لِمَ ولمن الحج؟! - الحج لمن

لِمَ، ولمن الحج؟

محمد علي الكحال


ليس هذا السفر إلى أمِّ القُرى، والإحرام بالثياب البيض، ولا الطواف حول كعبتها والوقوف في عَرَفاتها، ولا السعي بين صَفَاها ومَرْوتِها، ورمي الجمار في مناها، ولا الحلق والذبح، واجتناب شهوات الجسد وحدها هي الحج.
وإنَّما الحج أداء هذه الأركان والشروط مع واجبات أُخر هي: استثمار مَنَافعه واكتناز خيراتِه في هذه الدنيا بما يَنْفع المَجموع قبل الفرد، ويُسعد الأمَّة قبل الأشخاص.
فالحج - وهو كلمة الإسلام بأهدافه ومقاصده ومبتغاه وآماله، وحيويَّة المسلمين وجامع هنائهم في الحياتين - كادت تنحصر مَنَافعُه العَاجلة اليوم في هذه الدنيا، فجعله الله فيها فرضاً وقاعدة من قواعد دينه، وأحاطه بهذه المَشقَّات من الأسفار والأفعال حتى ينتهي المسلمُ إلى الخُلوص من سيِّئات النفس، ومن مُوبِقَات الدنيا، ومُنكرَات الجسد إلى البَرَاءة المُطْلَقة ليكون طاهرَ النيَّة، صادقَ القَول، زكي العمل.
وليس الحج اليوم للمُستطيعين إليه سبيلاً بالمال والصحَّة وحدَهما إذن لمن الحج؟! وهذا شأن المسلمين، والحج مؤتمرهم العام الدائم في بقعة مُباركة لا يدخلها غير المسلم ينبثق منه للإسلام قوة، وللمسلمين مَنَعة وسُلطان، ولخلق الله جميعاً الخير والهَنَاء.
فهذه فلسطين يهدِّدها الاستعباد الصهيوني، وهذه تونس والجزائر ومراكش يرهقها الظلم الفرنسي، وهذه إندونيسيا وطرابلس والهند وألبانيا تَتَقاذفها مَطَامع السياسة، وهذه مصر وسورية والعراق والعجم، والجزيرة والبحرين، تنال خيراتها وكنوزَها القوَّة.
فلمن الحج؟! والحج رُوح المسلمين، والمسلمون في حَيْرة وفي شَتَات يَغْشَاهم الظلمُ والضعف، ولا يعلمون ما يكشف عنهم هذا البلاء.
وهو موئلهم الذي يتدبَّر فيه أهل الرأي والتفكير شؤون المُسلمين، ويحكم فيه القادة مَصَالحهم، ويَستجمعون فيه قُواهم المُمزَّقَة فيأتلفون ويَتَعَارفون - وما أحوجَنا إلى التآلفِ والتَّعَارفِ اليوم - وفيه يستعدُّون لرفع الحَيْفِ وإعادة المَجْد الذي يرتفع به شأنُ الإنسانيَّة المُعذَّبة.
أجل: الحجُّ فُرِضَ على من استطاعَ إليه سَبيلاً من المُسلمين والمُسلمات، ولكنَّه أصبحَ مُحتَّماً في هذه الأيام على فِئات ثلاث فَوْراً من غير تَراخٍ ولا إهمال، ولا تَأخير حتى إذا لم تتجمَّع لدى هذه الفئات قوَّة المَال وجب على الأغنياء إرسالهم إليه بدون بطء.
أما الفئات الثلاث: فهي رجلان اثنان وامرأة.
الفئة الأولى:
الرجال الذين يحسون بالآلام من قَادة الإصلاح الإسلامي ليتدبَّروا شؤون المُسلمين ويعملوا على نَشْلِنا من الهُوَّة التي سقطنا فيها.
الثانية: الشباب، ليتلقَّوا سنن النِّضَال ومناهجه بما يُحكمها القادة.
الثالثة: النساء المُتعلِّمَات - والإسلام يخاطب المرأة كما يُخاطب الرجل - ليشهدن مؤتمرات الإسلام، ويُنشئن بطولة كبطولة الأجداد في الأخْلاق وفي العمل وفي الحياة، ويهيئنَ جِيلاً إسلامياً صَالحاً.
فالقدرة في التفكير والمعرفة. والقدرة في العقل والتدبير كالاستطاعة في المال والقدرة في الصحَّة والتزود بالزاد والأمن، لذا وَجَبَ على الأغنياء إرسال هؤلاء الفئات إذا لم يكن لديهم مالٌ يُوصلهم إلى الحجِّ.
فهيا اعملوا أيُّها الحَجيج على تَحقيق ما فُرِضَ الحج له، سيَّمَا:
1 ـ على إرجاع شُعور الأُخوَّة العُظمى، كي يعودَ المسلمون في بِقَاع الأرض كالجسم الواحد، إذا اشتكى عضو منه لبَّاه الجسمُ كلُّه فداءً بالنفس والثمين من التَّلِيد.
2 ـ وعلى تهيئة الاستعداد ليؤوبَ المُسلمون دعامة السلم ورسل الحق.
3 ـ وعلى توحيد التعليم الإسلامي وبَرَامجه في أصقاع الإسلام كلها.
4 ـ وعلى إبعاد المُسلمة عن مَظَاهر المَدنيَّة الغَربيَّة ومَفَاسدها، وتوجيهها نحو الإسلام وتقاليده الحقَّة.
5 ـ وعلى أن يتكلَّم المُسلم غير العربي بالعربيَّة - لغة الإسلام - كأبنائها.
وبعد: فيا أيُّها (العزيز) العظيم هذا الحج بين يديك والمسلمون يأتونه فوجِّههم نحو الإسلام، وخذْ منهم الرجالَ الذين تَرى فيهم حيويَّة العمل والتفكير والإخلاص إلى مَجَاهل الجزيرة، وهيِّئهم كما يُريد القرآن، ثم اقذف بهم إلى الحياة ليُنقذوا الحياة، ويُعيدوا الحَضَارة الإسلاميَّة التي بها يُعادُ السِّلْمُ والهَنَاء.
ويا أيُّها الحجيج: لا تَرجعوا حتى تَتَعاهدوا على نُصْرة المُسلمين أينما كانوا في أقصى الأرض وأَدْنَاها، وإن لم تفعلوا فأذنوا بالفَنَاء فالأمم تتآزرُ وتَرتقي، وإنَّنا على المَجْد الغَابر نَائمون، وهَذا المُستقبل دَامس مدلهمٌّ لا يَموت فيه إلا الضعفاء والخانعون.

مجلة: (الجامعة الإسلامية) العدد 202-205 من السنة السابعة عشرة

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين