ندوة التجارب الوقفية في بلاد الشام - التجارب الوقفية

ندوة التجارب الوقفية في بلاد الشام

هذه الدراسة التي كتبها الدكتور محمد راتب النابلسي ألقاها في ندوة التجارب الوقفية في بلاد الشام
المنعقدة في دمشق ( فندق الميريديان )
من 13- 14 مايس 2000
تحت رعاية
وزارة الأوقاف في الجمهورية العربية السورية ورقة ميدانية عن واقع الأوقاف في سورية
 ونقدِّمها للقراء الكرام

بقلم الدكتور محمد راتب النابلسي

سيادة وزير الأوقاف الأستاذ محمد عبد الرؤوف زيادة ، راعي هذه الندوة
أيها السادة أهل العلم ، وأهل الفضل ، وأهل البيان 0
أيها السادة الحضور 0
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
      نحن أمة … شرفها الله بالإسلام ، وأعزّها به ، وازدهر ماضيها بالتمسك به ، ووعدها الله في مستقبلها أن يستخلفها في الأرض ؛ وأن يمكّن لها دينها بشرط أن يرتضيه ، وأن يبدّل خوفها أمناً . قال تعالى :
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا 0
     فلا سبيل إلى استرداد الدور القيادي لهذه الأمة ، إلا بالتمسك بالمنهج القويم ، الذي جاء به سيد المرسلين ، عليه أتم الصلاة والتسليم ، إذ بين للناس ما نزّل إليهم ، وأخرجهم من ظلمات الجهل والوهم ، إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات ، إلى جنات القربات .
    ولأن الإنسان من خلال التصور الإسلامي ، خلق لجنة عرضها السماوات والأرض ، وأن ثمن هذه الجنة هو عمل صالح يَصْلُحُ به حالُ المسلمين ، ويَصْلُح للعرض على الله ، حيث ينزّه عن كل غرض دنيوي ، قال تعالى :
فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا
لذلك اندفع ثلة من أوائل المسلمين ، وقليل من آخرهم ، إلى التسابق إلى عمل صالح يرجون به رحمة الله ، ويدفعون به  نقمة ، في دنياهم وأخراهم … فكان الوقف …. وأصله في السنة المطهرة :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن المئةَ سَهْمٍ التي بخَيْبرَ لم أُصِبْ مالاً قطُّ هو أعجب إليّ منها …وقد أردت أن أتصدق بها … فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " احبس أصلها وسبّل ثمرتها "
    وفي رواية البخاري في صحيحه أن عمر بن الخطاب أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه ، فما تأمر به ؟ قال : (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها). قال: فتصدق بها عمر: أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء، وفي القربى، وفي الرقاب ، وفي سبيل الله ، وابن السبيل ، والضيف ، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ، ويطعم غير متمول . ودعا نفراً من المهاجرين والأنصار وأشهدهم عليه ، فاشتهر ذلك 0
    وأقبل المهاجرون والأنصار على وقف بعض أموالهم ، وفي ذلك قال جابر رضي الله عنه : لم أعلم أحداً من المهاجرين والأنصار  إلا حبس مالاً من أمواله صدقة مؤبدة ، لا تشترى ، ولا توهب ، ولا تورث ، وكان كثير من الواقفين يكتبون كتاب وقفهم ، مصرحين فيه بأنه كان على سنة سيدنا عمر
وحبس عثمان بئر رومه على المسلمين ، بعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتقل بذلك من السلف إلى الخلف ، جيلاً بعد جيل 0
وثبت أيضاً أن كلاً من سيدنا أبي بكر ،  وسيدنا علي بن أبي طالب ، حبس شيئاً من أمواله ، وتبعهم من أتى بعدهم ، بحيث لم يخل عصر من العصور إلا وحبس فيه أناس شيئاً من أموالهم على جهات خيرية
      والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للإيمان ، لأن الإيمان حقيقة إيجابية متحركة ، فما إن تستقر في النفس ، حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها ،  في صورة عمل صالح ، فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية ، فهذا الإيمان  مزيف أو ميت ، لأن الإيمان ليس انكماشاً ولا سلبيةً ولا انزواءً ، وليس مجرد نوايا طيبة لا تجسد في حركة أو عمل .
     وكلما اتسعت رقعة العمل الصالح ، فشملت أعداداً كبيرة من البشر وكلما امتد أمد العمل الصالح ، وطال … حتى توارثت ثماره أجيال وأجيال ، وكلما تغلغل العمل الصالح في كيان الإنسان كله المادي ، والنفسي ، والاجتماعي ، والروحي حتى تحقق به وجود الإنسان وتألقت من خلاله إنسانيته .
     ويزداد ثقل العمل في ميزان الحق ، وتتضاعف قيمته ، ومثوبته عند الله كلما كثرت المعوقات في سبيله ، وعظمت الصوارف عنه ، وقلّ المُعين عليه
وحينما يرزق الإنسان مثل هذه الأعمال ،  يحيا وهو ميت ، ويؤدي رسالته وهو تحت التراب ، ففي الحديث الصحيح :
" إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث صدقة جارية ( والوقف من الصدقات الجارية ) أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " .
وفي حديث آخر تضمن تفصيلات لهذه الثلاث :
إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد موته ، علم علمه ونشره ، أو ولد صالح تركه ، أو مصحف ورثه ، أو مسجد بناه ، أو بيت لابن السبيل ، أو نهر أجراه ، أو صدقة أخرجها من ماله ، في صحته وحياته .
هنيئاً لمن كانوا تحت الثرى ، والناس مهتدون بهديهم ، سعداء بأعمالهم 0
ففاعل الخير خير من الخير .
        *        *        *        *
والوقف ـ في المعنى الحقيقي التام ـ هو من خصائص الإسلام ، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله : لم يحبس أهل الجاهلية داراً ولا أرضاً فيما علمت ، وقال الإمام النووي رحمه الله عن الوقف : هو ما اختص به المسلمون ..
    وبلدنا الطيب الذي تنعقد في ربوعه هذه الندوة ،  عريق في الأعمال الجليلة ، التي تنطلق من السنة التي سنها النبي صلى الله عليه وسلم ألا وهي الوقـف كيف لا وقد نوه النبي صلى الله عليه وسلم بفضل بلاد الشام موضوع هذه الندوة ، فعن عبد الله بن عمر رَضِي اللَّه عَنْهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني رأيت عمود الكتاب انتزع من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو نور ساطع ، فعمد به إلى الشام ، ألا وإن الإيمان إذا وقعت الفتن بالشام 0
    وقد كثرت الأوقاف في مصر والشام كثرة واضحة ، حتى صارت للأحباس أي للأوقاف إدارة خاصة تشرف عليها وترعاها ، وأول من فعل هذا توبة بن نمير الحضرمي قاضي مصر في زمن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك ، فقد كانت الأحباس في أيدي أهلها، وفي أيدي الأوصياء فلما ولي توبة ، قال ما أرى مرجع هذه الصدقات إلا إلى الفقراء والمساكين فأرى أن أضع يدي عليها حفاظاً لها من الضياع والتوارث ، ولم يمت توبة حتى صار للأوقاف ديوان مستقل عن بقية الدواوين له حق الإشراف عليه
ولعل من أقدم الأوقاف في بلاد الشام وقف الجامع الأموي ، وقد سجلت بعضها على أعمدته ، ومن أقدم الأوقاف أيضاً وقف جامع الخياطين ، وقف جامع فتحي ، ووقف جامع الحنابلة ، ووقف جامع القلبقجية 0
 
 إن تاريخ الأوقاف الإسلامية في بلاد الشام قديم جداً إذ كان يدار من قبل متولين ممن يتمتعون بالصلاح والتقوى ويتم تعيينهم من قبل ( نظارة الأوقاف  السلطانية أيام الحكم العثماني ) وكان يرجع في أمور الأوقاف إلى ما حوته كتب الفقه من مختلف الاجتهادات لشتى المذاهب 0
وبعد الحكم العثماني سعت الحكومة العربية الفتية فأدخلت بعض التعديلات على القوانين العثمانية 0
ثم جاء الانتداب الفرنسي فجعل للأوقاف في سوريا ولبنان مراقبة عامة ألحقوها بالمفوض الفرنسي 0
وفي عام 1930 سلخت دائرة الأوقاف من المفوض الفرنسي وألحقت برئاسة الحكومة 0
وفي عام 1937 أحدثت مديرية عامة للأوقاف ألحقت برئاسة مجلس الوزراء 0
وفي عام ألف وتسعمئة وواحد وستين 1961 صدر مرسوم تشريعي بإحداث وزارة الأوقاف في الجمهورية العربية السورية التي تتولى إدارة شؤون الأوقاف والإشراف عليها ومن مهماتها صيانة أموال الأوقاف والعناية ببيوت الله ونشر الثقافة الإسلامية وتخريج العلماء والوعاظ وإقامة المؤسسات الخيرية وبناء الجوامع والمساجد .
 
جاء في حيثيات قرار إحداث المجلس الأعلى للأوقاف في سورية عام ألف وتسعمئة وواحد وعشرين أن الذين وقفوا الأوقاف من المسلمين إنما قصدوا بذلك الخير والتقوى فأوقافهم هي دينية إسلامية محضة وبما أن الشريعة الإسلامية تقضي بأن تصرف إيراداتها طبقاً لشروط الواقف، وبما أن الأوقاف الإسلامية هي ملك المسلمين وأن المراقبة عليها ليس لها أسباب إلا ما تقتضيه منافع المسلمين لذا يجب المحافظة على استقلالها وخصوصياتها وأن يقوم على شؤونها أناس مقتدرون 0
في الجمهورية العربية السورية نجد أن قسماً كبيراً جداً من مساحتها تابع للوقف ، بل إن قرى بأكملها تعد من الوقف غير أن الكثير من هذه الأوقاف قد ضاعت لسبب أو لآخر ، الأمر الذي حدا بالمسؤولين إلى سن القوانين والأنظمة للحفاظ على هذه الثروة التي يحتاجها العباد سواءً في الإنتاج الزراعي وتأمين السكن والاستفادة من الحوانيت والمكاتب .
     وقد استفادت الأوقاف الإسلامية من أعمال التحديد والتحرير الذي جرى عام 1929 حيث تثبتت أوصاف العقارات الوقفية ومساحاتها وأنواعها الشرعية في القيود العقارية الرسمية
    وقد تحصنت الأملاك الوقفية بالقانون المدني الذي منع التصرف بالأراضي إلا على الوجه المشروع وحدد أنواع الأوقاف والأحكار والاجارة الطويلة والاجارتين 0
     كما استفادت الأوقاف الإسلامية من قانون أعمار الأراضي 0
     وتقوم وزارة الأوقاف والدوائر الوقفية في المدن والقرى والأرياف بإدارة الأملاك الوقفية ذات الغلة واستثمارها عن طريق تأجيرها مباشرةً بالمزاد العلني والمزاد يكون للهبة التي تنطلق من تحديد الحد الأدنى .
     ولو وقفنا وقفة متأنية عند القانون المدني السوري ؛ لوجدنا أن المادة  الرابعة والخمسين تنص على أن الوقف شخص من الأشخاص الاعتبارية ، له ذمة مالية مستقلة ، وأهلية في الحدود التي يعينها سند إنشائه ، والتي يقرها القانون ، وله أيضاً حق التقاضي ، وله موطن مستقل ، ويعتبر موطنه المكان الذي يوجد فيه مركز إدارته ، ويكون له نائب يعبر عن إرادته ، ومن النصوص الناظمة لشؤون الوقف :
    1 – لا يجوز بيع العقار الموقوف ولا يجوز التخلي عنه لا مجاناً ولا ببدل ، ولا انتقاله بطريق الإرث ، ولا يجوز رهنه ، أو عقد تأمين عليه 0
    2 – يشمل الوقف جميع الأشياء التي كانت أو أصبحت متممة للعقار أو من ملحقاته أو من التوابع اللازمة له 0
    3 – لا يكتسب بالتقادم أي حق على العقارات الوقفية ، المستعملة مسجداً أو مستشفى ، أو معهداً تعليمياً ، أو ما كان مخصصاً لاستعمال العموم 0
    4 – لا يجوز إنشاء وقف إلا لجهة خيرية 0
    5 – يحظر إنشاء أي حق عيني على العقارات الوقفية ، تحت طائلة البطلان 0
    6 – لا يسري التقادم على الأجور المستحقة لجهة الوقف لسائر الأنواع إلا بمرور خمسة عشر سنة 0
    7 – لا يجوز استغلال العقارات الوقفية إلا عن طريق المزايدة العلنية وفق الأصول 0
*         *          *         *
 
وليس هناك من مرحلة في تاريخ أمتنا  نحن في أمس الحاجة فيها إلى التعاون والتكاتف والتناصر والتضامن كهذه المرحلة الدقيقة التي تمر بها أمتنا العربية والإسلامية ولاسيما في ظل النظام العالمي الجديد ، وفي ظل غياب التوازن الدولي ، وتحكم القطب الواحد ، وازدواجية المعايير ، وسيطرة الاحتكارات الكبرى ، والتطورات الهائلة في وسائل الاتصالات والمعلوماتية ، وازدياد الهوة بين الدول الغنية المتقدمة والدول النامية ، وانفجارات الحروب الإقليمية والمحلية والصراعات القبلية والدينية والعرقية في مناطق متعددة من العالم ... إضافة إلى نهج العَولمة الثقافية والاقتصادية ... إن عالمنا اليوم يكاد يتحول إلى غابة تتحكم فيها مراكز القوة وتغيب عنها ضوابط المبادئ والقيم 0
هذا وقد احتل الاقتصاد المكان المؤثر ، بل والمتحكم في مصائر الشعوب والأفراد ، كان لابد من تحديث الأشكال والأطر للوقف الإسلامي بحيث يحقق مصالح المسلمين ويحقق قوله تعالى :
وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ
والبر ـ كما قال المفسرون ـ صلاح الدنيا ، والتقوى ، صلاح الآخرة .
ونظراً لأهمية الوقف في حياة المسلمين ، فلا بد من تنميته ، وإثرائه ، وتطويره وحث الناس على القيام بهذا العمل الجليل الذي يعد الصدقة الجارية التي لا تنقطع بموت صاحبها فهي ترقى بصاحبها إلى أعلى عليين ، وينتفع بها المسلمون فتتقوى الروابط الاجتماعية ، وتحل المشكلات الاقتصادية
ولعل من أنجح الأساليب أن نحول الفقير المستهلك ، إلى إنسان منتج منفق أي أن نحول قابض الزكاة ، إلى دافع للزكاة ؛ فمن كان بالأمس محمولاً يغدو في الغد حاملاً ، يحمل الكل والضعيف ، الذي يعجز عن الإنتاج .
      وأنا مع الأخ الكريم الدكتور فؤاد العمر ، في أن توزع إدارة الوقف ، وتثمير أمواله ، وتوزيع عوائده ؛ بين الجهات الرسمية المسؤولة عن الأوقاف في إدارته وضبطه ، والخبراء في الاقتصاد في تثمير أمواله ، والجمعيات الخيرية ذات النفع العام في توزيع عوائده ، فقد ورد في مقدمة ابن خلدون ( وهو أول كتاب في علم الاجتماع ) أنه إذا تاجر السلطان هلكت الرعية ، وهذا رأي شخصي لا يمثل الجهة التي أتحدث باسمها 0
     فيمكن أن توظف أموال الوقف ـ مثلاً ـ في تأسيس شركات زراعية وصناعية وتجارية ، متكاملة فيما بينها ، تُمدّ السوق بإنتاج زراعي يسهم بخفض أسعار المواد الغذائية ، وتمده بسلع أساسية تخفف العبء على الفقير المستهلك ، وتوفر فرص عمل للشباب الذين لا يجدون عملاً ، ويخصص ريع هذه الشركات لتطويرها ، وخفض تكاليفها ، وتوليد شركات فرعية ، تدعم الشركة الأم ، ثم تفتتح منافذ للبيع ، يأخذ الفقير ـ بحسب تقويم موضوعي ـ منها حاجاته ، بأسعار مخفضة ، وببطاقات خاصة 0
ويمكن أن توظف أموال الوقف في إنشاء أبنية سكنية تكون مأوى لأصحاب الدخل المحدود ، حينما يتزوجون ، أو يزوجون أبناءهم وبناتهم ، ويدفع المنتفعون بها أجراً رمزياً لمدة خمس سنوات فقط ، ثم تؤجر لهم بعد هذه المدة بأجر المثل ، دعماً للمشروع ، وتوليداً لمشروع آخر . فكما أنه لا كيان من دون أرض ، لا زواج من دون بيت 0
     ويمكن أن يوقف بعض أغنياء المسلمين ، ممن يتمتعون بثقافة عالية ، أو يقدرون قيمة العلم بعضاً من أموالهم لتأسيس دور نشر ترعى الشاب المثقف الملتزم ، وتنشر نتاجه العلمي والأدبي والديني بسعر منخفض يسهم في نشر الثقافة المنضبطة بالوحيين ، ويدعم المؤلفين الشباب ، بالتعريف بهم من خلال نشر مؤلفاتهم 0
     ويمكن أن توظف بعض أموال الوقف  لتأسيس معاهد للمهن الراقية ومنها الحاسوب … تستقبل الشباب الفقراء ، بأجر رمزي ، وتؤهلهم بحرفة تدر عليهم دخلاً يحفظ لهم ماء وجههم .
     ويمكن أن توظف بعض أموال الوقف ، في توفير فرص عمل لخرجي الجامعات كالأطباء ، ولاسيما أطباء الأسنان ، من خلال منحهم ثمن العيادات والتجهيزات ؛ والمهندسين ، ولاسيما المهندسين الزراعيين ، من خلال منحهم الأراضي لاستصلاحها ، وإقامة المشاريع الزراعية الفردية عليها 0
     ويمكن أن توظف بعض أموال الوقف في تأسيس صندوق للقرض الحسن يلبي حاجات الفقراء ، ولا يوقعهم في الشرع الحنيف  ويقوم على إدارة هذا الصندوق ، رجال أكفاء مخلصون يؤكدون من خلال هذا الصندوق ، أن في منهج الله ومنه  ( الوقف ) ما يلبي حاجة الفقير ويخلصه من عقدة الذنب التي يسببها القرض الربوي .
    ويمكن أن توظف بعض أموال الوقف في تأسيس صندوق للتأمين التعاوني الذي سمح به الشرع الحنيف ، بل ندب له ، فإذا تلف مال أو بضاعة ، لأحد المشتركين في هذا الصندوق تلقى تعويضاً مكافئاً لحجم الخسارة ، ونجا من التأمين الاستغلالي الذي يفتقر إلى المعاوضة التي هي أصل من أصول التعامل الإسلامي ، ونجا وهو الأهم من عقدة الذنب التي تحجبه عن الله ، ولو لم يتلف لأي من المشتركين في هذا الصندوق مال أو بضاعة عادت الأموال إلى أصحابها 0
    وقد رأيت هذا مطبقاً في الجاليات الإسلامية في بعض البلاد الغربية
ذلك أن نظام التقاضي هناك يتيح للمريض أن يقاضي طبيبه إذا توهم أنه أخطأ في أسلوب معالجته ، وقد تحكم له المحكمة بمبلغ يفوق كل ما جمعه الطبيب في عمره كله لذلك لابد للطبيب من أن يؤمن ضد هذا الخطر ، وقد يصل التأمين إلى ما يعادل المليون ليرة سورية في العام ، ثم اهتدى بعضهم إلى التأمين الذي شرعه الإسلام ، وهو التأمين التعاوني ، فأنشأ عدد من الأطباء صندوقاً لتأمين المشتركين فيه ضد هذا الخطر ، فإن لم تقم أية دعوى على أحد المساهمين في هذا الصندوق عادت الأموال إلى أصحابها 0
0
فمن ثمرات هذا التشريع الرباني ( الوقف ) أن جمعية خيرية في دمشق بناء على أن أحد الأثرياء وقف بيتاً واسعاً في واحد من أرقى أحياء دمشق افتتحت فيه مركزاً مطوراً ، ومشغلاً كبيراً للتدريب المهني ، وبدأت بحرفة الخياطة فاستقبلت الفتيات الفقيرات ، حيث خضعن لدورات عالية المستوى في فن الخياطة ، ثم أعطين معدات الخياطة إلى بيوتهن ، وهيأت هذه الجمعية منافذ لتصريف منتجاتهن ، وبهذا حولت هذه الفتاة الفقيرة البائسة التي تمد يدها للسؤال إلى فتاة منتجة مكتفية أنفقت على نفسها وأهلها وحفظت لها ماء وجهها ، وربما ساهمت بفائض دخلها بحمل غيرها ممن يلوذ بها 0
       وقد تأسس في دمشق صندوق العافية ، لتقديم المساعدات الطبية ؛ من عمليات جراحية ، ومعالجات للفقراء وأصحاب الدخل المحدود ، من أبناء مدينة دمشق ، وقد بدأ عمله في مطلع عام ألف وتسعمئة وسبعة وتسعين ، وقد بلغ عدد الذين استفادوا من خدماته قرابة أربعة آلاف مريض ومريضة ، وقد بلغت نفقات وتكاليف العمليات والمعالجات ما يزيد عن تسعين مليون ليرة سورية ، وقد أوقف أحد المحسنين بناء ضخماً ليكون مستشفى تابعاً لصندوق العافية ، وقد حذت حلب حذو دمشق فأسست صندوقاً آخر على شاكلة عافية دمشق 0
وفي دمشق فيحاء العروبة تجربة ناجحة ورائدة ففيها عدد من المستوصفات الذي تقدم المعالجة الطبية في شتى الاختصاصات وتقدم التحاليل والفحوص المخبرية والإشعاعية والايكو والمرنان والدواء بأسعار رمزية تدعم ذا الدخل المحدود ، كمستوصف الباسل والأكرم والعثمان وغرفة التجارة 0
      وقد تأسس في دمشق الصندوق الوطني لتشغيل  المعوقين ، ومهمته تقديم القروض الحسنة للمعوقين ، ليصبحوا عناصر منتجة في المجتمع
 وقد أنشئ في دمشق صندوق المودة والرحمة لمساعدة الشباب على تحصين أنفسهم بالزواج وعن طريق المساهمة بجزء من تكاليف الزواج ليحل النكاح محل السفاح ، وقد بدأ عمله في مطلع عام ألف وتسعمئة وتسعة وتسعين ، بعد أن أوقف بعض المحسنين بعضاً من أموالهم لهذه الغاية 0
أيها الأخوة … إن أصبت فمن توفيق الله ، وإن جانبت الصواب فمن تقصيري ، وشكراً لإصغائكم وصبركم 0
    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين