رجل وامرأة في معركة الصمود - النساء شقائق الرجال

رجل وامرأة في معركة الصمود!

علي حسن عمر

1 ـ الرجل

هو مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف حامل اللواء يلتقي نسبه مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف في جده الثاني...

تحدث عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : > ما رأيت بمكة أحسن لمة ولا أرق ولا أنعم نعمة من مصعب بن عمير<.

وكان إسلامه مفاجأة لوجوه قريش وسادتها وللسابقين الأولين من المؤمنين على السواء فقد كان فتى قريش المدله بشبابه وجماله المنشأ في النعمة والحلية، وكان أنيتا رقيقاً وحيداً لأبوين قد شغفهما حباً يرفل في ثياب العز وتفوح منه أطيب العطور ، رخيم الصوت يأخذ بمجامع قلوب عشيرته منغماً بليغاً حليماً كيساً.. بينما هو يختال زهواً في مكة إذ سمع بنبوة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف رسول الله وبالدعوة التي ينشرها سراً... فاتجه إلى هذه الدار ولقي محمد رسول الله وسمع منه فانشرح صدره للإسلام وأسلم مخفياً إسلامه شفقة بأمه إلى أن شعرت به قريش فحبسوه ليفتنوه وظل ثابتاً صابراً لا يتزعزع إيمانه حتى وجد فرصة الإفلات فهاجر إلى الحبشة ثم عاد إلى مكة مع من عاد من مهاجري الحبشة بعد انهيار الحصار الذي ضربه مشركوا قريش على محمد وآله ومن ولاه من بني هاشم...عاد خالعاً ثوب العز والجاه وأناقة المظهر وخيلاء النعمة واستبدل بكل متاع الدنيا قلباً عامراً بالإيمان و التقوى والتواضع والخشوع وأقبل على تلقي الدين وحفظ ما نزل من قرآن ولازم النبي صلى الله عليه وسلم حتى كانت بيعة العقبة الأولى حين اختاره المصطفى عليه الصلاة والسلام ليمضي مع المبايعين إلى يثرب ليعلمهم الدين وينشره للناس هناك . وكان عدد المبايعين اثني عشر نفراً من بينهم أسعد ابن زرارة ابن خالة سعد بن معاذ زعيم الأوس رضي الله عنهما ، خرج مصعب بن عمير من مكة إلى المدينة المنورة ليفتحها بالقرآن وينشر فيها الدين الجديد الإسلام ، ونزل ضيفاً على أسعد بن زرارة وانتقلا بين الأوس والخزرج يؤم المسلمين ويعلمهم الدين ويتلو عليهم القرآن بصوته الرخيم الذي خشعت له القلوب في خلال عام من هداية جمع كبير على رأسهم سعد بن معاذ زعيم الخزرج وعشيرته ، حتى إذا كان موعد الحج خرج معه زعيما القبيلتين في ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين هما نسيبة بن كعب المازنية وأم منيع أسماء بن عمرو بن عدي فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الثانية. ورجعوا إلى ـ يثرب ـ مع مصعب بن عمير أنصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليهيئوا المدينة المنورة دورها التاريخي في حركة التحول من الوثنية إلى الإسلام وليعدوا لهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها .

عظم الله أجر مصعب بن عمير رضي الله عنه . أي الرجال كان ! لقد غزا المدينة بالقرآن... ثم هو يغزو أعداء الله بالسيف ويحمل اللواء في بدر... دفعه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فخاض المعركة الباسلة على ماء بدر وعاد رافعاً لواء النصر .. وهو ذا يحمل اللواء ثانية في معركة أحد فكان النصر في بدء المعركة ثم جاءت النكسة حين تعجل رماة المسلمين بالنزول بأعلى الجبل مخالفين أوامر قائدهم العظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشتركوا في الغنائم فكشفوا بهذه المخالفة ظهور المسلمين لخيل خالد بن الوليد الذي اهتبل الفرصة بحركة التفاف بارعة قلبت ميزان المعركة وانحسر الناس عن رسول الله فخلص إليه نفير من قريش أصابوا رباعيته وشجوا وجهه الشريف وأذاعوا قتله صلى الله عليه وسلم واجتمع من حول النبي صلى الله عليه وسلم قلة من المؤمنين المستبسلين منهم مصعب بن عمير حاملاً اللواء مرفوعاً ومعترضاً كل من حاول إلى رسول الله من المشركين إلى أن حصل عليه عدو الله بن قمئة فأصاب منه مقتلاً وهو يذب عن قائدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن لواء المسلمين واستخلص رسول الله اللواء من يد مصعب الشهيد ورفعه إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فرفعه من بعده وردت الروح للمسلمين فعادوا إلى مواقعهم بما حمل المشركين على التعجيل بالرحيل قبل أن تدور الدائرة عليهم...

لقد صدق حامل اللواء مصعب بن عمير ما عاهد الله عليه واستشهد ولم يجاوز الأربعين من عمره ونعم بوفاته ثرى أحد مع من دفنوا من شهداء أحد.

2 ـ أما المرأة :

فهي أم عمارة نسيبة بنت كعب المازنية أم عبد الله بن زيد قاتل مسيلمة الكذاب ، وهي إحدى اثنين من نساء يثرب حضرتا بيعة العقبة الثانية.

وقد بايعت رسول الله فيمن بايعوه على ألا يشركوا بالله شيئاً وعلى أن يمنعوا رسول الله مما يمنعون منه أنفسهم وأبناءهم ونساءهم ، وأن يبايعوه على السمع والطاعة في النشاط والكسل..

حضرت أغلب الغزوات مع النبي وخليفته أبي بكر الصديق وقد جرحت نسيبة رضي الله عنها اثني عشر جرحاً بين حصرية سيف وطعنة رمح.

وأبلت يوم أحد بلاء حسناً وصمدت بجوار النبي صلى الله عليه وسلم وحاربت دونه وردعت كل من حاول الوصول إليه من المشركين بالسيف والرمح. ونترك لها وصف المعركة قالت رضي الله عنها : خرجت يوم أحد لأنظر ما يصنع الناس ومعي مسقاة بها ماء أسقي الجرحى ، وانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أصحابه والرمع مع المسلمين ـ النصر ـ فلما انهزموا انحزت إلى رسول الله وقمت أباشر القتال دونه وأذب عنه بالسيف وأرمي عنه بالرمح حتى خلصت الجارحة إلي وأصابني ابن قمئة ولى الناس عن رسول الله وأقبل عدو الله يقول : دلوني عن محمد فلا نجوت إن نجا ، فاعترضته أنا ومصعب بن عمير رضي الله عنه فقتل مصعباً وضربته عدة ضربات وفأت منها درعان كانا عليه ، وضربني ابن قمئة على عاتقي ضربته التي أحدثت بها جرحاً أجوفاً له غور.

تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسيبة رضي الله عنها : ما التفت يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلا ورأيتها تقاتل دوني.

وقد قابلت نسيبة أم عمارة حرب اليمامة في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقطعت يدها وهي لا تكف عن القتال حتى رأت مسيلمة الكذاب مقتولاً بسيف ولدها عبد الله بن زيد وحربة حبشي رضي الله عنهما .. وعنها رضي الله عنها قالت : قاتلت يوم اليمامة حتى قطعت يدي وأنا أريد قتل مسيلمة وما كان لي من ناهية حتى وجدت الخبيث مقتولاً ، وإذا ابني عبد الله بن زيد يمسح سيفه بثيابه فقلت أقتلته فقال : نعم . فسجدت شكراً لله تعالى ...

وقتله كان بعد ضرب حبشي له بحربته، نزل في مصعب بن عمير ونسيبة بنت كعب ومن صمد معهما قرآن عطر قبورهم وأحياهم في الخالدين قال تعالى :[مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا] {الأحزاب:23}.

تلك الأمثال من روائع الصمود نضربها لرجال الإسلام علها تكون نوراً يضيء طريقهم إلى النصر فإن كان المسلمون الأولون قد خسروا معركة أحد ، فإنهم لم يخسروا الحرب بما امتازوا به من إرادة القتال وإرادة النصر مؤمنين بنصر الله بل كانت الهزيمة في أحد درساً مهد للمسلمين السبيل إلى النصر في كل معركة خاضوها سواء في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في العهود اللاحقة.

صلاة الله وسلامه على القائد الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

مجلة لواء الإسلام العدد الخامس من السنة السادسة والعشرون (1392هـ=1972م).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين