حملة السلطان سليمان القانوني لمهاجمة إيران

حدث في الثامن عشر من صفر

 

في الثامن عشر من صفر من سنة 955=1548 انطلقت من استانبول حملة عسكرية أعدها السلطان سليمان القانوني لمهاجمة إيران، وقاد الحملة الصدر الأعظم إبراهيم باشا بارغالي، وشارك فيها الأمير جهانكير أصغر أبناء السلطان سليمان، وعمره آنذاك 16 سنة، ولم تحقق الحملة هدفها الأكبر وهو القضاء على الدولة الصفوية وإن كانت قد استرجعت منها مدينة وان ومناطق في شرق الأناضول.

 

ولم تكن هذه الحملة الأولى العثمانية الأولى ضد الصفويين ولم تكن كذلك الحملة الأولى للسلطان سليمان القانوني ضد الدولة الصفوية في فارس، فمنذ أن أسس الشاه إسماعيل الصفوي دولته في سنة 907=1502 وهو يتطلع للتوسع في أذربيجان والأناضول الشرقي، وشكلت طبيعته التوسعية والمعادية خطراً على الدولة العثمانية لا يمكنها تجاهله، وكان الشاه إسماعيل قد انتزع بغداد في 25 جمادى الآخرة سنة 914 من حاكمها التركماني الذي يدين إسمياً بالولاء للدولة العثمانية.

 

ولذا كان الصدام بين الصفويين والعثمانيين صداماً محتماً، ووقع ذلك في أيام السلطان سليم الأول والد السلطان سليمان، في معركة جالديران في 2 رجب سنة 920، حين هزم السلطان سليم الصفويين هزيمة منكرة، وجُرِح في المعركة الشاه إسماعيل، وفر إلى عاصمته تبريز، ولما تبين له استحالة الدفاع عنها تركها للعثمانيين وهرب إلى المناطق الداخلية من إيران، وبعد هذه الهزيمة كف الشاه إسماعيل عن تحدي الدولة العثمانية، وبقيت الأمور في طور من السكون حتى وفاته في 19 رجب سنة 930=1524.

 

وخلف الشاه إسماعيل ابنُه الشاه طهماسب الأول، المولود سنة 920، ولكونه كان صغيراً نشب صراع بين كبار الأمراء أيهم يسيطر عليه، وتفاقم الصراع فصار حرباً  داخلية، واستغرق الأمر 10 سنوات ليقضى عليهم طهماسب ويعيد الاستقرار للبلاد، ولما صار زمام الحكم في يده بدأ يسير على خطى والده في الكيد للدولة العثمانية، وكانت آخر تحركاته في سنة 935=1529 تدبير اغتيال والي بغداد التركماني محمد خان ذي الفقار بعد أن أعلن انفصاله عن الدولة الصفوية وتنصيب وال جديد محله، وتحرك طهماسب كذلك في جورجيا، وكانت تسمى بلاد الكرج، وحرض في سنة 939 والي تفليس شريف بك على عصيان الدولة العثمانية والانضمام إلى الصفويين.

 

وفي إطار الصراع الصفوي - العثماني أقامت الدولة الصفوية علاقات تحالف قوية مع الإمبراطور شارل الخامس زعيم الإمبراطورية الألمانية المقدسة، والعدو اللدود للسلطان سليمان القانوني، ولما تحرك السلطان سليمان القانوني نحو فيينا في سنة 935، أرسل الإمبراطور مبعوثاً إلى الشاه لإقامة تحالف معه ضد الدولة العثمانية، والهجوم عليها وتطويقها من جبهتين: الصفويين من الشرق والإمبراطور من الغرب، ويذكر المؤرخون أن الاتصالات بين الدولتين كانت مستمرة طيلة فترة الحرب العثمانية – الصفوية، ويلاحظون أنه كلما باشر السلطان سليمان في حملة أوروبية كان يتعرض لهجوم صفوي على الجبهة الشرقية.

 

وفي نفس الإطار قام طهماسب بالاتصال مع مملكة البرتغال التي كانت في أوج قوتها البحرية، وقدم لأسطولها التسهيلات في الموانئ الفارسية على الخليج، لتقوم بمهاجمة السفن العثمانية التجارية العاملة على خط الهند- اليمن - مصر، وذلك نكاية بالسلطنة العثمانية وبهدف حرمانها من الاستئثار بالطرق التجارية البحرية من الصين والهند، وما تدره على الدولة من أموال الضرائب والمكوس، وهو تحرك بادر السلطان سليمان لإيقافه فأرسل أسطولاً من السويس في مصر استولى على اليمن، وأبحر إلى كُجرات في الهند التي كان البرتغاليون قد أنشأوا فيها ميناء لهم في ديو، إلا أن هذا الأسطول هدفه في إخراج البرتغاليين من الهند أو بحر العرب.

 

وكان السلطان سليمان، المولود في 1 شعبان سنة 900، قد تولى العرش سنة 926، وعلى عكس والده السلطان سليم الأول الذي ركز جهوده على حرب الشاه إسماعيل والدولة الصفوية، يمم سليمان وجهه شطر أوروبا في البداية، وصار تاريخ سلطنته سلسلة لا تكاد تنتهي من الحملات العسكرية على أوروبا، فتح فيها بلاد المجر، المعروفة اليوم بهنغاريا، بعدما هزم جيوشها هزيمة ساحقة في معركة موهاكس في 21 ذي القعدة سنة 932=29/8/1526، وحاصر فيينا مرتين، وفتح جزيرة رودس في البحر المتوسط.

 

وفي سنة 938=1532 كان السلطان سليمان قد عاد من حملته الخامسة التي دامت 7 شهور وحقق فيها انتصارات كبيرة على الإمبراطورية الألمانية المقدسة، وعقد في آخر سنة 939=1533 معاهدة مع إمبراطورها فرديناند، كانت اعترافاً ضمنياً بالقوة والهيمنة العثمانية، وحيث لم يعد للسلطان سليمان في الغرب تهديد يخشى أمره، أصبح بإمكانه التفرغ للقضاء على الخطر الشرقي الماثل في الدولة الصفوية، التي لم تخضع لقوة الدولة العثمانية، وترى نفسها نداً للسلطان الذي دوخ أكبر ممالك أوروبا، وفوق هذا كله تحالفت ضده مع أعداء الإسلام، وينبغي الإشارة أن موارد الدولة العثمانية وكذلك الدول الأوروبية آنذاك ما كانت تمكنها من شن حربين كبيرتين في نفس الوقت.

 

وفي أوائل سنة 940=1533 انطلقت حملة سليمان القانوني الأولى ضد الدولة الصفوية بقيادة الصدر الأعظم داماد مقبول إبراهيم باشا، الذي استطاع الاستيلاء على خلاط ووان وأرجيش، وأخرج الصفويين من المناطق الشمالية الشرقية، بما فيها جمهورية أرمينيا اليوم، وشكلت هذه الحملة إلى حدود كبير معالم حدود تركيا الشرقية، واستولت هذه الحملة على تبريز في آخر سنة 940، وفي أثنائها أعلن أمير جيلان ملك مظفر خان الطاعة للسلطان العثماني، وتبعه أمير شيروان في أذربيجان.

 

وسار السلطان في آخر سنة 940=1534 على رأس جيش آخر للانضمام للصدر الأعظم، وهي الحملة السلطانية التي اشتُهرت في التاريخ العثماني باسم حملة العراقين؛ عراق العرب وعراق العجم، ودخل تبريز في 16 صفر سنة 941، وكانت المدينة قد فقدت بريقها السابق كعاصمة للدولة الصفوية، وذلك إن الدولة الصفوية لم تعد تهتم بها مثل السابق، وذلك لقربها من الحدود مع الدولة العثمانية وصعوبة الدفاع عنها.

 

وكان الشاه طهماسب الأول أذكى من أن يكرر غلطة أبيه في جالديران، فتجنب الدخول في معركة حاسمة مع الجيش العثماني الذي كان عدده 200.000 جندي ومعه 300 مدفع، وكان عدد جيش طهماسب 60.000 جندي معهم 10 مدافع فقط.

 

واتبع طهماسب في انسحابه سياسة الأرض المحروقة فما كان يترك زاداً أو أعلافاً تستفيد منها القوات العثمانية التي تلاحقه، وكان يسمم الأبار ومصادر المياه التي على طريق الجيش المعادي، وأمضى السلطان دون جدوى بعض الوقت في شمال إيران على أمل أن يشتبك مع طهماسب ويدمر جيشه، وانسحب طهماسب جنوباً نحو مدينة سلطانية في الطريق بين تبريز وقزوين، وأراد السلطان سليم اللحاق به ولكن ظروف الطقس والأمطار جعلت من تحرك الجيش وعربات المدافع أمراً صعباً، فقرر الاتجاه نحو بغداد، وفتح مدينة همدان في طريقه إليها.

 

ولما وصل سليمان القانوني إلى بغداد وجدها خالية من الجنود لأن واليها الصفوي أدرك ألا جدوى من المقاومة فأخلاها، ودخلها السلطان في 21 جمادى الأولى سنة 941، وأمر بإعمار الأعظمية ومرقد الإمام أبي حنيفة، وبقي السلطان في بغداد 4 أشهر، ونقل راشد والي البصرة ولاءه من الصفويين للسلطان العثماني، وزار السلطان كربلاء والنجف اللتين أضحتا ضمن الدولة العثمانية، وغادر العراق بعد أن جعله ولاية عثمانية وجعل عليها والياً تركمانياً هو أوغلو أوزون سليمان باشا.

 

وكان من ضحايا هذه الحملة الصدر الأعظم إبراهيم مقبول باشا، فقد أمر السلطان سليمان بإعدامه في سنة 942=1536 وذلك لأنه قبل مجيء السلطان أعطى نفسه لقب: سر عسكر سلطان، وأصدر أوامره العسكرية بذلك، ومن الجدير بالذكر أن إبراهيم باشا كان معدوداً ضمن أصدقاء السلطان سليمان، ومن أفضل من تولى منصب الصدر الأعظم كفاءة في السياسة والحرب، وحاز على احترام القريب والبعيد، وبإعدامه خسر السلطان أكثر رجاله في حسن التدبير وبُعد النظر، ومن المؤرخين من يعزو مقتله لمكائد البلاط السلطاني التي كانت وراءها السلطانة خورم زوجة سليمان القانوني، فقد خلفه في منصب الصدر  الأعظم إياس باشا المقرب منها، وسنتاول شيئاً من ذلك فيما بعد.

 

وبعد تحقيق انتصاراته على الشاه طهماسب أرسل السلطان سليمان رسائل بذلك إلى ملوك فرنسا والبندقية والإمبراطورية الألمانية، ووصله وهو لا يزال في المنطقة سفير فرنسي أرسله الملك الفرنسي فرانسوا الأول لتهنئته على فتوحاته، ولهذا سبب ينبغي أن نتوقف عنده.

 

فقد كان الملك الفرنسي فرانسوا الأول والسلطان سليمان القانوني يتجهان منذ بضع سنوات لإقامة تحالف عثماني فرنسي يقف في وجه إمبراطورية الهابسبورج، المعروفة باسم الإمبراطورية الألمانية المقدسة، وكان السلطان سليمان قبل بدئه الحملة قد أرسل سفارة إلى فرنسا للتفاهم مع فرانسوا الأول على خطة عسكرية يتقاسمانها لاحتلال إيطاليا، وهو التفاهم الذي بلغ أوجه السياسي في اتفاقية الامتيازات التي وقعها السلطان مع فرنسا في سنة 942=1536 والتي منحت رعاياها حرية السفر والتجارة في أرجاء السلطنة والدول التابعة لها، وجعلت قنصل فرنسا هو الحكم الفصل في المنازعات التي تنشب بين الفرنسيين في الأراضي العثمانية، وبعد موت فرانسوا الأول جدد ابنه هنري الثاني التحالف مع الدولة العثمانية في اتفاقية وقعها الطرفان في سنة 960=1553، ولئن منح السلطان اتفاقية الامتيازات متفضلاً من موقف القوة، إلا أنها جعلت فرنسا الدولة الأجنبية المتنفذة في المشرق العربي، وهي اتفاقية ستكون عاقبة أمرها في المستقبل وبالاً على الدولة العثمانية وأقوى وسيلة للتدخل الأجنبي في شؤونها.

 

وكانت التهنئة التي أتى من أجلها السفير الفرنسي سابقة لأوانها بعض الشي، فأثناء وجود السلطان في بغداد عاد طهماسب فاسترد تبريز، فقرر السلطان سليمان أن يعود إليها، ولما سمع الشاه طهماسب بحركة السلطان انسحب من تبريز، بل وأخلى عاصمته قزوين ظناً منه أن السلطان سيتحرك إليها، ثم انسحب إلى أصفهان، ولما بدأ السلطان سليمان في التحرك باتجاه أصفهان، انسحب الشاه وجيشه شرقاً إلى مشهد وهراة وقندهار، ولم يكن تقهقر طهماسب التحرك الوحيد له، بل قام بمبادرة شجاعة في الشمال واستطاعت قواته استرداد وان من العثمانيين، ولما كان الشتاء على الأبواب، صار من المتعذر على العثمانيين شن حملة لاسترجاعها، وعاد السلطان سليمان إلى استانبول بعد سنة ونصف مع مغادرته لها، وقد أضاف إلى ألقابه لقب: فاتح بغداد.

 

وبعد عودة السلطان استعاد الشاه طهماسب تبريز وعدداً من المناطق التي احتلها العثمانيون، وبدأ في سياسة قضم الإمارات السنية المجاورة له، وبعد احتلاله شِروان وطرده لحاكمها السني، أراد احتلال داغستان، فلجأ أميرها إلى السلطان الذي بادر فأرسل قوات احتلت داغستان وشروان، مما سبب الذعر للشاه طهماسب الذي اتصل يطلب العون من شارل الخامس، إمبراطور الإمبراطورية الألمانية المقدسة، والعدو اللدود للسلطان سليمان القانوني.

 

ومن ناحية أخرى قلد طهماسب ما فعله العباسيون والفاطميون في تأسيس دولتيهم، فبدأ في إرسال دعاته السريين، الذين أطلق عليهم اسم خليفة، لبث الدعوة الشيعية في الأناضول وجنوب القوقاز، وصار له في كثير من البلدان جيوب سرية وعملاء ينخرون في جسم الدولة، وبدأت حالة من التوتر والاستقطاب تشيع في المدن والمناطق العثمانية وتهدد الاستقرار، وبدا أن الدولة العثمانية ستدخل في حرب أهلية كالتي خاضها الكاثوليك مع البروتستانت في أوروبا، فاتخذت الدولة بعض الإجراءات التي تحول دون تغلغل النفوذ الصفوي، وكان أولها أن اتخذ السلطان لقب خليفة المسلمين بترتيب من مفتيه أبي السعود العمادي، وذلك لجعل الشرعية الدينية في صفه بشكل لا لبس فيه، وأنشأ ولايتين جديدتين في شمال البلاد في قارص ووان، وأمر بتعقب الدعاة السريين وأعدم عدة أشخاص قاموا بالدعوة علانية للشاه ونبذ طاعة الدولة العثمانية، ويعتقد بعض المؤرخين أن هذه الجماعات شكلت الجذور التاريخية للعلويين في تركيا.

 

وبعد 13 سنة من حملة العراقين، قرر السلطان سليمان شن حملة أخرى على الصفويين للقضاء عليهم قضاء مبرماً لا رجعة لهم بعده، فبدأ حملته الثانية في 18 صفر سنة 955، ومثلما جرى في الحملة السابقة ما أن وصل السلطان إلى مدينة خوي حتى أخلى الشاه طهماسب تبريز وانسحب جنوباً  إلى مدينة قزوين التي أعلنها عاصمته.

 

وبعد 3 أشهر من بدء الحملة دخل العثمانيون تبريز للمرة الثالثة بعد قرابة 13 سنة من سقوطها في يدهم، وبعد تبريز حاصر السلطان مدينة وان، وبعد حصار دام 10 أيام واستخدمت فيه المدافع، استسلمت المدينة في 20 رجب سنة 955، ورافق السلطان في هذه الحملة السفير الفرنسي بارون أرامون جابريل دو لويتز، وكتب اثنان من مساعديه كتاباً عن الحملة ذكرا فيه أنه كان يقدم المشورة للسلطان، وهو أمر دفع بعض المؤرخين للزعم أنه كان وراء استعمال السلطان للمدفعية في حصار وان.

 

وكان الأمير أبو القاسم ميرزا، الأخ الأصغر للشاه طهماسب وواليه على الدربند، وهي اليوم في جنوبي روسيا على بحر قزوين، قد تمرد على أخيه معلناً استقلاله، فلما قصده طهماسب هرب إلى العثمانيين في القِرِم ومنها إلى استانبول، ليصلها بعد بضعة شهور من مغادرة السلطان سليمان لها، واستدعاه السلطان إليه، ومنّاه الأمير أن الشعب الإيراني سيترك أخاه وينضوي تحت لوائه، فضمه السلطان إليه وجعل تحت يده جيشاً ليحارب أخاه، فاستولى على قم وكاشان، ولكن أصفهان وشيراز رفضتا أن تفتح أبوابهما له، ثم وقع في الأسر فسجنه أخوه في قلعة ألموت حتى مات.

 

وبعدسقوط وان عاد السلطان سليمان إلى ديار بكر ثم حلب التي قضى فيها فصل الشتاء وبقي فيها حتى حلول الصيف، ثم غادرها إلى ديار بكر فأمضى فيها شهرين، ثم عاد إلى استانبول بعد 21 شهراً من بداية حملته، والتي انتهت باستيلاء السلطان على تبريز وأرمينيا وبعض القلاع في جورجيا، وبعد سنتين عاد الشاه طهماسب فهاجم شرق الأناضول واستولى على ولايتي وان وأرضروم.

 

واستدعى هذا أن لا تكون الحملة الثانية آخر حملة للسلطان سليمان على الصفويين، بل شن حملة ثالثة عليهم انطلقت من استانبول في 19 رمضان سنة 960=28/8/1553، وكان قد قارب الستين من العمر، وصحبه كذلك أصغر أبنائه الأمير جهانكير ثم انضم إليه ابناه الأمير بايزيد والأمير سليم، السلطان سليم الثاني فيما بعد.

 

وقضى السلطان الشتاء في حلب، وبعد 5 أشهر رحل منها في الربيع واتجه شمالاً حتى وصل إلى يروان، عاصمة أرمينيا اليوم، ففتحها ثم فتح مدينة نهجوان، وهي اليوم في جنوبي غربي أذربيجان، وسميت هذه الحملة باسمها، ولكن السلطان لم يستطع هزيمة الشاه طهماسب الذي لجأ لأسلوبه الناجع في التهرب من مواجهة الجيش العثماني في معركة فاصلة، ولم تدم هذه الحملة سوى 8 أشهر هذه المرة، ولكنه السلطان لم يعد إلى استانبول بل بقي في الأناضول سنتين، وانتهت الحملة الثالثة والأخيرة بمعاهدة صلح وقعها الطرفان في أماسيا في 8 رجب سنة 962=29/5/1555وبموجبها أعاد العثمانيون مدينة تبريز للصفويين، وتقاسموا معهم أرمينيا وجورجيا، أما العراق فصار ولاية عثمانية وصارت حدود الدولة العثمانية تنهي عند ميناء البصرة العراقي.

 

ولم تمكن معاهدة أماسيا معاهدة كالتي اعتادت السلطنة العثمانية توقيعها مع الدول التي هي دونها، بل كانت معاهدة في غير صالح الدولة العثمانية على المدى البعيد، ذلك إنها جعلت حاجزاً صفوياً بينها وبين الشعوب التركية في تركستان والتي كانت تدين لها بالولاء، ولا تزال الثقافة والنفوذ التركي قويين واضحين في هذه المناطق إلى اليوم، وفوق ذلك كانت المعاهدة اتفاقاً بين ندين متساويين، اعترفت فيها الدولة العثمانية بالشاه مكافئاً للسلطان، ويقول أحد المؤرخين الأتراك عن ذلك: إن المقولة الشائعة في أوروبا: لولا الشاه لوصل العثمانيون إلى نهر الراين. صحيحة بلا شك، وفي المقابل يمكن أن نقول: لو لا انشغال العثمانيين في أوروبا لوصلوا إلى حدود الصين. ولذا يرى بعض المؤرخين أن التوسع العثماني في أوروبا المسيحية كان على حساب توسعها الممكن والسهل في آسيا المسلمة، ويضربون مثلاً لذلك بفتح مصر الذي ضم هذا القطر الإسلامي الكبير بأقل التكاليف ودون مقاومة فيما بعد.

 

ولم تكن الحملة الثالثة نهاية العلاقة مع الشاه طهماسب، بل أخذت العلاقات معه منحى محزناً يعده المؤرخون من أكثر الصفحات سواداً في التاريخ العثماني، ويتعلق بخلافة السلطان سليمان القانوني.

 

كان للسلطان 4 أبناء من زوجته خُورم، أي الباسمة، وكان ابنه الكبير وولي عهده المرتقب مصطفى من زوجة أخرى تدعى ماه دوران، ويقول المؤرخون أن زوجته خورم كانت سيدة قوية الشخصية بعيدة الأهداف، وأرادت أن يخلف السلطانَ أحدُ أبنائها، إما بايزيد أو سليم، ومن أجل ذلك حاكت لسنوات طويلة سلسلة من المؤامرات والمكائد، منها قبل سنوات تدبير مقتل الصدر الأعظم إبراهيم باشا الذي سبق ذكره، والذي كان من أقوى أنصار الأمير مصطفى، وكان من جملة مؤامراتها أن وقعت في يد السلطان مراسلات بين ولي عهده الأمير مصطفى وبين الشاه طهماسب تتضمن اتفاقهما على أن يساند طهماسب الأمير في تمرده على والده ليحل محله وأن يتزوج الأمير ابنة الشاه.

 

ومن المؤرخين من يقول إن هذه الأوراق كانت مزورة لا أصل لها على الإطلاق، ومنهم من يقول إن الأمير تورط فيها بتشجيع من بعض الحاشية المتواطئين مع السلطانة خورم، ومنهم من يقول إن الصدر الأعظم رستم باشا هو الذي كتب للسلطان سليمان أن ولده يحرض الإنكشارية على عزل السلطان وتنصيبه كما فعل السلطان سليم الأول مع أبيه السلطان بايزيد الثاني، وأيا كان الأمر، فقد كانت النتيحة أن أمر السلطان بقتل ابنه وولي عهده وهو في طريقة لقتال الشاه طهماسب في حملته الثالثة، وخسر السلطان كثيراً من جراء إعدام الأمير البالغ من العمر 38 سنة، والذي كان محبوباً من الجيش والشعب، وأظهر الجيش استياءه وسخطه، وكان لذلك أثر كبير في ألا تطول الحملة ويعود السلطان بعد 7 أشهر من بدايتها.

 

وهكذا بقي من أبناء السلطان المؤهلين لخلافته الأميران سليم والي قونية وبايزيد والي كوتاهية، وكان سليم أكبر من بايزيد بسنة و3 شهور، ولكنه عُرِفَ بإدمانه للخمر لا يكاد يفيق منه، وفي المقابل كان بايزيد معروفاً بالشجاعة والشهامة والفروسية والسخاء والاستقامة، وكان محبا للعلم والعلماء، ومترددا الى مجالس المشايخ والصلحاء، فكان أصلح من أخيه لولاية العهد، وتوقع أن يراعي والده ذلك فيجعله ولي عهده، ولكنه فوجئ في سنة 966=1558 بوالده يعينه والياً على أماسية، أبعدِ ولاية عن استانبول، فأدرك أن والده يريد أن يستبعده من ولاية العهد.

 

وثار بايزيد وسار بجيشه إلى أخيه السلطان سليم في قونية، وجرت معركة دامية هزم فيها بايزيد، فعاد إلى أماسيا مع جيشه البالغ عدده 12.000 جندي، ثم لجأ وجنوده إلى إيران حيث استقبله الشاه طهماسب في قزوين بحفاوة بالغة، ما لبثت أن زالت وبدأ الشاه في تفريق هؤلاء الجنود، فقد كان طهماسب أكثر حكمة من أن يطمئن لأمير عثماني وجنوده.

 

وطلب السلطان سليمان من الشاه طهماسب تسليم الأمير بايزيد وأولاده الأربعة، فرفض في البداية، وجرت مفاوضات بين السلطان وبين الشاه انتهت بألا يسلم الشاه الأمير اللاجئ، بل يقتله وأولاده، ثم يسلمهم للسلطان، وطلب مقابل ذلك مبلغاً هائلاً من المال وتسليمه قلعة قارص، وتمخضت المفاوضات عن دفع مبلغ مالي كبير للشاه، الذي قتل بايزيد وأولاده في سنة 969، وسلم جثثهم لمبعوثي السلطان الذين توجهوا بهم إلى سيواس حيث دفنوا في مقبرة تليق بالأمراء.

 

واجتمعت هذه الأحداث مع الشيخوخة ووفاة زوجته خورم في سنة 965=1558، وتحول السلطان إلى شخص منهار، ولما شعر بقرب منيته في آخر سنة 973=1566 أراد أن يموت في ميدان المعركة، فقد كان ذلك مكانه الطبيعي، فقام بحملته العسكرية الثالثة عشرة والأخيرة؛ حملة سِكتوار في الجنوب الغربي من هنغاريا اليوم، وكما أراد، أدركته المنية وهو يحاصر هذه القلعة، فمات عن 74 سنة، وكانت وفاته في 21 صفر سنة 974=7/9/1566، بعد أن حكم 48 سنة وهو بذلك أطول سلاطين بني عثمان حكماً.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين