التولي يوم الزحف

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا وما هنَّ يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حَرَّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات) رواه البخاري ومسلم.

في هذا الحديث الصحيح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يبيِّن لنا صلى الله عليه وسلم لوناً من ألوان الجرائم وأنواعاً من الإثم والمعصية، هنَّ ولا شك أمَّهات الكبائر، و لا أدلَّ على ذلك من أن يقرنها صلى الله عليه وسلم بالكفر نعوذ بالله من شره.

ومن هذه الكبائر: (التولي يوم الزحف) ولفظ التولي في اللغة يحمل أكثر من معنى؛ فمنه التولي بمعنى القيام والمباشرة، يقال: تولَّى زيدٌ عملَه، أي: تقلَّده وباشره. ومنه التولي: بمعنى الاتجاه أو الإقبال؛ كما جاء في قوله تعالى: [فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ...] {القصص:24}. وكما ورد أيضاً في قوله جلَّ شأنه: [فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ...] {البقرة:144}.

ومنه ما يكون عكس ما سبق، أي: بمعنى الإعراض والتخلُّف أو الإدبار والفرار، إذ يَقول جلَّ جلاله: [إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ التَقَى الجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ...] {آل عمران:155}، وهذا المعنى الأخير هو ما يهدف إليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم من لفظ التولي. والزحف معناه: السير البطيء إلا أن المراد به في هذا الحديث هو زحف جيوش الأعداء المُجهَّزة بأدوات الحرب والقتال حيث يقول تبارك وتعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ] {الأنفال:15}.

على هذا البيان والتبيان من كتاب الله تعالى، و على هذا النور من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح (المتولي يوم الزحف) آثماً بحكم الكتاب والسنة مَطروداً من رحمة الله ملعوناً في الدنيا ويوم القيامة مع الكفرة والمشركين وآكلي السحت، ومال اليتم، طبقاً لما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتثبيتاً لقوله من القرآن الكريم حيث يقول جلَّ شأنه: [وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] {الأنفال:16}.

ولقد أخبر المفسرون وعلماء الحديث أنَّ التولي يوم الزحف ليس مقصوراً فقط على الجندي المحارب في ساحة القتال، بل هو في الواقع يشملُ الجنديَّ المحاربَ والجنديَّ غير المحارب، إذ أنَّ كلاهما متمٌّ للآخر، ولا غنى لهذا عن ذلك.

والجندي غير المحارب هو كلُّ فرد ذي صفة ومسؤولية تتعلق بالمعركة يستوي في هذه المسؤولية الكبرى القريب من ميدان المعركة والبعيد عنها فما كان لجيش مهما كان عددُه وعدَّته، ومهما كانت شجاعته وقوَّته أن يَنعقد له لواء النصر إلا إذا كانت من ورائه قوة ثانية من غير المحاربين وأولئك هم جنود الصف الثاني المنوط بهم خدمةُ هذا الجيش المحارب بإطعامه وشرابه، وتضميد جراحه ومدِّه بما يحتاج إليه من مَؤونة وعتادٍ وكافَّة مُستلزمات القتال. 

وعلى هذا التقدير يصبح كلُّ فرد من أفراد القوَّات المسلَّحة وقت الحرب من الجندي الصغير إلى القائد الكبير (مُجاهداً في سبيل الله) وكل من يساهم في القيام بخدمة هذه القوات بما يُعينها ويشدُّ من أَزْرها (مُجاهداً في سبيل الله) بل إن كل متكلم بكلمة خيرٍ يُقصد بها وجه الله تعالى وخير الأمَّة ترفع من معنويَّة الجند وتلهب العزائم والهمم (مُجاهداً في سبيل الله) وهؤلاء جميعاً هم المجاهدون حقاً وصدقاً، وممن اصطفاهم ربُّهم وفضَّلهم على من عداهم بقوله: [لَا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ المُجَاهِدِينَ عَلَى القَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] {النساء:95}.

ومن هذا نستخلص أنَّ الجهاد في سبيل الله وهو غاية الفضل ونهاية العمل وأنَّ شهداء الجهاد على موعد مع الله تعالى ألا يذيقهم طعم العذاب وزفرة الموت وأنهم من ساعة استشهادهم أحياء يرزقون: [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ] {آل عمران:169-170}.

فطوبى لعبد قُتل شهيداً، وبُعِثَ شهيداً، وحشر شهيداً مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

فيا قوم إياكم والتقاعس عن مَوكب الفضل وسبيل الجهاد، وإياكم والتخلُّف عن تلبية دعوة الحق إذا ما استغاثَ بكم الوطن وتحرَّجت الأمور، وحَذَارِ من الهَرَب والفكاك ساعة الكرب والشدَّة، ويحذِّركم اللهُ نفسَه بأنكم بهذا الفكاك والهرب إنما تعبرون جسراً إلى جهنَّم فإنَّ الجندي حينما يفرُّ من وجه العدو ويوليه ظَهرَه فقد (تولَّى يومَ الزحف) ومن استطاع أن يُعالج أو يواسي جرحى الحرب ولم يفعلْ فقد (تولَّى يوم الزحف)، ومن لم يساهم في حدود طاقته سواء بماله أو بلسانه أو بقلمه، أو بصنعته أو بقوته ولم يفعل فقد (تولَّى يوم الزحف)، وإنَّ القائد الذي في عنقه أمانة ويتحوَّل عن الجهاد والاستشهاد ويشذُّ عن الجماعة فقد (تولى يوم الزحف) وضلَّ طريق الهدى والنور وكفر بما نزِّلَ على محمد صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] {آل عمران:77}.

ألا فليعلم كل من لا يعلم أنَّه لا يوجد شيء في هذه الحياة يعدلُ فَضْلَ الجهاد في الله والاستشهاد في سبيله، فهذا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه يبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سريَّة وافقَ غُدوُّها يومَ جمعة فيتباطأ ساعات قليلة لا هرباً من القتال ولكن طَمَعاً في أن يؤدي فريضةَ الجمعة خلفَ رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انتهت الصلاة سأله الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: ما بال عبد الله لم يغدُ مع أصحابه؟! فقال: أحببت أن أصلي الجمعة معك يا رسول الله وهآنذا لاحق بهم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت فضل غدوتهم) [رواه الترمذي].

وهذا سعدُ بن الربيع يبلي في غزوة أحد أحسنَ البلاء، ويصول ويجول في ساحة المعركة حَاملاً على المشركين، حملاتٍ قاتلة حتى إذا ما خبا صوتُه وهدأت جلجلته ويتفقّدُه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يجده يُكلِّف زيد بن ثابت رضي الله عنه بالبحث عنه، ويقول له: إن رأيته فأقرئه مني السلام، وقل له: كيف تجد نفسك، قال زيد فأتيتُه فإذا هو في النزع الأخير، وبه نحو سبعين ضربة ما بين طعنة رمحٍ وضَربة سَيف، وقلت له: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنظرَ إليك أأنتَ في الأحياء، أم في الأموات؟ قال: إني في الأموات فأقرئ رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام، وقل له: إنَّ سعداً يجدُ ريحَ الجنة، جزاك الله عني وعن أمتك أحسن الأجر والجزاء، ألا وبلغ القوم بهذا وقل لهم: إن سعداً يقول لكم: لا عذرَ لكم بعد اليوم إن تخاذلتُم عن نُصْرة رسول الله، ولا عذر لكم بعد اليوم إن خطا إلى رسولِ الله مَكروه وفيكم عين تَطْرِف، ثم استشهد رضوان الله عليه بعدما رأى مقعده في الجنة [رواه الإمام مالك، والحاكم في المستدرك]، وبعدما ربحت مع الله تجارته وبيعته: [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111}.

ويحدِّثنا التاريخُ عن أمٍّ من أمهات المؤمنين الصادقين وعَلَمٍ من أعلام النساء المجاهدات الصابرات وهي: الخنساء، لقد وقفت يوماً تحضُّ بنيها الأربعة على القتال والخروج مع جيش المسلمين في حرب القادسية، فقالت لهم كلمتها المشهورة التي سجَّلها التاريخ بأحرفٍ من نور، وما زالت حتى وقتنا هذا تتناقلها كتب التاريخ والأدب والسنة والخطباء والدارسون:

أي بني: لقد أسلمتم طائعين، وهاجرتم مُختارين فوالله الذي لا إله إلا هو إنَّكم لبنو رجل واحد وبنو امرأة واحدة، ما خنتُ أباكم ولا فضحتُ خالكم، ولا غيَّرت أصلكم ونسبكم، فإذا رأيتم الحرب قد شمَّرت عن ساقيها فيمِّموا شطرَها وخوضوا غمارها ووطيسها، وجالدوا رئيساً تظفروا بالغُنْم والكرامة في دار الخُلْدِ والمُقَامة، أي بني: اطلبوا الموت تُوهب لكم الحياة.

وحينما جاءها الخبرُ بمصرع بنيها الأربعة وما كان منهم من حُسن البلاء ما صاحتْ ولا وَلْولت، وما أنَّتْ وما تَصَرَّرت، بل قالت: الحمد لله الذي شرَّفني بقتلهم وحباني بجهادهم واستشهادهم، اللهم إني أسألُك الرحمة والغفران، وأن تجمعني وإياهم في مُستقرِّ رحمتك وواسع جنَّتك يا أرحم الراحمين).

فسلامٌ على الخَنْساء في قَبْرها، وسلامٌ عليها يومَ بَعْثِها ونُشُورها، وسلامٌ على أمِّ الشهداء في دار الخُلْدِ والبَقَاء.

وأخيراً: فهذا عَمْرو بن الجَمُوح حينما يرى أبناءَه ذاهبين إلى سَاحة الجهاد لا يتمالك نفسَه، ويصرُّ على مُصَاحبتهم للقتال فيحولون دونَ ذهابه قائلين له: نحن نكفيك وإنَّ الله يَعذرك لعَرْجَتك، وكبر سِنِّك، ولكنه يصيح فيهم: ما لكم تمنعونني من دخول الجنة، ثم يذهبُ شاكياً للرسول صلى الله عليه وسلم الذي يُخَلِّي بينه وبينهم، ثم يقول يا رسول الله: إذا استشهدتُ في سبيل الله أَدخل الجنَّة بعرجتي هذه؟ فيطمئنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ويقول: له كلا بل تَدخلها صحيحاً، فيرفعُ يَديه إلى السماء ويقول: اللهم إن أرجعتني فأرجعني مَنصوراً، وإن قبضتني فاقبضني شهيداً، ثم يخرجُ من حضرته إلى ساحة القتال مُبتغياً الشهادة، لا مُرائياً ولا مُخادعاً، وحينما يسمعُ النبي صلى الله عليه وسلم استشهادَه يقول: (والله لكأني أرى عَمْرو بن الجموح يمشي بِعَرْجته هذه سليماً في الجنَّة) [رواه البيهقي في الكبرى].

أجل يا رسول الله فوالله ما أصدقكَ لقد تاجر عمرو مع الله لا بمالٍ ولا بعَرَض، وإنما تاجر بروحه ونفسه، فكان حقاً على الله أن يدخله الجنَّة، وينزل في حقه كتاباً يُقرأ وقرآناً يُتلى، اقرأوا إن شئتم قول الله تعالى: [الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ] {التوبة:20-21}.

أيها المسلمون:

تلك صفحةٌ عَابرة من تاريخ أمَّتكم، وهي كما تعلمون كانت وما برحت خير أمَّة أخرجت للناس نقرؤها عليكم ونحن مُقبلون على أيام عصيبة وساعات رهيبة، إيماناً منا بأنَّ الحقَّ والباطل ضدان لا يتَّفقان، فلقد قُضي الأمر وتكشَّف الظُلم وظهر الجشع والبشع، وكشَّر الباطل عن أنيابه، وبانت أحقاده وأضغانه، أقام عليه دولة اليهود بين ربوعكم وفوق قطعة غالية من أرضكم ودياركم، كانت من قبل مَهبطاً للوحي والرسالة ومصدراً للنور والهداية، وما كان للعرب وهم الصفوة من الأخيار والأحرار أن يَقبلوا على أنفسهم مَواقفَ الذلِّ والمهانة ويَرتضوا وضعاً فيه استعبادهم واستغلالهم، وفيه هتكُ أعراضهم وتذبيح أبنائهم. 

ألا فاعلموا أنَّ الصهيونيَّة عدوَّةُ الله في الأرض فضحها الإنجيل والقرآن الكريم ولعنها محمد وعيسى وموسى عليهم الصلاة والسلام فأجمعوا أمرَكم وصُفُّوا صفوفَكم: [إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ] {الصَّف:4}. 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.  

المصدر: مجلة الأزهر (السنة 42 - الجزء الثاني صفر 1390هـ).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين