نعمة الشام - الشام ومآثره

نعمة الشام


أيها الإخوة المؤمنون.. الحديث اليوم عن نعمة عظيمة جليلة خصنا الله تعالى بها أهلَ الشام، ألا وهي نعمة الشام، نعمة هذا البلد الطيب، نعمة هذه الأرض المباركة، نعمة هذا الماء العذب، نعمة هذا الهواء العليل، نعمة النشأة في أرض الأنبياء، نعمة الولادة في أرض الأولياء والصالحين، نعمة القرآن في بلاد الشام، نعمة العلم والعلماء في بلاد الشام. ولعلكم تذكرون أن الكبار كانوا دائماً يقولون: (الحمد لله على نعمة الإسلام، والسكنى في الشام) ولذلك أصل في أحاديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.
وخير ما نبتدئ به: كلام الله تبارك وتعالى في مدح هذه الأرض التي نشأنا فيها أيها الإخوة، في قصة سيدنا إبراهيم إذ يقول تبارك وتعالى: ] وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [ [الأنبياء71 ] هي أرض الشام في قول من أصح الأقوال، إبراهيم لما خرج من حران فاراً من النمروذ خرج إلى أرض الشام وتعبد الله تبارك وتعالى بسفح جبل قاسيون، وهذا ما قيل أيضاً في قوله تبارك وتعالى في أول سورة الإسراء: ] سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ..[ [الإسراء1] فالبركة فيه متحققة، ولكن الإخبار في هذه السورة زاد في البركة فيما حول المسجد الأقصى، قال العلماء: إنما هي الشام وأرض الشام. وذكرنا في تفسير القرآن قبل الجمعة في الأسابيع الماضية قول المفسرين في قوله تبارك وتعالى: ] وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [ [التين1-2] وأن المراد بالتين أرض الشام، لأن الشام كانت تعرف قديماً بزراعة التين. هذه أرض مباركة بنصوص الآيات الكريمة في أقوال جمهرة من المفسرين كقتادة عن ابن عباس وعكرمة والسدي وغيرهم.
أما أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام فهي أحاديث واسعة تنص بلا شك ولا ريب على فضيلة دمشق خاصة وبلاد الشام عامة، ففي حديث أخرجه الحاكم في المستدرك والطبراني وغيرهما وصححه الحاكم ووافقه الذهبي عن سيدنا عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله تبارك وتعالى عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ستجندون أجناداً [أجناداً: يعني جيوشاً] جنداً في الشام وجنداً في العراق، قلت [عبد الله بن حوالة الأزدي رضي الله تعالى عنه يقول للنبي عليه الصلاة والسلام ] : خر لي يا رسول الله [يعني: اختر لي إذا خيرت بين العراق والشام، إلى أيهما أذهب؟] قال: عليك بالشام [وفي رواية أن النبي عليه الصلاة والسلام أعادها ثلاثاً: عليكم بالشام عليكم بالشام عليكم بالشام] فإن الله تبارك وتعالى قد تكفل لي بالشام وأهله) يقول الإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء رحمه الله تعالى توفي سنة 660هـ، وكان ملك العلماء، إمام من كبار الأئمة الشافعية في الفقه والأصول، وله رسالة سماها: (ترغيب أهل الإسلام بسكنى بلاد الشام) ألف رسالة في حث الناس على السكنى في بلاد الشام، يقول: من تكفل الله به أيضيع بعد ذلك؟ (فإن الله قد تكفل لي بالشام وأهله) أيكون في ضيعة من تكفل الله تبارك وتعالى به؟.
وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت عمود الكتاب نزع من تحت رأسي، فأتبعته بصري فإذا هو بالشام) والكتاب القرآن الكريم، وقد جعل الله تبارك وتعالى العلم والقرآن في الشام قروناً عديدة، وإلى هذه الأيام، ما يزال الناس يأتون من كل حدب وصوب من كل الأصقاع والبلاد والأجناس لطلب العلم الشرعي الشريف في بلاد الشام، لحفظ القرآن الكريم وتلقي الروايات والقراءات وأخذ الإجازات في الحديث، من كل صقع ومن كل بلد يأتون إلى بلاد الشام، وأهل الشام يزهدون في الشام، أهل الشام يزهدون في العلماء، يزهدون في القراء والحفاظ، يزهدون في حِلَق العلم، يزهدون في هذه البركة ومعنى هذه البركة.
أيها الإخوة هذا الحديث لكم ولكل من يستمع، لأنني أعلم أن الآلاف يستمعون لهذه الخطب عبر الإنترنت والحمد لله تعالى، أنا أقول للشباب الذي ينشأ في هذه الأيام أبناء العشرين والخامسة والعشرين، الذين يعيشون على حلم السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية أو إلى كندا: ماذا تصنعون؟ وهبكم الله تبارك وتعالى نعمة عظمى، أنكم نشأتم في هذا البلد الطيب، البلد الخير المعطاء، نشأتم في أرض الأنبياء والأولياء والعلماء والفقهاء والمحدثين، ثم ترغبون عن هذا البلد؟! وكم رأينا ممن خرج إلى تلك البلاد وأضاع دينه، وأضاع مستقبله وأضاع حياته وعمره، رغبة في الهجرة وراء الدولار، رغبة في المال، رغبة في طلب الدنيا، أو مقتاً للبلد وما فيه، نعم أيها الإخوة، بلدنا لم يكن هكذا في حال من الفوضى كالتي نراها، نعم الإسلام دين الحضارة، الخلافات والدول التي قامت في الماضي والممالك والسلاطين والدول مع ما كان بينها من حروب شتى كانت تحفظ نظاماً للحضارة، سبق به العرب والمسلمون الأوروبيين بمئات السنين، بل من أكثر من ألف سنة كانت شوارع دمشق مرصوفة بالحجارة، كانت نظيفة، كانت شوارع دمشق وبغداد ومدن الإسلام الكبرى تضاء في الليل، هذا من أكثر من ألف سنة، الإسلام الذي عرف الحضارة وقدم الحضارة والنظام والنظافة للعالم أجمع، فلا ينبغي لنا إذا ما رأينا بعض التقصير، والتقصير منا أيها الإخوة، البلد بلدنا، فإذا ما رأينا القمامة في الطريق ملقاة فلنعلم أننا المسؤولون عن ذلك، لأننا أبناء هذا البلد وفيه نعيش وفيه ننشأ، فلا ينبغي أن يكون الدواء والعلاج بالمقت للبلد والكراهية له والهروب منه ومقارنة حال الأوروبيين أو حال الناس في الولايات المتحدة الأمريكية بحالنا اليوم، فأنا أقول لكم أيها الإخوة: أعطوا الولايات المتحدة الأمريكية سنة من الفوضى وانظروا كيف يعيش الأمريكيون في حياة الغابة، كيف يأكل بعضهم بعضاً.. أنا خطبت في المركز الإسلامي في الجادة الثالثة الشارع 96 ، وبعض من يحضر الخطب هنا في هذا المسجد استمع إلى خطبي هناك، فقلت هنالك في ذلك الوقت سنة 2002 و 2003 كان هناك ستين ألف مشرد في مدينة نيويورك، قلت لهم: في الشام ما عندنا مشردون بفضل الله تعالى، في الولايات المتحدة الأمريكية بلد القوة، البلد الذي استطاع أن يغزو الفضاء وأن يصنع القنبلة الذرية وأن يكتشف الماء على المريخ وأن يحلل الأنسجة البشرية وأن يكتشف الصبغيات والجينات الوراثية والمورثات ومع كل ذلك لا يستطيع إيواء الناس! ستون ألف مشرد! قلت لهم: بلادنا بلاد الشام ليس عندها هذه القوة الفضائية ولا القوة النووية، ولكن عندنا الدين والأخلاق، عندنا بركة الأنبياء والمرسلين في بلادنا، عندنا الإخوة التي بين الناس التي تمنع الإنسان أن ينام وجاره إلى جنبه جائع، فكيف به إذا وجد مشرداً في الطريق؟ هذه البركة أيها الإخوة لا يمكن أن توجد بحال من الأحوال في بلد من البلاد.
أنا أخطب هذا اليوم حول هذا الموضوع بمناسبة قدومي من السفر، لأني قضيت الجمعة الماضية إلى صباح هذا اليوم في المملكة المغربية في مؤتمر إسلامي، صدقوني كنت أركب السيارات العامة في الطريق وأول ما يعرف الناس أني من الشام (من أي بلد؟.. من سوريا) يبدؤون بمدح أهل الشام والثناء على أهل الشام، يبدؤون بمدح بلاد الشام وسياسة أهل الشام في الوقوف ضد إسرائيل، الخيرات التي في الشام، العلماء في الشام، القرآن في الشام، سمعت هذا من عشرات الناس، وما اجتمعت برجل من أهل العلم إلا وهو يتمنى أن يأتي إلى الشام، وما اجتمعت بطالب علم إلا وهو يتمنى أن يأتي ليحصل العلم في الشام، هذا في سفر جمعة في بلد من البلاد الإسلامية.
 إذا ما أردنا أن نقارن حالنا بأحوال جيراننا أيها الإخوة، انظروا وقارنوا بأحوال الجيران في الأمن، رزقنا الله تبارك وتعالى نعمة الأمن، وهذه نعمة عظمى، يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (من بات آمناً في سربه، معافاً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) أي: كأنما ملك الدنيا جميعاً، أول ذلك: (من بات آمناً في سربه) في فراشه، يبيت الليل آمناً لا يخاف على نفسه أحداً، يمشي في الطريق آمناً، وهذه دمشق قد امتن الله تبارك وتعالى علينا فيها بنعمة الأمن، يمشي الإنسان منتصف الليل أو الثانية ليلاً في الطريق فلا يخاف على نفسه أحداً، نعمة من الله تبارك وتعالى امتن الله تبارك وتعالى بها علينا، صدقوني في مدن مثل ديترويت أو شيكاغو أو نيويورك أو غيرها من المدن أو حتى لندن لا يستطيع الإنسان أن يمشي في وسط المدينة منتصف الليل إلا وهو يخاف على نفسه اللصوص والسراق.
إذا أخذنا أيها الإخوة نعمة الدين نعمة العفاف، نحن مع كل ما نعظ به إذ نعظ أو نذكر به حين نذكر من شأن الحجاب وشأن الأخلاق فإننا لا ننكر أن الدين في الشام بفضل الله تبارك وتعالى وأن الأخلاق في الشام أكثر من غيرها من البلاد بكثير، وأنا دخلت إلى معظم الدول والبلاد العربية بفضل الله عز وجل، والمسافر يقارن في الأحوال، يقارن في الدين، يقارن في التمسك بالحجاب، يقارن في الإقبال على صلاة الجماعة في المساجد، إذا أردت أن تعرف أديان الناس –كما قال السلف- فاخرج إلى الأسواق، الدين يعرف في السوق لا في المسجد، لأن المعاملة تظهر حقيقة تعلق الإنسان بالله أو بالمال، نعم ربما تأتي وتصلي في المسجد ولكن تضن أن تدفع حق الناس للناس في السوق، أو أن تسدد الدين عند حلول أجل السداد، أو ربما يطمع الإنسان في الربح فيغش الناس، نظرنا ورأينا أيها الإخوة في بلاد الشرق والغرب في بلاد إسلامية، فرأينا هذا البلد قد كرمه الله تبارك وتعالى وشرفه بالعفة بالأخلاق بالدين بالعلم بالحفاظ على الشعائر الإسلامية، وهذه أمور ينبغي أن نتنبه لها، لأن الأمة لا تزال بخير ما دامت تحافظ على شعائر الله تبارك وتعالى، ما دامت تعز دين الله عز وجل، مادام صاحب المعصية يستتر بالمعصية ولا يجاهر بها، مادام المقصر يأسف لتقصيره ويستحيي من ربه، فالأمة لا تزال بخير.
هذه نعم من الله تبارك وتعالى امتن الله عز وجل بها علينا، ولذلك جاء في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك) قال معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: (وهم بالشام) لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم، ظاهرين على الحق في الدين في الإيمان في الاعتقاد في التمسك بالسنة في التمسك بالقرآن في العمل به في الاقتداء بالنبي عليه الصلاة والسلام في تعظيم شعائر الله تبارك وتعالى في إحقاق الحق وإبطال الباطل.. لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، اللهم اجعلنا من هؤلاء، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه فيا فوز المستغفرين.......

ألقاها الشيخ محمد أبو الهدى اليعقوبي في جامع الحسن في حي ابو رمانة بدمشق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين