لا يأس ولا استسلام ولكنْ تشخيصٌ صريحٌ وعلاجٌ شجاع

 

قالوا: هل هذا خطاب يأس واستسلام؟ قلت: معاذ الله! إن اليأس من رَوْح الله (أي من فرجه ورحمته) من الكبائر، بل إنّ مما قرره أهل العلم أن اليأس من فرج الله يتنافى مع عَقْد الإيمان، أعوذ بالله أن أكون في اليائسين. أما الاستسلام فإنه صنيعة العاجزين والجبناء، أعوذ بالله أن أكون في الجبناء والعاجزين.

فماذا إذن؟ إن الطبيب الأمين يشخّص الداء ويصفه على حقيقته بأدقّ الكلمات وأوضح العبارات، وإنْ بدت ثقيلة كريهة. ولو حرص على رضا مريضه، فوجده مصاباً بأخطر الأمراض ثم طمأنه قائلاً: "أنت على ما يرام وسوف تعيش ألف عام" فإنه طبيب منافق غشّاش.

* * *

في كل يوم يموت ملايين الناس في هذه الدنيا. كم منهم يموتون في الحروب أو بأيدي القتلة والمجرمين أو بحوادث السيارات والطيارات؟ أقلّ القليل، أما الأكثرون فتُهلكهم أمراض الأبدان: أمراض القلب والرئتين والسكتة الدماغية وأنواع السرطان، وغيرها من العلل والأدواء.

ونحن كذلك، إنها المشكلة ذاتها التي تعاني منها الأمة وتعاني منها الثورة. من أجل ذلك ترك أكثرُ كتّاب الثورة الحديثَ عن العدو الخارجي الظاهر واشتغلوا بالعدو الداخلي المستتر، لأن ثورتنا تقتلها أخطاؤها قبل أن يقتلها أعداؤها، لأننا لا خطرَ أخطرُ علينا من أنفسنا ولا شيءَ أفتكُ بنا من أمراضنا.

أهذا غريب؟ أبداً، بل هو خبر السماء: "سألتُ ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنَعَني واحدة. سألت ربي أن لا يُهلك أمتي بسَنَةٍ عامة (أي بقحط ومجاعة) فأعطانيها. وسألته أن لا يسلّط عليهم عدواً من غيرهم فيجتاحهم، فأعطانيها. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنَعَنيها". وفي لفظ مسلم: "وإنّ ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يُرَدّ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة، وأن لا أسلّط عليهم عدواً من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم مَن بأقطارها (أي لو اجتمعت عليهم الدنيا بأسرها) حتى يكون بعضهم يُهلك بعضاً".

* * *

ليس ما سبق إخباراً قدَرياً لا تملك الأمة أن تصنع معه شيئاً، بل هو إنذار من النبي عليه الصلاة والسلام. إنه يحذرنا قائلاً: أمّا تلك الأخطار فقد كُفيتموها، فقد تعهد ربكم بحمايتكم من أسباب الهلاك التي لا يدَ لكم فيها ولا طاقةَ لكم بها، الكوارث الطبيعية واجتماع الأعداء، ثم وكل إليكم حماية أنفسكم من شرّ أنفسكم، فلم يضمن أن يحمي الأمة من بأسها (وهو قادر على ذلك) لأن هذه الحماية تتعارض مع سنّة التكليف والحساب والجزاء، إنها المسؤولية التي ستحملونها على ظهوركم إلى آخر الزمان.

إن جواب الربّ القدير يعني أن هذا الجزء مسؤولية الأمة، وأنها لا ينبغي أن تتوقع معجزة ربانية لحمايتها من نفسها، من ظلم بعضها لبعض ومن بغي بعضها على بعض. عليها هي نفسها أن تتّقي زوالها بأيدي أبنائها، عليها هي نفسها أن تستأصل سرطانها وأن تعالج أدواءها.

هنا يأتي دور الدعاة والمصلحين الذين وُجدوا في كل زمان، الذين كانت مهتمهم أن يبحثوا عن العلل الفتاكة ويدلّوا عليها الناس. فإذا كره الناس تشخيص الطبيب فلا يلوموا الطبيب، وإذا استثقلوا المرض فلا يلوموا المرض، إنما يُلام مَن عرف الدواء ثم أعرض عنه وأصرّ على الاستسلام للداء القَتّال.

* * *

نعم، إن ثورتنا في خطر، وإن أكبر الأخطار التي تهددها هي تجاوزات بعض المنتسبين إليها، ولكنها لن تُهزم ولن تموت -بعون الله- ما بقي فيها من يرفض الخطأ والظلم بلا مواربة، ومن يتقدم للإصلاح والعلاج.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين