نماذج من رسائل العلماء وأدبهم العلمي: رسالتان من العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة لشيخة العلامة الفقيه مصطفى الزرقا رحمهما الله تعالى.

مقدمة

نماذج من رسائل العلماء وأدبهم العلمي

هذه رسائل نادرة كتبها فضيلة العلامة الجليل المربي الأصيل سيدي الشيخ عبد الفتاح أبو غدة، تُعبِّر عن سمو أخلاقه، ورفيع أدبه، ورهافة حسِّه، ودقة ذوقه، أرسلها إلى شيخين من كبار شيوخه، وعالمين فاضلين من أكابر فضلاء العصر.

أما الرسالة الأولى فقد كتبها إلى فضيلة العلامة المحدث المحقق الشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، وهو شيخنا بالإجازة، كتبها له سنة 1383 وسننشرها قريباً بإذن الله على هذا الموقع.

وأما الرسالتان الأخريتان فكتبهما لشيخه الفقيه النابغة الأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا.

يشكره في الرسالة الأولى على كتابته ترجمة لوالده الأستاذ أحمد الزرقا، التي نشرها فيما بعد في كتابه:" تراجم ستة من كبار فقهاء العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الهجري" الذي رتب فيه المترجمين حسب أسبقية وفاتهم.

ويستنهض الشيخُ الجليل في رسالته أستاذه الكبير على التفرغ لخدمة كتاب والده:" شرح القواعد الفقهية"، ويدعوه لتركه الوظيفة، وتوجهه لإخراج أثر والده... وقراءة الرسالة تغني عن الإسهاب بما تتضمنه من أدب جم وتواضع كبير في كل سطر منها بل في كل جملة وكلمة ، ولينظر القارئ إلى استهلاله الرسالة بقوله: إلى فضيلة شيخنا ووالدنا سيدي العلامة الأفيق... من تلميذه الصغير عبد الفتاح..

وأما الرسالة الثانية التي كتبها إلى شيخه فيعزيه فيها بوفاة زوجه المصون، التي رثاها شيخنا الزرقا بقصيدة رائعة تعد من عيون الشعر في الرثاء، وفي تلك الرسالة من الأدب ما يغني عن التعليق عليها، و يذكر في رسالته هذه ، أيضاً أنه أرسل له صورة عن ترجمته لوالده العلامة الشيخ أحمد الزرقا ليطلع عليها ،و يختم الرسالة بقوله: تلميذكم المصاب بمصابكم عبد الفتاح أبو غدة 15/رمضان/1403هـ.

لقد كان الشيخ مدرسة في الأدب العالي الرفيع، وتجد ذلك في سلوكه الشخصي مع أسرته وإخوانه وتلاميذه..

ولديَّ ورقة بخط الشيخ رحمه الله تعالى، يكتب فيها لابنه الدكتور الفاضل أيمن وقد استشاره بتسمية مولودة يترقب ولادتها، فكتب له رسالة فيما يحسن مراعاته في اسم المولود، ثم ذكر له، الأسماء المختارة للعزيزة القادمة بفضل الله، ثم قال في آخر رسالته:" والوالدة الكريمة ومعها العبد الضعيف اسْتَعْذَبْنا: لَبيبة. فاختاروا ما تُحبُّون"، فأيُّ أدب هذا، في تقديم رأي زوجه، ووَصْفِ نفسه، وتواضعه..

وإنَّ قراءة متأملة لرسالة الشيخ:" من أدب الإسلام" تُبيِّن ما يتمتَّع به الشيخ من أدب وافر، وخلق كريم، وسجايا مميزة...

ولقد رأيت ببصري صوراً ومواقف من أدب الشيخ لا أستطيع في هذه العجالة ذكرها، حتى في أدبه مع الكتاب والقلم والورقة والحيوان الأعجم... فضلاً عن أدبه مع شيوخه وأقرانه وتلامذته.

وكان أول لقاء اجتمعت به مع الشيخين الجليلين والأستاذين الفاضلين: الزرقا وأبو غدة في مدينة حلب صيف سنة 1397م، حيث أخبرت الأستاذ الزرقا بمجيء الشيخ إلى حلب، فما كان منه إلا أن أسرع لزيارته في منزله دون أن يخبره، ولما وصلت إلى بيت الشيخ، وكان يغص بالزائرين المحبين، وأعلمته بقدوم الأستاذ الزرقا لزيارته، قام من المجلس ونزل إلى شيخه مسرعاً، ليلثم يده بعد امتناع وتأبٍّ من الشيخ الزرقا، ثم لما دخل المجلس قدمه للزائرين ورحب به أجمل ترحيب ولم يرض أن يتكلم أو أن يجيب على أسئلة الحاضرين، وأحال ذلك إلى شيخه... ولم أكن أعلم قبل ذلك أن الشيخ عبد الفتاح ـ وهو من هو مكانة ومنزلة ـ من تلاميذ الشيخ الزرقا الأوفياء الأحفياء. وقد ذكرت شيئاً من صورة هذا اللقاء فيما كتبته في مقدمة" فتاوى شيخنا الزرقا"

فنقدم إلى القارئ الكريم هاتين الرسالتين اللتين طال تقديمي لهما، وتطاولي على مقام الشيخين الجليلين.

مجد مكي

للاطلاع على أصل الرسائل هـــنا

الرسالة الأولى 

بسم الله الرحمن الرحيم 

إلى فضيلة شيخنا ووالدنا سيدي العلامة الأفيق الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى ورعاه وأمتع به وأولاه.

من تلميذه الصغير عبد الفتاح أبو غدة 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد: فأحمد الله إليكم، وأرجو أن يكون سيدي الأجل على خير حال، وأنعم بال ممتَّعاً بالصحة والعافية، لتزداد بركاته وتعمّ نفحاته وتكثر حسناته على العباد والبلاد.

تسلمت رسالتكم الكريمة المعطرة بترجمة السيد الأكبر فضيلة الوالد رحمه الله تعالى، وشكرت لكم هذه الإجابة الكريمة والنجدة المسعفة فبارك الله للإسلام والمسلمين فيكم يا مولاي، وأحسن إليكم على تعهدكم كاتب السطور نشأة وشباباً وكهولة وشيخوخة، وهكذا يكون حال الأفاضل الأماثل، إذا دخل المرء في ذمَّتهم رعوه كل الرعاية، وأحسنوا إليه كل الإحسان، وجزاؤهم على إحسانهم وفضلهم محفوظ في زاخر حسناتهم عند الله تعالى.

وجاءت الترجمة والحمد لله قبل تقديم المقال فقدمتها في مستهله إذ كان الوالد الأكبر رحمه الله تعالى أسبق المترجمين إلى جوار الله، فقدَّمته بمقتضى سبقه، وتقديراً لحقه، فالحمد لله الذي يسر لي هذا الفضل بمعاونتكم وإنجادكم، وأسأله تعالى أن يديمكم علينا ظلاً ظليلاً.

وأتردد يا سيدي في كلمة أريد أن أقولها لوالدي الأجل حفظه الله تعالى ورعاه، وأنا أعلم زحمة أعماله وكثرة أشغاله، وهو المورد العذب لكل وارد، والمنبع الدائب لكل مستمنح:

إن اعتلاله عن خدمة كتاب السيد الوالد الأكبر(شرح قواعد المجلة) بزحمة الأعمال وكثرة الأشغال حق وصحيح ومشهود وعندي من ذلك (نصفُ الخبر)، ولكن الذي بدا لخادمكم كاتب السطور بعد أن جاوز الخمسين وشارف الستين أن الفرص السانحة لخدمة ما يُحِبّ بدأت تقل بسرعة وشمول، فالجسم يزداد ضعفاً والشيخوخة ووالدها الهرم يتقربان كل يوم، والنشاط يذهب ولا يعود إلا قليلاً، والهجمة الأخيرة قد تكون بين ملاوة وملاوة، فإن صاحب الأمانة لابدَّ أن يستردها إلى دار التكريم ومجلس الاحسان، فإذا توقع المرء سنوح الفرص المواتية وهو هكذا حاله أكثر منها فيما سبق، فتوقعه ضعيف السند، مضطرب المتن، شاذ الرواية، مرجحاته من الخارج قليلة أو عليلة، ولذا قالوا من قبل: 

ولم يتفق حتى مضى لسبيله!=وكم حسرات في بطون المقابر!

فالحق أحقُّ أن يتَّبع، ولو صدر بيانه من تبع، إن الاقبال على خدمة الدائم أجره أولى من العابر فضله، وفي الحديث كما هو في شريف علمكم: (أو علم ينتفع به) وقد عده الكبراء من الأولاد والذرية الباقية التي لا تنقرض بانقراض الأعمار، ولا يدخلها العقوق والإكفار، فلذا يعزم العبد الضعيف على التفرغ من التعليم في آخر العام المقبل إذا أحياه الله وشاء سبحانه ليفرغ لنشر ما يتمناه من آثار العلماء وما جمعه من موائد الفضلاء، فلا يبقيه لمن بعده، فيجهل مصيره،وإذا كان هو في حال حياته في أثره متوانياً فمن بعده – والداعية عنده قليلة أو مفقودة – أشد توانياً.

ولذا أقول بجرأة الإدلال الذي أطمعتني سجايا مولاي فيه: إنه لو ترك التدريس في آخر هذا العام، وتوجَّه لإخراج أثر الوالد لكان قليلاً من حقِّه الأبوي والعلمي، فإنه لو كان حياً وعلم أن أحد أنجاله في ضعف يحتاج شفاؤه ورعايته إلى التفرغ لتفرغ عامين أو أكثر له مطبِّباً محتسباً لأنه فيه بقاء ذكره واستدامة أجره، فكيف بالنجل البار والإمام العالم والفقيه البصير والصنو الأخير، والأيام تمر سراعاً! 

فأرجو وأكرر الرجاء أن تكرموا الوالد الأكبر في مرقده بإخراج أثره مصحوباً بخدمتك المزهرة، وأياديكم المثمرة، وإفاداتكم التي تصل الطريف بالتالد، وتلحق الحفيد بوالد الوالد. فبلوا ضريحه بإخراج آثاره المرهونة، و قد غاب وأبقى لكم الفضل ، وتحمل ما تحمل في حياته من أجل إسعادكم فكان ما أراد بحمد الله، فاسعوا أن يكون له ما أراد منكم في أثره الفذ وابنه الوحيد، وإلا فالزمان معاوله كثيرة، وموانع الخير وفيرة، وقانا الله من تسلطها على القلوب والدروب، وحقَّق الله على أيديكم وأيدي كاتب السطور كل محبوب ومرغوب، وأقرَّ منكم العين بأثر الوالد متناقلاً بين أيدي العلماء، متكحَّلاً بما فيه من الإثمد الذي يجلو البصر وينبت الشعر ويجدد خبر من غبر وعبر(1).

أستغفر الله تعالى مما أطلت، وأتوب إليه مما اجترأت، وإنما هي المحبة المدلة، والأبوة الساجحة المتفضلة، (... فبجَّحَني فتبجَّحت).

وختاماً أقبِّل اليدين، راجياً دعواتكم المرفوعة، في أوقاتكم المسموعة، والله يحفظكم ذخراً وموئلاً للعلم والدين والعفاة والسائلين والطلبة المستفيدين، وأستودعكم الله، إلى لقاء حبيب قريب بإذن الله، والسلام عليكم ورحمة الله، سيدي الأجل. 

ابنكم عبد الفتاح أبو غدة 

الرياض 6/3/1397

حاشية متممة: المستفيدون من طلبة العلم فضلاً عن غيره أصحاب حاجات خاصَّة، لا يرحمون العين الثرارة إلا إذا نضبت أو وقفت، فصاحب العين عليه أن يرعاها، قبل نفاد نميرها، وانقطاع عبيرها.

والنشب والمال عنده موفور، فلأن يُمتَّع به ويستمتع خير من الآخرة.

فيستريح من الآن استراحة المحارب، فيقدم ما حقه التقديم، وإلا فأولاده كالأفلح منه وخاصَّة إذا كان في اسمه الميم، والله يتولى ويعين، ويسامحني على هذا التطاول الكبير، فغفرانك اللهم وعفوك، ومعذرة من سيدي الوالد الأجل وعفواً، وهو المأمول منه المعهود عنه، والترحم من الأولاد على الآباء، لا يحيى آثارهم لدى العلماء.

عبد الفتاح

(1) وكلمته المنقولة عنكم سجلها ابن أخي عبد الستار في آخر الكتابة تبرئة للذمة وتشحيذاً للهمة، وتعميماً للفضل بهذا الأثر العظيم.

الرسالة الثانية 

بسم الله الرحمن الرحيم

إلى أستاذنا وشيخنا العلامة الأفيق سيدي الشيخ مصطفى الزرقا حفظه الله تعالى ورعاه وأمتع به وأولاه.

من تلميذه ومحبه عبد الفتاح أبو غدة 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته 

وبعد: فأحمد الله تعالى إليكم وأرجو أن تكونوا بخير من الله ونعمة، علمتُ مؤخراً وقريباً بمصابكم الجلل، وفقدكم الزوج المصون، والموئل الحنون، والراعية الحانية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، أشدكم بلاءً الأنبياء ثم الأمثل بالأمثل، فأعظم الله أجركم، وجبر مصابكم، وأغدق على الأخت الفقيدة الراحلة شآبيب الرحمة والرضوان، وعوضكم بمصابكم منه العون والإحسان، وكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام.

سيدي الأجل: مثلكم يعلمنا الصبر ورباطة الجأش واحتساب الأجر، والثقة بالله تعالى، فأخجل أن أذكِّركم شيئاً من هذا، فأنتم والحمد لله بما آتاكم الله من بصيرة وبصارة تذكِّرون سواكم إذا نزلت بهم شدَّة أو رهقتهم مصيبة أن يحتسبوا ويصبروا، وبشر الصابرين، ولله ما أخذ ولله ما أعطى وهو المولى، فنعم المولى ونعم النصير.

أرسلت لكم نسخة من كتاب ديوان الحماسة، الذي وعدتكم به، وأرسلت معها نسخةً صورةً عن الأصل الذي بعثت به إلى السيد الحبيب اللمسي في تونس، وأرسلت صورة منها إلى الأخ العزيز الدكتور أنس في جدة، وأرسلت الصورة لتطلعوا عليها، وقد أرسلتها لتونس في 8 من رمضان، فيمكن استدراك ما ترون استدراكه فيها فيما أقدر إذا رأيتم ذلك، ولدي صورة منها فأفيدوني بما ترون لأعدل ما عندي لنشرها في جملة تراجم بعنوان (من فقهاء العصر).

وختاماً أرجو أن أسعد برؤيتكم على أحسن حال، وأهدأ بال، والله يصلح الحال والمآل، وهو الكبير المتعال.

وختاماً مرة ثانية: أقبِّل يديكم راجياً منكم الصبر والاحتساب، والله يحفظكم ويرعاكم مؤئلاً للإسلام والمسلمين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تلميذكم المصاب بمصابكم 

عبد الفتاح أبو غدة 

15 من رمضان 1403

في ندوة فقهية في الكلية الأوروبية بشاتو شينو في وسط فرنسا سنة 1992 م ويظهر على يمين الناظر : العلامة الشيخ مصطفى الزرقا، ود. محب الدين أبو صالح ، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، والدكتور الشيخ يوسف القرضاوي ،والدكتور عجيل النشمي .والأستاذ الواقف هو عبد الحميد بوزوينة أستاذ اللغة العربية في الكلية رحمه الله ورحم جميع شيوخنا الذين شاركو ا في هذه الندوة والتحقوا بربهم.

 

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 28/7/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين