وأذن في الناس بالحج - الحج وحكمته

وأَذِّنْ في النَّاس بالحج

 


1 ـ أَذَّنَ مُؤذِّن الحجِّ بأمر الله تعالت حِكمته، وعظمت منَّته، فنادى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، منذ أكثر من ثلاثة عشر قرناً: >أيُّها النَّاس إنَّ الله قد أمركم بحج هذا البيت فحجوا<.
بل إنَّ الحجَّ إلى بيت الله الحرام يُوغِلُ في القِدَم أحْقَاباً بَعيدة في أعماق التاريخ من يوم أن دَعَا إبراهيم ربَّه ضارعاً: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] {إبراهيم:37}. والنَّاس يحجُّون إلى البيت المقدس، الذي جعله الله سبحانه وتعالى مثابة للناس وأمناً.
وأجاب الناس الداعي إلى البيت الحرام وقدَّسوه، وجعله العرب في الذروة من تقديسهم في جاهليتهم وإسلامهم، فكان منَّةَ الله الكبرى عليهم، كما قال تعالى: [أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ] {العنكبوت:67}.
2 ـ وإذا كان العرب قد حجُّوا إلى بيت الله العَتيق في جاهليتهم، فالإسلام قد شدَّد في طلبه، حتى اعتبره من الجهاد، بل اعتبره أفضل الجهاد، لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روت عائشة رضي الله عنها: >أفضل الجهاد حج مبرور<، واعتبره نسك الإسلام الأكبر، فقد جَعَلَ الله سبحانه وتعالى لكل أمة نسكاً وجعل الحج نسك الإسلام: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ] {الحج:34}.
ولقد استمرَّ الناس على القيام بحق هذا النسك العظيم، يَنْفِرُون إليه خِفَافاً وثِقَالاً، ورجالاً ورُكباناً، تمخر بهم السفن في عباب البحار، ويطوون الأرض طياً شوقاً إلى ربهم، وتلبيةً لندائه حتى تعج بهم الأرض المُقدَّسة، وبيت الله والمَشْعَر الحرام.
ولم يعرف التاريخ الإسلامي عهداً عُطِّلت فيه تلك الشعيرة المُقدَّسة، إلا في عهود هي في التاريخ الإسلامي، كالنكت السوداء في الثوب الناصع البياض؛ وفي هذه العهود يكون الحكم طغياناً مستنكراً، أو ظلماً عَادياً، أو شهوات مُستحكمة، ثمَّ إنَّ الله يديل من هؤلاء الطاغين، فيأخذهم أخذَ عزيزٍ مُقْتدر، ويأتيهم من حيث لا يشعرون، ويكتب ما يبيِّتون، فللبيت ربٌّ يَحميه، وللإسلام مَنْ جعله دينه وشرعه، وهو المولى العلي القدير.
3ـ  ولماذا قدَّس الله البيت الحرام، وجعل الحج إليه من شعائره، والإسلام لا يُقدِّس الأماكن ولا الأحجار، بل يَجعل العبادة لله وحدَه الخالق لكل شيء، بديع السموات والأرض؟ وإنَّ الجواب على هذا السؤال هو بيان الحكمة في شريعة الحج؛ لأنَّ المكان كالزمان لا يُقدَّس لذاته ولا يختار لدوْرَاته، ولكن يقدَّس لما يكون فيه من نسك وعبادة وذكريات، فإذا كان رمضان مُباركاً، فليس ذاك لأنَّه دورة فلكيَّة مُباركة، بل لأنه قد نزل فيه القرآن، وفيه الصوم الذي يذكِّر بهدي القرآن، ويصقل النفس لتلقي تعاليمه.
وكذلك ما كان البيتُ مُقدَّساً، ولا كانت عرفات مُقدَّسة لترابها وأحجارها ومَدَرِها، إنَّما كان التقديس لما تحويه من ذكريات، هي آيات الله سبحانه في نبوَّاته، فالذي بناه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام، وقد أنزل الله سبحانه و تعالى عليه الحنيفيَّة السمحة وهي الشريعة الخَالدة الجَامعة إلى يوم القيامة؛ ولقد كانت هي الإسلام كما قال سبحانه وتعالى: [مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ] {آل عمران:67}.
فإذا كان ذلك البيت مَثَابة للناس وأَمْناً وحَرَماً مُقدَّساً يأتي إليه الناس من كل فجٍّ عميق، فذلك لأنَّه أقدم مَكَان مَعْروف، كان لعبادة الله سبحانه وتعالى الخالصة: [وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ] {البقرة:128} فالحج إليه وقصده هو لرؤية المكان الذي بناه خليل الله، بعناية الله وأمره، ففيه تذكير للمسلم بأن الإسلام هو شريعة الجميع، وهو دعوة النبيين أجمعين، لأنه دعوة أبيهم إبراهيم عليه السلام.
4 ـ ولقد شرَّف الله البيت العتيق تشريفاً ثانياً، فنشأ في رحابه خاتم النبيين، محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه كان المشهد الأول للدعوة المُحمَّدية، ففي رباع مكة كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش، وحولها كان يتحنَّث، ويتأمل إرهاصاً للبعث، ثم فيه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم الروح الأمين، وفيه صدع بأمر ربه، وأنذر عشيرته الأقربين، وفيه صابر المشركين وجالد ودَعَا بالموعظة الحسنة.
فإذا كان المسلمون يحجُّون إلى حَرَم الله الآمن، فليروا أولاً منازل الوحي، ومدارك النبوَّة، والعهدَ الأول للإسلام، فيتذكَّرون كيف كان صبرُه عليه السلام في الشديدة، وكيف كان دفعه للمَكِيدة، وكيف كان قوياً في إيمانه، وهو الذي لم يكن له ناصر إلا الله، بين قوم توافرت لديهم أسباب الغلب المادي.
وفي ذلك عبرة لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فيعرف كيف يكون الاعتزاز بالله عندما تتكاثر الأعداء، ويتضافر عليه الأقوياء، وتكثر الضرَّاء وتقل السرَّاء وتزلزل القلوب إلا من عصم ربك.
5 ـ وليس الحج فقط لهذه الذكريات المُقدَّسة، ولكن: [لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ] {الحج:27} وهذا كما ورد في القرآن الكريم، فالحج نسك يشتمل على أمرين أحدهما: المَنافع التي يجنيها المسلمون منه، ويشاهدونها؛ والثاني: الذكر لله سبحانه على ما رزقهم.
وإنَّ المُتتبِّع الفَاحص الدارس لمناسك الحج في جملتها وتفصيلها، يشهد هذه المَنَافع، ويَشهد ذلك الذكر المُقدِّس لله سبحانه وتعالى.
إنَّ الحجيج إذ يُحْرِمون فينوون الحج يتجهون إلى الله سبحانه وتعالى بنفوسهم وأجسامهم وأحاسيسهم، إذ يتجرَّدون من الملابس التي تفرق بين طبقاتهم وجماعاتهم، وتختلف باختلاف بيئاتهم وأقاليمهم، ويلبسون لباساً واحداً من الكرباس غير المخيط، لا فرق بين غنيهم وفقيرهم، ولا بين أسود وأبيض، ولا بين شرقي وغربي، فتكون تلك الوحدة في اللباس شعار الوحدة في الدين، والمساواة أمام رب العالمين، [إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ] {الأنبياء:92}.
وإنهم ليجأرون إلى الله بصوت واحد، وبكلمة واحدة، يفهمون معناها، ويدركون مغزاها، لا تغني فيها الأعجمية عن العربية ؛ وهي: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك، إنَّ الحمد والنعمة لك، و الملك لا شريك لك.
وفي هذا الدعاء المُشترك الذي يكون لله وحده شعار الإسلام والمسلمين، لأنَّهم أمة التوحيد المطلق.
6 ـ وفي ذلك الاجتماع المُقدَّس يلتقي الشرقي والغربي، والقاصي والداني، إذ يلتقي المسلمون من كل فجٍّ عميق على هدي من الرحمن، فيعرف كل ما عند الآخرين، ويتبادلون الرأي فيما فيه صلاح مَعَاشِهم ومَعَادِهم، وإعلاء شأنهم، ورفع أمرهم، وإذا كان أهل البلد في أضيق المعاني يجتمعون كل أسبوع يوم الجمعة، ويتعرفون أحوالهم، ويتبادلون الآراء في أُمورهم، فالمُسلمون جميعاً مهما تختلف أقاليمهم، وتتباين بيئاتهم يَجْتمعون في صعيد واحد في الحجِّ، المودة الراحمة تربطهم، والإيمان يوحِّدهم، وروح القُدُس يُمدُّهم بعونه، ونور الله يضيء لهم، ففي الحج يكون التطبيق العملي لقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ] {الحجرات:13}.
7 ـ وإنَّ الحج كان في الأعصر الأولى كما هو مُقرَّر في الإسلام، وكما ينبغي أن يكون، برياسة الإمام الأعظم، ومن له الإمرَة الكبرى على المسلمين، أو من ينوب عنه ؛ وفيه يخطب الناس، ويبين لهم حالهم ويتعرف شؤونهم، ويتبادل الأمر شورى بينهم.
ولقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتخذ من الحج سبيلاً لإقامة العدل، وبثِّ روح الشورى، وتعرُّف شأن رعاياه، فقد كان يسأل الحجيج من كل إقليم عن وُلاتهم، وعن مَسَالكهم في الرعيَّة، ويبث من يجيئه بالأخبار، وكثيراً ما كان يدعو بعض وُلاته إلى مناقشته الحساب فيما صنع بناء على الأخبار التي تصله في الحج.
فالحج على هذا سبيل التعارف بين المسلمين، وسبيل التعاون الاقتصادي والاجتماعي، والطريقة المُثلى لمعرفة الحاكم حال المحكوم.
8 ـ والحج فيه فوق ما تقدم من المُسَاواة المُطلقة، والتعارف، والتعاون، وإقامة العدل، حياة روحانيَّة تتجاوز مدتها الشهرين أحياناً، يتجرَّد فيها الإنسان من كل ما في نفسه من حب الغلب والعدوان حتى على الحيوان؛ فحرام عليه ذبح حيوان أو صيده، ليعلو عن كل مظاهر التناحر في الوجود، وليكون للسلم والسلام، فيأمن الخائف، ويطمئن العائذ، ويقنع ابن الإنسان طوال هذه المدة، وهو الذي كان خليفة في الأرض، فيأكل من غير ذبح لحيوان، ولا صيد له، ويأمن اعتداءه حتى الحيوان في سِرْبه، وحتى الأوابد في بيدائها، حتى إذا تحلَّل من إحرامه عاد إلى حياة المُغَالبة، وقد تهذَّبت نفسه، وصقلت روحه، وألف حياة الأمن والاطمئنان، فلا يَكْلَب في نزاع، ولا يَحْرَب في غلاب.
9 ـ هذا بعض ما في الحج من أسرار، وهو شأن إخواننا الذين يقيمون اليوم في ضيافة الرحمن، وليس لنا نحن الذين تخلَّفنا عن ركبهم إلا أن نَلْجأ إليهم، وهم في تجرُّدِهم الرُّوحي، أن يدعوا الله، ويضرعوا إليه أن يُصلح حال المسلمين.
أيها المخبِتُون المُحْرِمُون ادعوا الله قائلين: اللهم اجمع الوحدة، وأزل الفرقة، واجعل كلمتك العُليا، قولوا: اللهم لا تُؤاخذنا بما فعل السفهاء منَّا، اللهم وفِّقنا للقيام بحقِّ دينك علينا، وارحمنا وأنت خير الراحمين!.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين