التعبئة الروحية - ـ

التعبئة الروحية

الشيخ: مصطفى زيد

يا أخي القارئ...
في هذا الشهر الذي تنعطف فيه القلوب نحو الكعبة، بيت الله الأول، وتحوم فيه الآمال حول الروضة الشريفة، مقام الرسول الكريم، وتتجه فيه الأرواح إلى مهبط الوحي، ومهاجر خاتم النبيين: تستلهم منهما القوة، والزاد، والنور، يحلو الحديث عن التعبئة الروحية في الإسلام، ومصادرها الدائمة والموسمية!.
ولعلك يا أخي القارئ تتساءل كلما سمعت هذا التعبير: ماذا تعني التعبئة الروحية في نظر الإسلام دين الإنسانية؟
وما هي وسائله إلى غرس بذورها في نفس المسلم، ثم إلى تعهدها بما ينميها من بعد؟
وأبادر فأطمئنك يا أخي على أن الإسلام يستهدف هذه التعبئة: بعقيدته وعباداته، وبأخلاقه وبمعاملاته، وبحدوده وعقوباته..
فتكوين الإنسان المثالي في نواحيه جميعاً هو غاية الإسلام الأولى، هو غاية عقيدته الخالصة، وشريعته المتجددة، وأخلاقه الكريمة، ومثاليته التي لا نظير لها..
وحسبك يا أخي أن تتدبر هذا الحديث الذي يقول فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كلٍّ خير احرص على ما ينفعك، واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل، لو كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل ؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان» لترى فيه الدستور الكامل لتكوين المسلم القوي، وتعبئته الروحية.
ولكن؛ لماذا لا نتناول هذا الإجمال بشيء من التفصيل؟
لنبدأ بالعقيدة ؛ فإنها هي الأساس الأول في هذه التعبئة، وهي التي تصنع من كل مسلم ـ إذا صحت ـ أمة وحده!
إن عقيدة المسلم تقوم على الإيمان بالله وحده، إلهاً ورباً، وعلى الاقتناع بمحمد صلى الله عليه وسلم، نبياً ورسولاً وعلى التصديق بكتب الله ورسله، وملائكته، وباليوم الآخر، وبالقدر خيره وشره.
ومن نتائج الإيمان بالله عزَّ وجل الاعتماد عليه وحده في كل شيء، واستمداده دون غيره، وإحساس كل مؤمن بالعزة والكرامة حيال كل إنسان.
ومن نتائج الإيمان باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، تكون الشخصية الواثقة، الدائبة على العمل، الهادفة دائماً لكل ما هو صالح..
ومن نتائج الإيمان بالقدر إخلاص المؤمن لرسالته، وتأمينه ضد البطر حين ينجح، وضد اليأس حين يعمل فيفشل؛ إذ يدفعه إيمانه بالقدر إلى إدراك أن ما عليه هو الأخذ بالأسباب، واختيار ما يراه أصلح له ولمجتمعه، والجمع بين المثالية والواقعية في تساوق ونظام...
ومن هذا كله يتكون المسلم الحق حراً، لأنه يرى العبودية لغير الله إشراكاً بالله عزَّ وجل، كريماً: لأنه ينظر إلى كلِّ إنسان نظرته إلى نفسه، فكلاهما عبد الله، حر: فيما وراء ذلك، عزيزاً: لأنه ـ ككل إنسان، فقير إلى الله وحده، غني عن كل من سواه، وما سواه.
فإذا نحن نظرنا إلى العبادات بعد ذلك ـ وهي نتيجة محتومة للعقيدة الصحيحة ـ وجدناها عوامل دائمة للتعبئة الروحية.
فالصلاة فريضة تتكرر خمس مرات في كل يوم؛ لتصل المسلم في كل مرة بخالقه، إذ يكبره، ويسبح بحمده، ويدعو لنفسه ولإخوانه، ويتضرع وهو يناجي ربه بآيات من ذكره الحكيم، ويتمثل جلاله وسلطانه فيخشع له، ويخجل أن يقف بين يديه مخطئاً أو آثماً فتنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر، وتسلمه كل صلاة إلى التي تليها فإذا يومه عبادة كله، وفي صلاة أو في انتظار صلاة... وإذا روحه في الذروة التي يستشرف كل إنسان إلى بلوغها.
وذكر الله عزَّ وجل فريضة على كل مسلم، أمر به الله في كتابه الكريم، ورغب فيه، وأكد أنه يطمئن القلوب، وأنه يلين الجلود وأنه أعمق من الصلاة أثراً في النهي عن الفحشاء والمنكر، لأن ذاكر الله لا يجرؤ على مخالفته أو عصيانه، وهذا هو بعض السر في قوله صلى الله عليه وسلم:«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن»...
ومن ثم فهو المدد الذي لا يغيض للتعبئة الروحية الكاملة!
وصيام رمضان فريضة ثالثة من فرائض الإسلام، يراد بها تربية الضمير الإسلامي في نفس المسلم، وتعويده الحياة الروحية طوال شهر من كل عام، ليأنس إلى هذه الحياة ويعتادها في سائر شهور العام، فإن الصوم لا يعني الإمساك عن المفطرات المادية خاصة  ـ وهي الأكل والشرب والجماع ـ. وإنما يعني التزام آداب الإسلام كلها، والعبادة الدائبة بأداء الطاعات واجتناب المعاصي، وهذا الطابع الإسلامي للصوم هو الذي يعنيه صلى الله عليه وسلم بقوله: «الصوم جنة ـ وقاية من المعاصي ـ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم، والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك».
ويفرض الإسلام في مال الأغنياء حقاً للفقراء، هو الزكاة ـ ومع أن الزكاة ليست وحدها حق الفقير في مال الغني ـ فإنها تعبئة روحية كاملة يصل بها الإسلام بين شطري المجتمع الإسلامي صلة تمحو كل ما في نفس الغني من حرص بطبيعة حبه للمال، وكل ما في نفس الفقير من حقد بطبيعة حاجته إلى المال، ومن هذه الصلة يتولد المجتمع الإسلامي المتعاون في مثالية لا نظير لها، فإن الفقير لا يجد هواناً في أخذ الزكاة من أنها حقه الذي فرضه الله له، ومن أن الشأن فيها أن يتولى الحاكم جمعها وتوزيعها، والغني لا يحس فضلاً على الفقير حين يخرج زكاة ماله، إذ الثواب في نظره خير من ماله وأبقى ما دام مؤمناً.
ولما طالب الإسلام الأغنياء بالزكاة ، طالب المستطيعين بالحج، والحج عبادة روحية بحتة، تقتضي من يقوم بها تجرداً من الثياب والزينة، وتقشفاً في نظام حياته فترة من الزمان قد تزيد على الشهرين، وتوجهاً دائماً إلى الله عزَّ وجل في ضراعة، ثم هي تعود به إلى أرض الرسالة وحدها، حيث البيت المبارك الذي وصفه الله عزَّ وجل بأنه أول بيت وضع للناس، وأنه مثابة لهم وأمن، وحيث الحرم الآمن الذي أكرمه الله عزَّ وجل فحرَّم فيه حتى الصيد، وحيث القرية الكريمة التي ولد فيها ونشأ صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم، وحيث شعائر الله التي يجب تعظيمها، من الصفا والمروة، وعرفات، وحيث يلتقي الحجيج جميعاً عند كل شعيرة، وفي كل منسك، وحيث يجتمعون على ذلك العمل الرمزي العظيم حين يرمون الجمار، فتتطهر نفوسهم من كل أدرانها.
فإذا توجَّهوا بعد ذلك إلى المدينة المنورة، حيث المسجد النبوي والروضة الشريفة الطاهرة ، فهناك ذكريات الجهاد المخلص الدائب في سبيل العقيدة، ومعالم العهد التشريعي الحافل بكل ما يصلح الناس، وهناك فيض الروحية المتدفق، يغمر كل روح بقبس منه.
والآن يا أخي الكريم، هل رأيت كيف تجمع عقيدة الإسلام وعباداته كل عوامل التعبئة الروحية ومقوماتها؟
على أننا سنجد في المعاملات الإسلامية سياجاً للروح، يحميها من كل نزغات النفس... ذلك أن الإسلام يلزم معتنقيه بكل مقومات المجتمع المتعاون المتكافل، فيفرض الأمانة بكل أنواعها، ويحرِّم الغش بكل وسائله، ويرعى مصالح الجماعة بكل ما يشرع لها!.
ــــــــــــــــــــــــــ

مجلة لواء الإسلام العدد الرابع من السنة الثالثة عشرة (ذو الحجة 1378هـ=حزيران1959م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين