كرم المرأة المسلمة - المرأة المسلمة والكرم

كرم المرأة المسلمة

عثمان مكانسي

     أحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كرم المرأة وفيرة إنْ بالحضِّ على الجود والإنفاق ، وإنْ بالمدح والثناء ، وإنْ بالإيثار على النفس وسعادتها بضيافها الأصدقاء والأحباب ، فقد روت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنّهم ذبحوا شاةً (1) فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما بقي منها ؟ )) قالت : ما بقي منها إلا كتفُها .

     قال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بقي كلُّها غير كتفِها )) (2) .

     فهو عليه الصلاة والسلام يوضح لآل بيته أن ما تصدَّقوا به بقي أجره إلى يوم القيامة ، وأن ما بقي في الدنيا فأكلوه لم يستفيدوا من أجره في الآخرة . وهذه لفتة كريمة إلى الحضّ على الصدقة ابتغاء رضوان الله سبحانه وتعالى .

     وهذه السيدة أسماء أخت عائشة رضي الله عنهما ينصحها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالتصدُّق كي يزيدها الله من فضله فتقول : قال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا توكِي فيوكى  عليك )) (3) وفي رواية (( أنفقي أو انفحي ، أو انضحي ولا تُحصي (4) فيُحصي الله عليك ، ولا توعي (5) فيوعي الله عليك )) (6) فهي دعوة إذاً إلى الإنفاق فيُفيد منه اثنان :

أـ   المنفِق في سبيل الله تعالى ، فإن الله يبارك في رزقه في الدنيا ، ويدّخر له أجره في الآخرة .

     يقول النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان ، فيقول أحدهما: اللهمَّ أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهمَّ أعط ممسكاً تلفاً )) (7) .

ب ـ المنفَق عليه . فلا يبقى في المجتمع الإسلامي فقير ، ويشعر كل فردٍ في المجتمع الإسلامي غنيّه وفقيره أنهم إخوة متحابون متضامنون متكافلون ، يُعين بعضُهم بعضاً ، ويدفع بعضهم عن بعض غائلة الجوع والحرمان ، ويسعَون جميعاً إلى بناء صرح إسلامي قويِّ يكون مثالاً حيّاً للإنسانية جمعاء ، وقدوة صالحة للحياة البشرية الممتدة إلى ماشاء الله تعالى .

     وقد سألت أم سلمة ـ إحدى أمهات المسلمين (8) ـ رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : يا رسول الله هل لي أجرٌ في بني أبي سلمة أن أنفق عليهم ؟ ولست بتاركتهم هكذا وهكذا (9) إنما هم بنيَّ . . فقال : (( نعم لك أجر ما أنفقت عليهم )) (10) .

     فعلى الرغم أن عاطفة الأمومة تدفع الأمَّ إلى أن تؤثر أبناءها على نفسها فتعطيهم بأريحية وسخاء فهم أفلاذ أكبادها ، تنال الأجر والثواب حين تتصدَّق عليهم وتؤويهم وتحنو عليهم .

     وقد مرّ في موضوع (( المرأة المربية الداعية )) سؤال امرأة من الأنصار وزينب زوجة عبدالله بن مسعود رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أتجزئ الصدقةُ عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجورهما ؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( لهما أجران :

أـ أجر القرابة .
ب ـ وأجر الصدقة )) (11)

     وتعال معي نقرأ قصة الرجل وزوجته اللذين أكرما ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :

     فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه قال :

     جاء رجل إلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقال : (( إني مجهود )) (12) فأرسل إلى بعض نسائه فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء .

     ثم أرسل إلى الأخرى ، فقالت مثل ذلك ، حتى قُلن كلهُنَّ مثل ذلك : لا والذي بعثك بالحقِّ ما عندي إلا ماء .

     فقال النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن يُضيفُ هذا اليلةَ )) ؟

     فقال رجل من الانصار : أنا يا رسول الله . فانطلقَ به إلى رحله ، فقال لامرأته : أكرمي ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

     وفي رواية قال لامرأته : هل عندك شيء ؟ فقالت : لا ، إلا قوت صبياني . قال : علّليهم بشيء إذا أرادوا العشاء ، فَنَوِّميهم ، وإذا دخل ضيفنا ، فأطفئي السراج ، وأريه أنّا نأكل . فقعدوا ، وأكل الضيفُ ، وباتا طاويين (13) .

     فلما أصبح غدا على النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لقد عجب (14) الله من صنيعكما بضيفكما الليلة )) (15) .

     يأتي فقير إلى مجلس الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، سيّد المدينة وحاكمها ، موقناً أنه سيلقى طعاماً يملأ معدته ، فقد قرَّحها جوعه الشديد وأضعفه ، فما عاد يقوى على الحركة . أوَليس المالُ كلّه والطعام جلّه في بيوت المالكين وأصحاب القرار ، ومَن بيدهم مقاليد الأمور ؟!! لقد وقع إذاً على طِلبته ، ووصل إلى مكان راحته . .

     نعم ، لقد وصل إلى طلبته ، ومكان راحته ، لكنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليس همُّه الطعامُ ولا الشرابُ ، ولم يكن يحفل بملذات الدنيا ، فما كان يوقد في بيته نار ولا يُطهى طعام إلا في أوقات متفرّقة ، وكان جلَّ طعامه الأسودان (( الماء والتمر )) كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها (16) ، فليس غريباً ـ إذاً ـ أن يرسل إلى زوجاته يسألهن ما يملأ معدة هذا الرجل الفقير فيأتيه الردُّ : لا والذي بعثك بالحق ، ما عندي إلا الماء .

     وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين يعود من صلاة الفجر ويسأل زوجاته ما يأكله فلا يجد ، ينوي الصيام . . . فإذا لم يكن في بيوت أزواجه ما يقري به ضيفه ، التفت إلى أصحابه يسألهم مَن يُضيف ضيفَه ؟ فيلبي أحد أصحابه من الأنصار فرحاً مسروراً ، فمن يحوز مثل هذه الغنيمة ؟ إنه ضيف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ .

     وينطلق الرجل بضيف رسول الله إلى بيته ، ويسأل زوجته : ما عندنا من طعام ؟ فتجيبه : ما عندنا من شيء سوى قوت الأطفال ، فأنا وأنت نصبر على الجوع ، أما الأطفال فلا يصبرون . فماذا يفعلان ؟ لا بدَّ من قرى الضيف ، ويتفتق ذهنه بخطة محبوكة ، ويُعلَّلُ الأولاد ويمنَّوْن بطعام طيب إن صبروا ، وتحاول الأم صرفهم لحظة وراء لحظة وبطرق مختلفة عن العشاء إلى أن يأخذهم سلطانُ النوم فيستسلموا له . . . وهذا ما كان ، ويدخل الضيف إذ ذاك إلى البيتِ الذي أعدَّ فيه الطعام ليأكل ، ولأنَّ الأكل قليل لا يكاد يكفي واحداً فإن الضيف سيشعر بالخجل والإحراج . . . ولن يأكل إلا قليلاً إذ لا بدَّ أن يؤاكله أهل البيت ، فماذا يفعل الزوجان كي لا يشعر أن الطعام قليل . . ؟! فليطفأ ِ السراج ، ولا بأس أن يعتذر الزوجان بأي عذر لانطفائه ، ومن ثمَّ يجلس الرجل وامرأته يوهمان الضيف أنهما ياكلان ، فينشرح صدره ، ويملأ معدته . . . وهكذا كان . . . لقد بات أولادهما جائعين وباتا بعد ذلك جائعَين مثلهم ، وأكل الضيف ، وشبع ، ونام قرير العين .

     ويذهب الضائف والضيف كلاهما إلى صلاة الفجر حيث ينظر الرسول الكريم إلى الأنصاري نظرة إعجاب وتقدير . . . إعجاب بحسن تصرفه وزوجته ، وتقدير لكرمهما .

     أما الزوجة فقد ضبطت عاطفتها ولم ترفض عرض زوجها أن ينام أولادهما دون عشاء ، إنما كانت له خير عون في مهمّته لتحفظ ماء وجهه ، وتعينه على حسن ضيافة الرجل الفقير ضيفِ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهكذا تكون المرأة الصالحة ، والزوجة الأصيلة ، لقد قاما بعمل جليل أرضى الله سبحانه وتعالى ، فأنزل ملكاً يخبر نبيّه صلوات الله عليه وسلامه برضا الملك الجليل ، وهو أعظم مكانة للإنسان أن يرضى الله سبحانه عنه ؟

     وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال :

     خرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال : (( ما أخرجكما من بيتكما هذه الساعة ؟ ))  قالا : الجوعُ يا رسول الله ، فقال : (( وأنا ، والذي نفسي بيده ، لأخرجني الذي أخرجكما . قُُوما )) فقاما معه ، فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت : مرحبا وأهلاً . فقال لها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( أين فلان ؟ )) قالت : ذهب يستعذب لنا الماء ، إذ جاء الأنصاري ، فنظر إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبيه ، ثم قال الحمد لله ، ما أحدٌ اليوم أكرمَ أضيافاً مني ، فانطلق فجاءهم بعذقٍ فيه بُسر وتمر ورطب (17) ، فقال كلوا ، وأخذ المُدية ، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إياك والحلوب )) (18) فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق ، وشربوا ، فلما أن شبعوا وَرَوُوا قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما : (( والذي نفسي بيده لتسألُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة ، أخرجكم من بيوتكم الجوع ، ثم لم ترجعوا حتى أصابكم هذا النعيم )) (19) .

     فامرأة هذا الرجل طيبة النفس ، كريمة ، تحب الضيفان ، لم تعتذر لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن استقباله وصاحبيه ، بل استقبلتهم مرحّبة مؤهّلة ، واستبْقتـْهم إلى حين وصول زوجها ، وذكرت أنه لن يغيب طويلاً فقد ذهب إلى إحدى الآبار العذبة ليأتي بماء عذبة طيّبة ، وقد حان وقت عودته ، مما يجعل الضيفان يأنسون لهذه الحفاوة فلا يغادرون .

     (( إن حُسْنَ الاستقبال نصفُ القِرى إن لم يكن القِرى كلّه ، وهذا يذكرنا بالحديث الطويل الذي رواه البخاري رحمه الله (20) وقد جاء فيه أن إسماعيل عليه السلام تزوج من قبيلة جرهم امرأة ، وماتت أم إسماعيل ، فجاء إبراهيم بعدما تزوّج إسماعيل يطالع تركته (21) ، فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ـ وفي رواية ـ يصيد لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحنُ بشَرٍّ ، نحن في ضيق وشدّة ، وشكت إليه ، قال : فإذا جاء زوجك ، اقرَئي عليه السلام ، وقولي له : يُغيّرْ عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل كأنّه آنسَ شيئاً فقال : هل جاءكم من أحدٍ ؟ قالت : نعم ، جاءنا شيخٌ كذا وكذا ، فسأَلَنا عنك ، فأخبرته ، فسألني : كيف عيشنا ، فأخبرتُه أنّا في جَهد وشدّةٍ . قال : فهل أوصاك بشيء ؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول : غيِّر عتبةَ بابك . قال : ذاك أبي ، وقد أمرني أن أفارقك ، الحقي بأهلك ، فطلَّقها ، وتزوَّج منهم أخرى ، فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ، ثم أتاهم بعدُ ، فلم يجده ، فدخل على امرأته ، فسأل عنه ، قالت : خرج يبتغي لنا . قال : كيف أنتم ؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعةٍ . وأثنت على الله تعالى ، فقال : ما طعامكم ؟ قالت : اللحمُ . قال : فما شرابكم ؟ قالت : الماءُ . قال : اللهمَّ بارك لهم في اللحم والماء . . . قال : فإذا جاء زوجك ، فاقرئي عليه السلام ، ومريه يُثَبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل ، قال : هل أتاكم مِنْ أحد ؟ قالت : نعم ، أتانا شيخ حَسَنُ الهيئة ، وأثنت عليه ، فسألني عنك ، فأخبرته ، فسألني كيف عيشنا ، فأخبرته أنّا بخير ، قال : فأوصاك بشيء ؟ قالت نعم ، يقرأ عليك السلام ، ويأمرك أن تُثبت عتبة بابك . قال : ذاك أبي ، وأنت العتبَةُ ، أمرني أن أمسككِ . . . )) .

     فالأولى : كانت ضيّقة النفس ، قصيرة النظر ، ضعيفة حُسن الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تصبغ البيت بما فيها من صفات ، ولا تحسن تربية أبنائها ، ولا تريح زوجها ، وتنشر في أجواء البيت والأسرة عدم الاستقرار والبعد عن الرضا ، وتزرع فيه القلق والبؤس .

     والثانية : طيبة النفس ، مطمئنة القلب ، حَسَنَةُ الظن بالله سبحانه وتعالى ، وامرأة كهذه تملأ الحياة سعادة وأملاً ورضا بقدر الله ، وتنشر في البيت الهناءَ والاستقرار ، والحبَّ والودَّ ، فينشأ أولادها نشأة طيبة ويحيَوْن حياة فيها أسس الخير ، وفضائل الشمائل .

     وهؤلاء المسلمون يخرجون من صلاة الجمعة فيجدون عجوزاً على باب المسجد قد طبخت سلقاً في قدر لها ، وخلطته بشعير مطحون ، فتقدمه للمسلمين تبتغي من الله سبحانه الأجر والمثوبة ، فيأخذونه منها ، ويأكلونه متحلقين حولها يدعون لها بطول العمر وحسن العمل . . ما الذي دعاها إلى ذلك ؟ إنه الكرم المتأصل فيها ، والرغبة في إحراز الأجر والفضل (22) .

    أما أم عمارة الأنصاري فيدخل عليها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتقدم إليه طعاماً فيقول لها : (( كلي )) فتقول : إني صائمة ، فيقول لها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ (( إنَّ الصائم تصلّي عليه الملائكةُ إذا أُكِلَ عنده حتى يفرُغوا )) وربما قال : (( حتى يشبعوا )) (23) .

     فعلى الرغم مِنْ أنها صائمة رأت أن قِرى الضيف واجب ، فأكرمت ضيفها ، وأحسنت وفادته ، فكان جزاؤها أن الملائكة تدعو لها وتستغفر لها ما دام الضيف يأكل زادها وهي تخدمه وترعاه . .

     إذن هي دعوة إلى الكرم في كل الأحوال . . الكرم الذي يقارب بين الأرواح فتصفو النفوس ، وتتمازج القلوب ، وتُستل السخائم ، وتزول الشحناء من الصدور ، و . . .

     وهذا الصاحب الجليل جابر بن عبدالله يرى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة الخندق وبطنه معصوب بحجر ، فيستأذنه أن يعود للبيت يسأل زوجته إن كان عندها شيء ، فتجيبه أن عندها صاعا من شعير وأنثى ماعز ، فذبح الماعز وعجنت هي الشعير بعدما طحنته ، وبدأت تصنع الطعام ، وانطلق زوجها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوه مع رجل أو رجلين يتخيّرهما ، فما كان من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا أن نادى : (( يا أهل الخندق ، إن جابراً قد صنع سؤراً (24) فحيّهلا بكم )) وجاء يقدم الناس ، وقال لجابر : انطلق ، فمُرْ زوجتك أن لا ترفع الغطاء عن اللحم ، ولا تخبز حتى آتي ، فجاء جابر إلى زوجته فأخبرها ، فخاصمته قائلة : فضحتنا ، ألم أقل لك ادع رسول الله ورجلاً أو رجلين معه ؟ قال : بلى ، وقد فعلتُ ، فقالت : إذن يتكفل بهم رسول الله .

     وكان المسلمون ألف رجل ، فدعا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على العجين واللحم بالبركة ، وأمر المرأة أن تخبز ، ودخل الناس فوجاً بعد فوج ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغرف لهم من اللحم ويكسر لهم الخبز حتى شبعوا جميعاً .

     قالت امرأة جابر : فأقسم بالله لأكلوا حتى تركوه وانحرفوا وإن القدر مليئة باللحم كأنه لم يأكل ، وإن العجين ليُخبزُ كما هو ، فقال لها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( كلي هذا وأهدي ، فإن الناس أصابتهم مجاعة )) (25) .

     فقد كانت المرأة تشعر بشعور زوجها وتجتهد أن ترضيه وتكرم ضيوفه ، ولا يخفى مافي هذه القصة من معجزة ظاهرة للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ومن أسوة رائعة له عليه الصلاة و السلام ، فقد أطعم بيديه الشريفتين المسلمين جميعاً حتى شبعوا ، ثم أكل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ونبّه إلى ضرورة تفقُّد الجيران والإحسان إليهم ، كي يشعروا بالانتماء إلى جسمٍ واحدٍ وفكرٍ واحد ومجتمع واحد ، يظلهم دينُ الله وشرعُه فيجعل منهم أمّة متحابّة قوية . . . والقصة نفسها تتكرر مع أبي طلحة وزوجه أم سُليم ، فقد كانت مثال الزوجة الصالحة التي تكرم ضيوف زوجها           وتخدمهم (26).

     ولعلَّ من المفيد أن نختم هذا بقوله سبحانه وتعالى يحضُّ المسلمين على الكرم في قصة سيدنا إبراهيم في سورة الذاريات : ( فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا     تَأْكُلُونَ )(27) ؟! وقول النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه )) (28) .

     والمسلم والمسلمة كريمان جوادان لا بخيلان شحيحان ( وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ ) (29) .

 
 
 
 
 
 
 
 


(1)   آل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقد ذبحوا الشاة ووزّعوا أكثرها على الفقراء .

(2)   رواه أحمد برقم ( 23720 ) ، والترمذي برقم ( 2470 ) ، وقال : هذا حديث صحيح ، وانظر المشكاة برقم ( 1919 ) .

(3)   لا تدّخري ما عندك ، وتمنعي ما في يدك ، فيقطع الله عنك رزقه ، وهذا لفظ البخاري برقم ( 1433 ) .

(4)   لا تتمسكي بالمال وتدّخريه ، فيمسكه الله عنك .

(5)   لا تمنعي ما زاد عنك عمّن هو يحتاج إليه ، فيحيجك الله إلى مثله فلا تجديه .

(6)   رواه البخاري برقم ( 2591 ) ، ومسلم برقم ( 1029 ) واللفظ له ، وأحمد برقم ( 26395 ) وغيرهم .

(7)   رواه البخاري برقم ( 1442 ) ، ومسلم برقم ( 1010 ) ، وأحمد برقم ( 7993 ) .

(8)   زوجها أبو سلمة رضي الله عنهما من أوائل المهاجرين إلى المدينة ، وأصابه جرح في إحدى الغزوات فكان سبباً في موته ، فتزوجها

      النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم . نساء فاضلات ص 42 ـ 43 ، والأعلام ج8 / ص 97 .

(9)   لا ترضى أن يتفرّقوا عنها في طلب الرزق يميناً وشمالاً .

(10) رواه البخاري برقم ( 1467 ، 5369 ) ، ومسلم برقم ( 1001 ) ، وأحمد برقم ( 25970 ، 26102 ) .

(11) أخرجه البخاري برقم ( 1466 ) ، ومسلم برقم ( 1000) ، وأحمد برقم ( 15652 ، 26508 ) ، والنسائي برقم ( 2583) وغيرهم .

(12) أصابه الجهد : وهو المشقة والحاجة وسوء العيش والجوع .

(13) جائعَين : معدتهما خاويتين . شبَّه المعدة الخاوية بشيء يُطوى لفراغه .

(14) المراد بالعجب الرضا ، فقد رضي الله سبحانه ـ وهو الكريم ـ عن فعلهما الذي يدل على الكرم .

(15) رواه البخاري برقم ( 3798 ، 4889 ) ، ومسلم برقم ( 2054 ) .

(16) كما ورد في صحيح البخاري برقم ( 2567 ، 6459 ) ، ومسلم برقم ( 2972 ) .

(17) العذق : الغصن ، والبُسر : ثمر النخيل قبل أن ينضج ، والرطب : نضيج البُسر ، والتمر : يابس الرُّطب .

(18) الحلوبة : الشاة ذات اللبن ، فذبحها خسارة ، وغيرها أولى بالذبح .

(19) رواه مسلم برقم ( 2038 ) ، والترمذي برقم ( 2369 ) .

(20) برقم ( 3364 ) .
(21) يتفقّدهم .
(22) أخرجه البخاري برقم ( 938 ، 2349 ، 5403 ) .

(23) رواه أحمد برقم ( 26926 ) ، والترمذي برقم ( 785 ) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح .

(24) طعاماً يُدعى إليه الناس . . وليمة .

(25) رواه البخاري برقم ( 4101 ، 4102 ) ، ومسلم برقم ( 2039 ) ، وأحمد برقم ( 14610 ) وغيرهم .

(26) رواه البخاري برقم ( 3578 ، 5381 ، 6688 ) ، ومسلم برقم ( 2040 ) ، وأحمد برقم ( 12082 ، 12870 ) وغيرهم .

(27) الذاريات : 26 ، 27 .
(28) متفق عليه .
(29) الحشر : 9 .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين