الحج المبرور

 

جاء في الصحيحين أنَّه صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الأعمال: إيمان بالله ورسوله ثم جهاد في سبيل الله، ثم حج مبرور).

من بين الأركان الهامَّة التي يقوم عليها الإسلام، الحج؛ وقد نوَّه القرآن الكريم بفضله، وعرض لبيان كثير من مناسكه وأعماله، في طائفة من آياته الشريفة؛ وروي أنَّ إبراهيم عليه السلام أُمِر أن يؤذن في الناس: إنَّ الله بنى بيتاً فحجوا.

وقيل: ما رُئي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر، ولا أحقر، ولا أغيظ منه، مثل يوم عرفة؛ وذلك لما يراه من نزول الرحمات، وتجاوز الله عن الذنوب والآثام.

ولقد تضمَّن الحديث الذي معنا ثلاثة أعمال، وهي: الإيمان والجهاد والحج.

فأما الإيمان، فهو: التصديق الجازم بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وقد ذكره الله تعالى بهذه الأصول في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وفسَّره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في سؤال جبريل له، وفي غيره من الأحاديث.

والإيمان وظيفة القلب واللسان، ويتبعها عمل الجوارح، فإنَّه متى رسخ الإيمان في القلب، واستقرَّ فيه، انبعثت الجوارح كلها بالأعمال الصالحة، وانطلق اللسان بالكلام الطيب، كما قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإنَّ في الجسد مُضْغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).

وإنَّه لا صلاح للقلب بدون الإيمان بالله، وما يدخل في مُسمَّاه من المعرفة والتوحيد، والخشية والمحبَّة، والرجاء والإجابة والإنابة والتوكل، قال الحسن: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكنه بما وَقَرَ في الصدور، وصدَّقته الأعمال، ويشهد بذلك قول الله تعالى: [إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(3) أُولَئِكَ هُمُ المُؤْمِنُونَ حَقًّا (4) ]. {الأنفال}..

والإيمان المُجرَّد عن العمل في الذكر يدخل فيه الجوارح عند السلف وأهل الحديث، أما الإيمان المقرون بالعمل، فيُراد به التصديق مع القول، خصوصاً إن قُرن الإيمان بالله بالإيمان برسوله، كما في هذا الحديث.

أما العمل الثاني، وهو الجهاد، فهو نوعان:

جهاد المؤمن للكافر، وقتاله في سبيل الله، وهذا النوع يتضمَّن دعوة الخلق إلى الإيمان بالله ورسوله، بالسيف واللسان، بعد دعوتهم إليه بالحُجَّة والبُرْهَان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُقاتل قوماً حتى يدعوهم، وهو أفضل من النوع الثاني، لأنَّ به تعلو كلمة الإيمان، وتتَّسع رقعة الإسلام، ويكثر الداخلون فيه، وهو وظيفة الرسل وأتباعهم، ولأنَّ المقصود منه أن تصير كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله والطاعة كلها لله، كما قال تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ] {البقرة:193}.

والنوع الثاني من الجهاد: هو جهاد النفس في طاعة الله، وقد جاء في الخبر: (المجاهد من جاهد نفسه في الله)، وسئل بعض الصحابة عن الغزو فقال: ابدأ بنفسك فاغزها، وابدأ بنفسك فجاهدها.

ومن أعظم أنواع مجاهدة النفس على طاعة الله، عمارة بيوت الله تعالى بالذكر والطاعة، ويدخل في ذلك الصلاة والتلاوة والاعتكاف، وتعليم العلم النافع، واستماعه.

وفي حديث أبي سعيد المرفوع: (إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، ثم تلا قوله تعالى:[إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللهَ] ){التوبة:18}.

ومما يدلُّ على فضل الجهاد أنَّ الله تعالى قد قرن بينه وبين الإيمان في جملة مواضع من كتابه الكريم، كقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(10) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ]. {الصَّف}.

وكقوله:[إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] {الحجرات:15} .

أما العمل الثالث: فهو الحج، ومن أراد الإلمام على وجه التفصيل بمعرفة حدِّه وشروط وجوبه وصحته وأركانه وواجباته ومحظوراته وسُننه وآدابه، وترتيب مناسكه وأعماله، فليَرجع إلى كُتب الفروع، فإنَّ ذلك كله ميسور مبسوط فيها.

وقد حاول بعضهم النزوع إلى تفضيل الحج على الجهاد فقال: إنَّ الجهاد كان في أول الإسلام فرض عين، فلا إشكال في تقديمه على الحج، قبل افتراضه - فإن فرضه قد تأخَّر عند كثير من العلماء إلى السنة التاسعة - فأما بعد أن صار الجهاد فرض كفاية والحج فرض عين، فإنَّ الحج المُفترض حينئذ يكون أفضل من الجهاد، وهذا الكلام يعوزه كثير من التمحيص، لأنَّ الحج لا يكون أفضل إلا إذا عَرَضَ له وصف يمتاز به على الجهاد، وهو كونه فرض عين مثلاً كما ذكر هنا، وهذا القدر كما هو موجود في الحج، موجود في الجهاد كذلك، فقد يعرض له من الأوصاف والأسباب أيضاً ما يجعله ألزم وأفضل من الحج ألف مرة، فلا يصلح حينئذ ما ذكره ذلك البعض مَنَاطاً للتفضيل، على أنَّ الآثار والأخبار كلها في جانب تفضيل الجهاد على الحج، ومن بينها الحديث الذي نحن بصدده.

كأنَّ الإيمان أفضل الأعمال الثلاثة لأنَّه أصل الدين، وأساس اليقين؛ ووليَه الجهاد، لأنَّ به تأييد الدعوة، وحماية العقيدة، وتبعها الحج، لأنَّه يعد نوعاً من الجهاد بالنظر إلى بعض أهل المِلَّة الإسلامية، فقد عقد البخاري باباً في هذا المعنى وسماه: (باب حج النساء)، وساق فيه جملة من الأحاديث، كما ساق قصة إذن عمر بإحجاج زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وما كان من عثمان بعده حيث كان يحج بهم في خلافته أيضاً.

ومما جاء في البخاري في هذا الشأن: أن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: (لكن أفضل الجهاد حج مبرور)، يريد أفضل جهاد النساء، وقد أخرجه البخاري بلفظ آخر وهو: (جهادكن الحج).

وروي عن أمِّ سَلَمة رضي الله عنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: الحجُّ جهاد كل ضعيف، وروي مرفوعاً: (جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة).

وفي بعض المراسيل: أنَّ رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني جبان لا أطيق لقاء العدو، قال: ألا أدلاك على جهاد لا شوكة فيه؟ الحج.

أشار الحديث إلى أنَّه ليس كل حج يلي الإيمان والجهاد في الخيرية والأفضليَّة، وإنما الذي يكون بهذه المثابة هو الحج المبرور، ولذلك قالت عائشة: فلا أدع الحج بعد إذ سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا تكون مغفرة الذنوب بالحج كما يقول صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يَرْفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويكون دخول الجنة كما يقول في حديث آخر: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). يكون كل ذلك مترتباً على كون الحج مبروراً.

والمبرور: المقبول، وقيل: الذي لا يُخالطه شيء من الإثم، ورجَّحه النووي.

وقال القرطبي: الأقوال التي ذكرت في تفسيره مُتقاربة المعنى، وهي: أنَّه الحج الذي وُفِّيَت أحكامه، ووقع مُوافقاً لما طلب من المكلف على الوجه الأكمل، ومن علاماته أن يَرجع الحاج خيراً مما كان عليه قبل الحج.

ولا يكون الحج مبروراً إلا إذا جُمِع فيه بين جميع أنواع البر وأعماله، سواء منها المُتعلق بحقوق الله تعالى، أو المُتعلق بحقوق الخلق، والإحسان إليهم في مُعاشرتهم ومُخالطتهم، وإلا إذا اجتنبت فيه أفعال الإثم من الرَّفَث والفسوق والمعاصي، كما قال تعالى: [الحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ] {البقرة:197}.

وكما قال صلى الله عليه وسلم: (من لم يكن له ورع يحجزه عن معاصي الله فليس لله حاجة في حجه).

ومما يجب على الحاج أن يَأخذ به نفسه من البر:

التواضع والإخلاص، والخضوع والخشوع، روي أنَّه صلى الله عليه وسلم حجَّ على رَحْل رثٍّ، وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وقال: اللهم اجعلها حجة مبرورة مُتقبَّلة، لا رياء فيها ولا سمعة.

وروي أنه ركب رَحْلاً فاهتز به، فتواضع لله عزَّ وجل، وقال: لبيك لا عيش إلا عيش الآخرة.

وقال بعض التابعين: رُبَّ مُحْرِم يقول: لبيك اللهم لبيك، فيقول الله له: لا لبيك ولا سعديك، هذا مردود عليك، قيل له: لم؟ قال: لعله اشترى ناقة بخمسمائة درهم ورحلاً بمائتي درهم، ومفرشاً بكذا وكذا، ثم ركب ناقته، ورجَّل رأسه، ونظر في عطفيه مباهاة وخيلاء، فذلك الذي رُدَّ عليه.

وكذلك من البر في الحج، الإكثار من الذكر، خصوصاً في حال الإحرام بالتلبية والتكبير، ففي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الحج: العجُّ والثّجّ)، فالعجّ: رفع الصوت بالتلبية والتكبير، والثجّ: إراقة دماء الهدايا والنسك.

قال تعالى: [وَالبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ] {الحج:36}.

وقال: [ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ] {الحج:32}.

وأهدى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة، وكان يبعث بالهدي إلى منى فتنحر عنه، وهو مقيم بالمدينة.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

مجلة لواء الإسلام ، العدد الرابع من السنة الثانية ، ذو الحجة 1367هـ=1948م.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين