأمان الله، واستحللتم فُروجَهُنَّ بكلمة الله، ولكم عليهن ألا يُوطئن فرشَكم أحداً تكرهونه، فإن فعلنَ ذلك فاضربوهنَّ ضَرْباً غير مُبرِّح، ولهنَّ عليكم رزقهن وكسوتهنَّ بالمَعروف، وقد تركت فيكم ما لن تضلُّوا بعدَه إن اعتصمتم به كتاب الله، وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون ؟ قالوا: نشهد أنَّك قد بلَّغت، وأديَّت، ونصحت. فقال بأصبعه السبابة، يرفعها إلى السماء، وينكثها إلى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد ثلاث مرات<([2]).

لا خلاف بين العلماء في أنَّ النبي ^ لم يحجَّ بعدما هاجر من مكة إلى المدينة سوى حجة واحدة وهي حجَّة الوداع، ولا خلاف بينهم كذلك في أنَّ هذه الحجة كانت في السنة العاشرة للهجرة.

فبعد أن مكث النبي ^ بالمدينة تسع سنين لم يحج خلالها، اعتزم في السنة العاشرة الذهاب إلى مكة لأداء الحج، فأعلم الناس بذلك وأشاعه بينهم، ليتأهَّبُوا له، ويتعلَّموا المَنَاسك والأحكام، ولتنتشر دعوة الإسلام، وتبلغ القريب والبعيد.

وفي يوم السبت لست بقين من ذي القعدة - على أصحِّ الأقوال - خَرَج من المدينة نَهَاراً، بعد أنْ صلَّى الظهر بها أربعاً، وخَطَب الناس خطبة علَّمهم فيها الإحرام وواجباته وسننه، وقد خرج معه خَلائق لا يُحْصَون، فكانوا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله مدَّ البصر، وقد قدَّرهم البعض بتسعين ألفاً، وقدَّرهم آخرون بأربعة عشر ومائة ألف، وساروا حتى بَلَغوا ذا الحُليفة، فنزلوا بها، وأقاموا فيها ليلتهم وأحرموا منها.

وفي اليوم الرابع من ذي الحجة بلغ الحجيج مكة، فدخلها النبي ^ نَهَاراً من أعلاها، من الثنيَّة العُليا التي تُشرف على الحُجُون، ولما دخل المسجد عَمَدَ إلى البيت فاستلم الحجر الأسود وقبَّله، وطافَ بالبيت سَبعاً، فلما كان يوم التروية - وهو اليوم الثامن من ذي الحجة - توجَّهوا إلى منى وباتوا بها، وعندما طلعت الشمس سار النبي ^ إلى عَرَفة، فوجد القُبَّة التي أَمَر بها، قد ضُرِبت له بِنَمِرَة - وهي قريبة شرقي عرفات - فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء([3])، فوضع عليها الرحل، ثم سَارَ حتى أتى بطن الوادي من أرض عُرنة، فَخَطَبَ الناس وهو على الراحلة خُطبة عظيمة، قرَّر فيها قواعد الإسلام، وهَدَم فيها قواعد الشرك والجاهليَّة، على نحو ما أثبتناه من حديث جابر في هذر هذه الكلمة.

وقد قَالَ النووي عن هذا الحديث: إنَّه حديث عظيم مُشتمل على جُمل من الفوائد ونَفَائس من مُهمَّات القَواعد، وهو من إفراد مسلم، لم يَرْوِه البخاري في صحيحه، ورواه أبو داود كرواية مسلم.

وقال عنه القاضي عِيَاض: وقد تكلَّم النَّاس على ما فيه من الفقه وأكثروا وصنَّف فيه أبو بكر ابن المُنذر جُزءا كبيراً، وخرَّج فيه من الفقه مائة ونيفاً وخمسين نوعاً، ولو تُقُصِّي لزيدَ على هذا القدر قريب منه.

وفي الحق أنَّ هذه الخطبة - وخصوصاً النص الذي أخرجه ابن إسحاق - لم تتضمَّن فروعاً من الفقه فحسب، بل تضمَّنت كثيراً من أصول التشريع، وضروب الإصلاح، وفنون السياسة، وشؤون الاجتماع، وتعرَّضت من قريب ومن بعيد لكل ما يتصل بمَصَالح الناس في مَعَاشِهم وفي مَعَادِهم؛ فهي تقرِّر - كما جاء في رواية ابن اسحاق - تحريم المُحرَّمات التي اتفقت المِلَل كلها على تحريمها، وهي الدماء والأموال والأعراض، وتُشبِّهُها في حرمتها بحرمة يومهم وشهرهم وبلدهم، وكان ذلك أمراً مُسلَّماً به عندهم، وتخبر أنهم سيلقون ربَّهم، وأنَّهم مسؤولون عن أعْمَالِهم، وأنَّهم مُطَالَبون بأداءِ الأَمَانة إلى من ائتمنهم عليها، وأنَّ أُمورَ الجاهليةِ كلها مَوضوعة، وأنَّ رِبَاها بَاطل، ودماءَها مُهْدَرة، وتنبئ بيأس الشيطان من عبادته في أرضهم هذه، وبطمعه في مُحقَّرَاتِ أعمالهم، ومُستصغرات أمورهم، وتحذِّرُهم منه على دينهم؛ وتتحدَّث إليهم عن النَّسيء، وزيادتِه في الكفر، واستدارة الزمان، وعدَّة الشهور، وبيان الحُرم منها وغير الحُرم، وتوصيهم بالنساء خيراً، وتُبيِّن لهم الحقَّ الذي لهنَّ وعليهنَّ، والظروف التي يُباح فيها للرجل تأديبهنَّ، كما توصي بالاعتصام بكتاب الله، وسنَّةِ رسوله ^، وتخبرهم أنَّهم لن يضلُّوا ما داموا مُعْتَصمين بهما، وأخيراً تُطَالبهم بالسمع والفَهْم، وبمعرفة أنَّ المُسلمَ أخٌ للمسلم، وأنَّ المُسلمين جَميعاً إخوة، وأنَّه لا يحلُّ للأخ من أخيه إلا ما أعطاه إياه عن طيب نَفْسٍ منه، وتأمرهم بالابتعاد عن الظلم.

فأنت تَرَى من كل هذه المبادئ والتَّعاليم، والوَصَايا والإرشادات، والحِكم والأحكام التي اشتملت عليها هذه الخطبة، أنَّها يصحُّ أن تُعتبرَ بحق وثيقةً إسلاميَّةً هامَّةً، وأن تُعَدَّ من أوفَى الوثائق، وأجمعها لأحكام الدنيا والدين.

وإنَّ المُتتبِّعَ للسنَّة الصحيحة الواردة في حجَّة الوَدَاع، يجد أنَّ النبيَّ ^ لم يقتصرْ في هذه الحجَّة على هذه الخطبة وحدَها، بل إنَّه لمَّا رَجَع إلى مِنَى خَطَب الناس خُطبةً بليغة أعلمهم فيها بحُرْمَةِ يوم النَّحر، وتحريمه وفضله عند الله، وحرمة مكَّة على جميع البلاد، وأمرهم بالسمع والطاعة لمن قَادَهم بكتاب الله، وبأخذ مناسكهم عنه، وبأن لا يرجعوا بعدَه كُفَّاراً يضرب بعضهم رِقابَ بعضٍ، وبالتبليغ عنه، وقال لهم: >اعبدوا ربَّكم، وصَلُّوا خمسَكم، وصوموا شهرَكم، وأطيعوا صاحب أمركم، تدخلوا جنة ربكم<([4]).

وأنزل المُهَاجرين عن يمين القِبْلة والأنصار عن يسارِها، وفتحَ اللهُ له أسماعَ الناس، حتى سمعها أهل منى في منازلهم. وكذلك لم يقتصر ^ على الخُطَب وحدَها، بل كانت هناك أيضاً الإجابات الكثيرة على الأسئلة التي كانت تُوجَّه إليه، والبيانات المُتعدِّدَة التي كان يُبيِّن فيها الأعمال والمَنَاسك، وما يتعلَّق بها من تَقْديم وتأخير وتمهُّل وتعجيل وترتيب وغيرها.

وهكذا لم تَنْقَضِ هذه الحجَّة حتى كان النبي ^ قد أَرَى النَّاسَ مَنَاسِكَهم، وأعلمهم ما فَرَضَ الله عليهم من الموقف، ورمي الحجار، والطواف بالبيت، وما أحلَّ لهم من حجِّهم، وما حرم عليهم.

وقد سميت >حجَّة الوداع<؛ لأنَّ النبي ^ ودَّعَ النَّاس فيها وبعدها، ولأنَّها كانت آخر حجة له. وسميت >حجة الإسلام لأنَّه لم يحجَّ من المدينة بعد فرض الحج غيرها.

وسميت >حجَّة البلاغ<  لأنَّه بلَّغ فيها الشرع في الحج قولاً وفعلاً. وسمِّيَت >حجة التمام والكمال لأنَّ الله أكمل للناس فيها أمر دينهم، وأتمَّ عليهم نعمته. ويشهد لهذا أنَّه ^ لمَّا وَقف في ذيل الجبل عند الصخرات، ونزل عليه قوله تعالى:  ?? ? ? ? ?  ? ? ? ? ? ?? [المائدة:?] وأخذ يتلوها، سمعه أبو بكر فبكى، لأنَّه فَهِمَ أنَّ النبي ^ قد تمَّت رسالتُه، ودَنَا أجلُه.

عَرَضَ الحديث فيما عرض له، إلى بيان حُرمة سفك الدماء، وأخذ الأموال بالباطل، وشبَّه ذلك في التحريم بيوم النحر، وبذي الحجة، وبمكة؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها مُحرَّمة أشدَّ التحريم، لا يُستباح منها شيء، وفي تشبيه هذا مع بيان حُرمة الدماء والأموال تأكيد لحرمة تلك الأشياء التي شبه بتحريمها الدماء والأموال، وهذا من تشبيه ما لم تجرِ به العادة بما جرت به العادة، كما في قوله تعالى:  ?? ? ? ? ? ?? [الأعراف:???] إذ كانوا يَستبيحون دِماءَهم وأموالَهم في الجاهليَّة في غير الأشهر الحُرُم، ويُحرِّمُونها فيها، فكأنَّه قال: إنَّ دماءَكم وأموالكم مُحرَّمة عليكم أبداً كحرمة يومكم وشهركم وبلدكم.

ثم أشار الحديث بقوله: >ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع< إلى إبطال أفعال الجاهلية وردِّها، وعدم تعويل الرسول ^ عليها، وبدأ من ذلك بإهدار الدماء، وأولها دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان هذا الابن طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب كانت بين بني سعد وبني ليث بن بكر فقتله، واختلفوا في اسم هذا الابن، والمُحقِّقون والجمهور على أنَّ اسمه إياس، ثم ثنَّى بإبطال الربا، وأول ما أبطل منه ربا عمه العباس، والمراد به القدر الزائد على رأسِ المال، كما قال تعالى:  ? ? ? ? ?  ? ? [البقرة: ???].

ولقد كان هذا الصنيع من الرسول ^ صَنيعاً حَكيماً، لأنَّ الذي يدعو إلى الإصلاح، ويتصدَّى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ينبغي أن يُطالب بذلك نفسه وأهله أولاً، ثم يُطالب به غيره بعد ذلك، فإنَّ هذا أقْرب إلى قَبول دَعوته، والإذعان لفكرته، خُصوصاً عند من قَرُب عهدُه بالإسلام.

ولم يغفل الحديث في هذا المقام أمر المرأة، والتنبيه على كثير من شؤونها، وبيان ما لها وما عليها من حقوق وواجبات، فحثَّ على مُراعَاة حقِّها، وأوصى خيراً بها، وأمر بمُعَاشرتها بالمعروف، وأوجب نفقة الزوجة وكسوتها، وضمان كل ما فيه كفايتها ومَصْلَحتها، وأشار إلى أنَّها هي أيضاً مُطَالبة نحو زوجها بالإخلاص له، والأمانَة في عِشْرَته، والابتعاد بها عن مواطن الزلل، وموارد الظِّنة، وصيانتها عن كل شبهة تدخل على نفسه الوساوس، وكل ريبة تسبب له الشكوك والأوهام، فلا يحلُّ لها أن تستخلي بالرجال، ولا أن تأذن لأحد يكرهه الزوج في دخول بيته، والجلوس في منزله، سواء كان المَأذون له رجلاً أجنبياً أو امرأة، أو أحداً من مَحَارِم الزوجة، ولا يصحُّ لها أن تَأذن إلا لمن عَلِمت أو ظنَّت أنَّ الزوج لا يكرهه؛ لأنَّ الأصل تحريم دخول منزل الإنسان حتى يوجد الإذن في ذلك منه، أو ممن أذن له في الإذن في ذلك، أو عُرِفَ رِضَاه باطِّراد العُرْف في ذلك ونحوه، ومتى حَصَل الشك في الرضا ولم يترجَّح شيء، ولا وجدت قرينة، لا يحل الدخول، ولا الإذن.

وقال القاضي عياض: كانت عادةُ العرب حديث الرجال مع النساء، ولم يكن ذلك عيباً، ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نُهوا عن ذلك.

وليس المُراد الزنا في قوله: >ولكم عليهنَّ ألا يُوطئن فُرُشَكم أحداً تَكرهونه<؛ لأنَّ الزنا يوجب حدّها، وهو حرام مع من يكرهه الزوج ومن لا يكرهه.

وقد أباحَ الشارع للزوج تأديب الزوجة بالضرب غير المبرِّح إن فعلت شيئاً من ذلك، والضرب المُبَرِّح: هو الشديد الشاق.

والصحيح أنَّ المُراد بكلمة الله في قوله: >واستحللتم فروجهنَّ بكلمة الله< إباحة الله، والكلمة هي قوله تعالى:  ??   ? ? ? ? ?? [النساء:?] وقيل المراد قوله تعالى: ?? ? ? ? ?? [البقرة:???] وقيل: المُراد كلمة التوحيد، وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإنَّه لا تحلُّ المُسلمة لغير المسلم، وقيل: المُراد بالكلمة الإيجاب والقبول، ومعناه على هذا: الكلمة التي أمر الله تعالى بها.

ثم عقَّب الحديث ذلك كله، ببيان أنَّ النبي ^، قد تَركَ بين المسلمين أمراً عظيماً، لو تمسَّكوا به، واهتدَوا بهديه، واعتصموا بحبله، وساروا على مُقتضَى أحكامه وحكمه، لعزَّ شأنُهم، وقويَ سُلطانهم، وعَلَتْ كلمتهم، وتحقَّقت هدايتُهم، وظلُّوا في مَأمنٍ من الفِتَن والضَّلالات، وذلك الأمر هو القرآن الكريم، كتاب الله الحكيم الذي لا يَأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

وقد اختتم الحديث بسؤاله لهم عن موقفهم منه ^، ومقالهم فيه، وشهادتهم بشأنه حين يُسألون عن ذلك، فلما قالوا له: >نشهد أنَّك قد بلَّغت الرسالة وأدَّيت الأمانة، ونصحتَ في كلِّ ما جئت به قولاً وفعلا ً، أشار بإصبعه السبابة، يُقلِّبُها ويُردِّدها، فيرفعها إلى السماء تارةً، ويخفضها إلى الناس أخرى ثم استشهد الله عليهم ثلاث مرات، وأمرهم أن يُبلِّغَ الشاهدُ منهم الغائب.

 



([1]) مجلة الأزهر، العدد العاشر، السنة العشرون (1368هـ).

([2])

([3] ) القصواء: بفتح القاف وبالمد: الناقة التي قطع طرف أذنها، وقيل: المقطوعة الأذن عرضاً.

([4])

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين