صفحة من تاريخ الإسلام في الهند

 

حدث في الخامس عشر من ذي القعدة1386

وفاة آخر ملوك حيدر آباد؛ النظام عثمان علي خان

 

في الخامس عشر من ذي القعدة من عام 1386 المصادف 24/2/1967 توفي في حيدر آباد في الهند، عن 81 سنة، آخر ملوك حيدر آباد؛ النظام عثمان علي خان، لتطوى بوفاته صفحة من صفحات التاريخ الإسلامي المجيد في الهند.

 

ولد مير عثمان علي خان بهادُر في حيدر آباد الدَكَن 2 في رجب سنة 1303، وحيدر آباد تقع اليوم في ولاية أندرا برادش في جنوب الهند، وتولى الحكم في 4 رمضان سنة 1329=29/8/1911 بعد وفاة والده محبوب علي خان، وتلقب بآصَف جاه السابع، وألقابه الرسمية هي كما يلي: صاحب السمو، رستم الدوران، أرسطو الزمان والممالك، آصَف جاه السابع، مظفر الممالك، نظام المُلك، نظام الدولة، نواب مير سير عثمان علي خان صديقي، سِباه سالار، فاتح جَنك، نظام حيدر آباد.

 

وكانت حيدر آباد آنذاك أكبر إمارة في الهند، تبلغ مساحتها 223.000 كيلومتر مربع، أي قريباً من مساحة بريطانيا، وكان حاكمها أعلى الأمراء الهنود مرتبة وأحدُ خمسة أمراء فيها يحيون بأن تطلق لهم المدافع 21 طلقة، وكان الوحيد الذي يتمتع بلقب النظام، وإلى جانب منحه لقب فارس نجمة الهند ولقب فارس الإمبراطورية البريطانية، منحته بريطانيا لقبين خصيصين به، وهما: صاحب السمو المجيد، والحليف الوفي للتاج البريطاني، وذلك لمساهمته المالية السخية في المجهود الحربي البريطاني في الحرب العالمية الأولى، ومن ذلك أنه تبرع بقيمة سرب طائرات كامل دُعي بسرب حيدر آباد وكانت كل طائرة منه تحمل رقْماً يذكر أنها هدية من نظام حيدر آباد.

 

وخلال مدة حكمه التي بلغت 37 سنة قام النظام بعمل كثير من المشاريع التنموية فأدخل الكهرباء ومد السكك الحديدية وأنشأ شركة طيران، كما قام بعديد من مشاريع الري والزراعة، وبنى أغلب المباني الرئيسية في مدينة حيدر آباد والتي لا تزال قائمة لليوم، مثل مستشفى العثمانية العام، والمحكمة العليا، والمكتبة الآصَفية، ومبنى الجمعية العامة، ومتحف حيدر آباد ومرصدها الفلكي، وبنى في عاصمة الهند دلهي مبنى حيدر آباد الذي أصبح اليوم جزءاً من وزارة الخارجية الهندية، وفي سنة 1941 أسس النظام بنكاً أسماه بنك ولاية حيدر آباد، ليكون بمثابة البنك المركزي لأغنى ولاية هندية، والتي كانت الولاية الوحيدة التي سمح لها البريطانيون بإصدار عملتها الخاصة؛ روبية حيدر آباد.

 

وكان النظام ينفق 11% من ميزانيته على التعليم، وجعل التعليم الابتدائي إجبارياً، وأسس العديد من المدارس والكليات، ووفر التعليم المجاني للفقراء، وأسس في سنة 1336=1918 الجامعة العثمانية، المنسوبة له، واهتم منذ تأسيسها بأبحاث الزراعة وتطويرها، ولا تزال إلى اليوم واحدة من أفضل الجامعات الهندية، وكانت مساعداته السخية تشمل كثيراً من المؤسسات العلمية مثل الجامعة النظامية ودار العلوم في ديوبند، وجامعة بنارس الهندوسية، وجامعة عليكرة الإسلامية، وفي ذي القعدة من سنة 1327=1908 تأسست ندوة العلماء في لكنو بالهند، وكان نظام حيدر آباد أحد كبار من ساعدوا في إنشائها وتبرعوا لبنائها، واهتم النظام باللغة الأردية ونشر آدابها مما أثار عليه حنق الهندوس المتعصبين الذين يرون فيها لغة الإسلام في القارة شبه الهندية، ولما قام المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى في فلسطين بتجديد عمارة المسجد الأقصى وقبة الصخرة في سنة 1347=1928، كان نظام حيدر آباد من أكبر المتبرعين لهذا المشروع الكبير.

 

كان النظام رجلاً متعلماً وأديباً راقياً ينظم الشعر بالأُردية، وله ديوان منشور، واجتذب للعمل في دائرة المعارف في حيدر آباد عدداً من علماء العرب والعجم منهم المرحوم مترجم القرآن الكريم مارمَدُوك بِكثال، المولود سنة 1875، والمتوفى سنة سنة 1936، والذي تولى إدارة كلية حيدر آباد ورأس تحرير مجلة الثقافة الإسلامية التي كانت تصدر هناك باللغة الإنجليزية، وفرَّغته حكومة النظام سنتين للقيام بترجمته للقرآن الكريم التي تعد من أكثر ترجمات القرآن رواجاً وسهولة أسلوب.

 

وفي سنة 1947 أعلنت الحكومة البريطانية قرارها بالانسحاب من الهند، وتقسيم شبه القارة الهندية على أساس ديني إلى دولتين هما الهند وباكستان، وتركت للولايات المستقلة حرية اختيار الالتحاق بإحدى الدولتين، وكان قرار النظام رفض الانضمام للدولتين مفضلاً أن تكون حيدر آباد مملكة مستقلة ضمن دول الكومنوِلث البريطاني، ورغم أن تصريحات الحكومة البريطانية حول مبادئ انسحابها من شبه القارة الهندية وتقسيمها كانت تسمح من الناحية النظرية باستقلال إمارة حيدر آباد، إلا أن المندوب البريطاني اللورد مونتباتن لم يكن متحمساً لهذا الخيار، وكان يتوقع أن تضم الدولة الهندية هذه الدويلات، ولذا لم تلق رغبة النظام في الاستقلال أي تأييد فعلي من بريطانيا.

 

ودخل نظام حيدر آباد ورئيس وزرائه الهندوسي في مفاوضات علنية مع الحكومة الهندية لتحديد شكل العلاقة المستقبلية بينه وبينها، ورفضت الهند اقتراح النظام أن يجري استفتاء للسكان على الاستقلال، أو أن يحال الأمر إلى منظمة الأمم المتحدة للتوسط أو البت فيه، وأصرت الهند على ضم حيدر آباد لأن أغلبية سكانها كانت من الهندوس، وشكل بعض المسلمين في حيدر آباد بموافقة ضمنية من النظام قوات من الفدائيين المسلمين لإخافة الهند وردعها إن هي حاولت اللجوء للقوة، ولكن الحكومة الهندية قررت غزو حيدر آباد وضمها بالقوة للهند.

وفي شوال من سنة 1367=9/1948 هاجمت فرقة من الجيش الهندي مدعومة بلواء دبابات إمارة حيدر آباد، وكان قوام جيش حيدر آباد 6000 جندي مع 18.000 رديف من المتطوعين المدنيين، ولم يكن لهؤلاء أن يقفوا في وجه القوات الهندية ذات العدد والعدة، وبعد 5 أيام من القتال المتفرق، قرر قائد جيش حيدر آباد الجنرال سيد أحمد العيدروس أن لا أمل في مقاومة الاحتلال، فقرر نظام حيدر آباد الاستسلام للهند التي أعلنت ضم السلطنة بالقوة، ثم قامت بعد سنة بتقسيم الولاية على أربع ولايات أخرى وذلك على أسس لغوية، واختفت بذلك ولاية حيدر آباد.

 

وجاء هذا في نفس الوقت الذي أعلن فيه حاكم كشمير الهندوسي ضمها للهند رغم كون أغلبية سكانها المطلقة من المسلمين الذين أرادوا الانضمام لباكستان، فضمتها الهند بالقوة ضد إرادة سكانها، ورفضت تنفيذ قرارات الأمم المتحدة بإجراء استفتاء يقرر فيه أهلها مصيرهم.

ورغم احتلال الحكومة الهندية حيدر آباد وضمها للهند بالقوة، إلا أنها عاملت النظام معاملة تناسبت مع مكانته السابقة، فلم تصادر ثروته الخاصة وبعض قصوره، وبقي له احترامه ووجاهته، وكان النظام أغنى رجل في العالم في أيامه، وفي سنة 1940 قدرت ثروته بمبلغ 2000 مليون دولار أمريكي تعادل آنذاك 2% من حجم الاقتصاد الأمريكي، وتصدرت صورته في سنة 1937 مجلة تايم الأمريكية على أنه أغنى رجل في العالم، وبعد احتلال الهند لحيدر آباد، أصدرت وزارة المالية لحكومة عموم الهند في بياناتها أن دخل حيدر آباد السنوي بلغ ما يعادل 1.000 مليون دولار، ويعتقد أن النظام بقي أغنى رجل في آسيا حتى وفاته سنة 1386=1967، وحينها قُدِّرت تركته بمبلغ 1.000 مليون دولار، وكانت محور دعاوى عديدة مريرة شهدتها المحاكم بين ورثته العديدين، فقد كان للنظام 7 زيجات، وولد له 19 ولداً و19 ابنة، وتزوج أكبرُ أولاده؛ أعظم جاه بابنة السلطان العثماني عبد المجيد الثاني، وبقي النظام على مبراته بعد خسارته الإمارة فقد تبرع في سنة 1953 بمبلغ 50.000 جنيه للمركز الإسلامي في ريجنت بارك في لندن.

 

كان لدى نظام حيدر آباد مجموعة من المجوهرات والمصوغات النفيسة التي تعد من أهم مجموعات المجوهرات في العالم كله، والتي اقتناها سلاطين حيدر آباد واحداً تلو الآخر، وتضم المجموعة 173 جوهرة من نفائس الألماس والزمرد واللؤلؤ وغيره، منها ما هو مصوغ ومنها ما هو مفرد، وبعد ضم الحكومة الهندية لحيدر آباد بالقوة تركتها في ملكية النظام، ولكنها منعته من التصرف فيها باعتبارها تراثاً وطنياً، وبعد وفاته اشترتها الحكومة الهندية من ورثته بمبلغ يعادل 70 مليون دولار، وهو ثمن يقل كثيراً عن قيمتها الحقيقية التي قدرت بمبلغ 350 مليون دولار.

إن التراث الحقيقي والخالد لنظام حيدر آباد هو أوقافه التي نذرها لنشر العلوم والمعارف، ولا تزال قائمة في حيدر آباد أهم مؤسساته العلمية التي تخلد ذكره: الجامعة النظامية ودائرة المعارف النظامية.

وأسس الجامعة النظامية شيخ الإسلام محمد أنوار الله خان الفاروقي في سنة 1293=1876، وجاء أغلب تمويلها من نظام حيدر آباد آصف جاه السابع، وهي اليوم من الجامعات الإسلامية الهامة في شبه القارة الهندية، وممن تخرج منها اثنان من أصدقاء والدي، كان يمكن أن يكون لهما مكان في كتابه الشهير: العلماء العزاب، رحمة الله على الجميع.

 

أما أولهما فهو العلامة الفقيه المحدث الزاهد أبو الوفاء الأفغاني، المولود في قندهار بأفغانستان سنة 1893=1310، والمتوفى 13 رجب سنة 1395=1975، والذي قضى حياته في التأليف والتحقيق بين الكتب والمخطوطات، ومات عزباً لم يتزوج، وترك وراءه مكتبة ثرية من أمهات كتب الفقه والحديث التي حققها ونشرتها لجنة إحياء المعارف النعمانية في حيدر آباد، والتي تخص في أغلبها مدرسة الفقه الحنفي، منها كتاب الأصل للإمام محمد بن الحسن الشيباني، ويعرف كذلك بالمبسوط، ومختصر الطحاوي، والتاريخ الكبير للإمام البخاري، وأصول السرخسي.

 

وثانيهما هو العلامة الزاهد المتواضع محمد حميد الله الحيدر آبادي الذي تخرج من الجامعة النظامية، ولما صارت قضية حيدر آباد واستقلالها، سافر مع وفد منها إلى الأمم المتحدة للحصول على تأييدها، فلما استولت الهند على حيدر آباد عزّ عليه ذلك، وأبى الرجوع لموطنه المحتل، ورفض أن يحصل على جواز هندي بدلاً من جواز سفره الصادر من حيدر آباد، وقضى ما بقي من حياته وحيداً بين كتبه وأبحاثه في بيت متواضع في باريس، يحاضر ويبحث ويؤلف، وأفاد المكتبة العربية الإسلامية بمؤلفات فريدة نافعة، قبل أن يدركه الوهن ويحتاج إلى رعاية، ولكونه لم يتزوج أحضرته حفيدة أخيه إلى مقرها في أمريكا وهو في التسعين، حيث توفى هناك في 12 شوال سنة 1423=17/12/2002 وقد قارب المئة عام.

 

أما دائرة المعارف النظامية فلها فضل كبير على تراث العرب والإسلام فقد نشرت كثيراً من الكتب في مواضيع شتى تتناول الحديث وعلومه والرجال وأصول الفقه والفقه والأدب والفلسفة والجغرافيا والبلدان، وهي إلى يومنا هذا تقوم بتحقيق وطباعة الكتب العربية والإسلامية، ولا يجهل كثير من العاملين في التحقيق والنشر أن للدائرة كذلك فضل السابق حين كانت طبعتُها الطبعةَ الأولى لكثير من أمهات الكتب في المواضيع التي ذكرناها آنفا، وبخاصة أن مكتبة النظام كانت تحتوي على مخطوطات نفيسة لأمهات الكتب، وقد عمل في الدائرة محققون عرب وهنود وعجم من مسلمين وغيرهم، ومن أبرزهم الشيخ المحقق عبد الرحمن بن يحيى المعلمي، رحمه الله تعالى، وعمل فيها كذلك المستشرق الألماني فريتس كرنكو المولود سنة 1289=1872 والمتوفى سنة 1372=1953، والذي اعتنق الإسلام وتسمى بسالم الكرنكوي، وحقق فيها بضع عشرة كتاباً منها الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني.

 

ذكرنا أن قائد جيش حيدر آباد كان الجنرال سيد أحمد العيدروس، ويقودنا هذا لنذكر أن بين حيدر آباد وبين العرب وشائج ورحِم، ولعل من أقواها وأطرفها أن من تقاليد نظام حيدر آباد أن يكون حرسه من أبناء حضرموت في اليمن، ومن هؤلاء محمد بن عمر بن عوض القعيطي اليافعي الحضرمي، الذي كان من كبار الحضارمة في حيدر آباد، ثم عاد لليمن فاستولى على مدينة شبام، وصار ابنه عوض سلطاناً على حضرموت، وهو أول من تلقب بالسلطنة من أمراء العائلة القعيطية، مع كون أكثر إقامته في حيدر آباد في خدمة سلطانها، وتوفي عوض في حيدر آباد سنة 1328=1910، وخلفه ابنه غالب الذي كان كذلك يكثر الإقامة في حيدر آباد وتوفي بها سنة 1340=1922، ودفن مع أبيه بمقبرة أكبر شاه، ثم خلفه أخوه عمر المولود سنة 1287=1870 والذي كان قبل السلطنة في خدمة نظام حيدر أباد، وقد جعله حكمدارا لفرق الحضارم القائمين بحراسة خزائن النظام وقصوره، وآلت إليه السلطنة بعد وفاة أخيه غالب، فاستمر في عمله بحيدر أباد، وتوفي بها، وكان يزور حضرموت بين حين وآخر ويعود بما جمعه وكلاؤه فيها من الاموال، وكان كبير وكلائه فيها أبو بكر حسين ابن حامد المحضار، الذي كان ينعت بالوزير.

 

ولم يقتصر الأمر على الخدمة العسكرية بل اجتذبت حيدر آباد الدعاة والصلحاء ومن هؤلاء الفقيه الأديب أبو بكر بن عبد الرحمن بن محمد، باعلوي السقاف الحسيني، المولود بتريم سنة 1262=1846، والذي قصد الهند فسكن حيدر آباد الدكن، واتسعت شهرته في الهند وجاوة والملايو، بمحاربته البدع، وسلوكه طريق السلف الصالح، وتوفي في حيدر آباد سنة 1341=1922.

وبعد أن تحدثنا عن نهاية الدولة النظامية في حيدر آباد، نعود لنستعرض تاريخها من بدايته، فنذكر أنها تأسست على أنقاض الدولة المغولية في الهند، وعلى يد أسرة آصَف جاه التركية العرق والتي تعود أصولها لسمرقند، والتي جاءت إلى الهند في آخر القرن الحادي عشر الهجري= السابع عشر الميلادي لتعمل في بلاط الإمبراطورية المغولية التي أصبحت تحكم الهند.

 

ونشير كذلك أنه بعد وفاة الإمبراطور أورانكزيب في 14 شوال سنة 1114=3/3/1703 بدأت الدولة المغولية في الضعف، فقد دخل خليفته وابنه الأمير معظم في صراع مع أخويه قبل أن يستتب له الأمر ويحكم باسم بهادُر شاه، ولم يدم حكم بهادر سوى 5 سنوات، وبعد وفاته في 19 محرم 1124=1712، أصبح الإمبراطور مجرد اسم وأضحى الوزراء هم الذين يتحكمون بالدولة، وتسنم العرش الإمبراطور فَروخ سيار بتدبير من الوزيرين عبد الله وحسين علي من أسرة السيد، وطلب الإمبراطور الجديد من جِن قليج خان أن يكون نائبه على الدكن ومنحه لقب نظام الـمُلْك.

 

ولم يكن نظام الملك، المولود سنة 1082=1671، غريباً عن الحكم والدولة، فقد خدمت أسرته أباً عن جد في البلاط الإمبراطوري المغولي، ولما ولد أسماه الإمبراطور أورانكزيب؛ قمر الدين خان، ومنحه منصباً في بلاطه وهو في السادسة من عمره، وفي السابعة عشر من عمره شارك النبيل الشاب والده في معركة كبرى وأظهر فيها مهارة مرموقة في قيادة الجيوش وخوض الحروب، فرقاه السلطان ومنحه أفضل جواد عربي في خيوله، ولما بلغ التاسعة عشرة من عمره منحه السلطان لقب جِن فاتح أي الفاتح الشاب، وبعدها بسنة رقاه السلطان ثانية ومنحه لقب جِنْ قليج خان أي السيف الشاب لبسالته في حصار إحدى القلاع حتى فتحها، ولما بلغ السادسة والعشرين جعله السلطان قائد جيشه ونائبه في عدة مناطق كانت آخرها منطقة الدكن.

 

وبعد وفاة بهادر شاه اعتزل نظام الملك العمل الحكومي واستقر في دهلي، ولكن الإمبراطور فروخ سيار استدعاه بعد تسنمه العرش في سنة 1124=1712وأقنعه أن يكون نائبه على الدكن، على أمل أن يوازن به نفوذ الأخوين الوزيرين من أسرة السيد، وقام نظام الملك بمنصبه خير قيام ورفع كثيراً من المظالم عن الرعية في الدكن، وفي تلك الأثناء كان الإمبراطور فروخ سيار يدبر للتخلص من الوزيرين ليصفو له الحكم، ولكنهما استبقا الأمر ودبرا مقتله في في سنة 1131=1719، وأتيا محله بأميرين صدف وأن ماتا واحداً بعد آخر خلال 8 أشهر، وجاءا بعدهما بمحمد شاه ابن الإمبراطور السابق شاه جهان، وكان عمره 17 عاماً، على أمل أن يتحكما من خلاله بالدولة.

 

وأدى مقتل فروخ شاه إلى استياء عدد كبير من النبلاء في الدولة المغولية، وبخاصة أن كثيراً منهم كان يرى أن سياسة الوزيرين القائمة على الجباية المالية قد ابتعدت عن المنهج المغولي في سياسة الرعية ومراعاة أحوالهم، واتحد هؤلاء تحت زعامة نظام الملك للقضاء على الوزيرين، وتحقق لهم ذلك في السنة التالية حين حين قُتِل حسين علي وهُزم عبد الله في معركة حسن بور جنوب دلهي، فصفت الأمور للإمبراطور محمد شاه، الذي تزوج في السنة التالية ابنة الإمبراطور المغدور فروخ، واستوزر الأمير نظام الملك.

 

وكان محمد شاه شاباً هازلاً لاهياً يقضي أغلب وقته في اللهو والملذات، وكانت حاشيته من العبيد والجواري تهزأ بكبار رجال الدولة وتنبزهم بألقاب السخرية، وأراد نظام الملك أن يعيد للبلاط سابق نظامه مجده ويرد له هيبته وتوقيره، ولم يعجب ذلك الحاشية اللاهية فأوغرت عليه صدر الإمبراطور فرفض الإصلاحات التي أراد وزيره الجديد إدخالها على الدولة ونظام الحكم، فلم تمض سنوات ثلاث إلا وقد تفاقم خلافهما إلى حد كبير ترك معه الوزير البلاط، وعاد إلى مقره في الدكن في سنة 1136=1724.

 

وفي الدكن وجد نظام الملك نفسه في مواجهة مع الأمير مُبرِّز خان الذي كان الإمبراطور فروخ سيار قد عينه قبل 9 سنوات حاكماً على الدكن، والذي وطد نفوذه فيها ونشر أقاربه في المناصب المهمة، وسرعان ما تواجه الخصمان في معركة قصيرة حاسمة انجلت عن انتصار نظام الملك انتصاراً سرعان ما اعترف به الإمبراطور محمد شاه، الذي أصدر مرسوماً بتولية نظام الملك نائباً له على الدكن ومنحه لقب آصَف جاه، أي مثيل آصف، وآصَف هنا كاتب النبي سليمان عليه السلام الذي دعا الله باسمه الأعظم فرأى سليمان عرش بلقيس مستقراً عنده.

 

وبعد سنة من تسلمه الحكم في الدكن دخل آصف جاه في نزاع مع إمارة الماراثا في الغرب من الدكن عندما رفض أن يدفع لهم ربع ما يرد لخزينته، ودخل في حرب معهم دامت 6 شهور وانتهت في أواسط سنة 1140=1728 بهزيمته وبعقد اتفاق سلام أجابهم فيه إلى كثير مما طلبوه، وبدأ آصف جاه في بناء جيش قوي ليهابه جميع الأمراء من حوله، وفي سنة 1730 كان عدد الفيلة في جيشه قد بلغ 1026 فيلاً منها 225 فيلاً مغطاة بالدروع التي تقيها السهام والرماح.

 

وفي هذه الفترة بدأت المناطق تتمرد وتتفلت من يد الإمبراطور شاه محمد، وبدأ أمراؤها يوطدون نفوذهم ويستبدون بالأمر مستقلين عملياً عن الحكومة المغولية مع بقاء بعض الصلات الشكلية معها، وكانت الحكومة المركزية أضعف من أن تواجههم ولذا قبلت منهم الولاء الإسمي وما كانوا يحملون إليها سنوياً من الأموال، وبلغ الضعف والتدهور حداً أطمع نادر شاه في إيران أن يستولي على المناطق الحدودية في شمال غرب الهند، ثم بدأ في السير نحو دهلي فأرسل آصف جاه جيشه ليقف مع جيش الإمبراطور محمد شاه في صد الغزو الفارسي، ولكنهما هزما في معركة كارنال هزيمة ساحقة بفضل الخيالة الفارسية وأساليبها أسلحتها المتفوقة، واحتل نادر شاه دهلي في سنة 1151=1739، وأمر باستباحتها وقتل أهلها بسبب هجوم بعضهم على جنوده، فسقط الآلاف من أهلها في أكبر مجزرة تشهدها هذه المدينة الإمبراطورية، وكاد أهلها أن يفنوا لولا تدخل آصف جان واستعطافه لنادر شاه، الذي عاد من دهلي بغنيمة تقدر بمبلغ 700 مليون روبية، واستغرق الأمر 9 سنوات ليستطيع الإمبراطور المغولي شاه محمد استرجاع أراضيه من أمير أفغانستان أحمد شاه العبدلي الذي صار أمير أفغانستان بعد وفاة نادر شاه في سنة 1160=1747، ولكنه لم يمتع طويلاً بهذا النصر الذي تم قبل شهر من وفاته في سنة 1161= 1748.

وكانت شركة الهند الشرقية الإنجليزية التي تأسست في لندن سنة 1600 بغرض التجارة مع الشرق وجنوب شرق آسيا والهند، ومرت بمراحل وتطورات مختلفة ما يهمنا منها هنا هزيمتها للبرتغاليين في سواحل الهند في سنة 1612 لتبدأ علاقاتها مع الدولة المغولية، وأسست في سنة 1640 قاعدة في مَدَراس بإذن من الراجا الهندوسي، عرفت باسم قلعة سان جورج، وبقي ذلك الترتيب عندما انتقلت مَدَراس لسيطرة الدولة المغولية سنة 1687، وتبادل المقيم البريطاني الهدايا مع نظام الملك في سنة 1742 الذي أكد عليهم ألا يقوموا بسكِّ عملة خاصة بهم.

 

وأدركت نظام الملك منيته في مدينة بُرهانبور في 6 جمادى الآخرة سنة 1161= 1748، ودفن في مزار الشيخ برهان الدين الجستي غير بعيد من ضريح السلطان أورانكزيب، وقبل وفاته بأيام ترك وصية أوصى فيها أولاده وخلفاءه أن لا يشقوا عصا الطاعة على الإمبراطور المغولي، فهو ولي نعمتهم وصاحب إمارتهم، وألا يهملوا أمور جيشهم ورعايته، وحذرهم من المبادرة إلى الحرب دون ضرورة لازمة، وإذا قرروا دخولها فليكن ذلك بعد استشارة الحكماء والصالحين، وليسيروا في حربهم على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ختامها شدد على أولاده ألا يلقوا سمعهم للوشاة والنمامين والمفترين، وألا يسمحوا للدهماء أن تتطاول في حضرتهم، واعتذر إلى زوجته لانشغاله عنها بأمور الحكم والدولة.

 

والحقيقة أن هذه الوصية تعبر تماماً عن سياسات هذا الرجل الحكيم، الذي ما فتئ يعلن ولاءه للدولة المغولية، ولم يتخذ أية خطوة من شأنها أن تفصل حيدر آباد عنها، فقد كان الدعاء في خطب الجمعة للسلطان المغولي، وكانت النقود تضرب باسمه، وتحمل إليه حصته من الضرائب، ومن ناحية أخرى حقق آصف جاه نجاحاً كبيراً في تحديث أنظمة حكومة حيدر آباد وطهرها من الفساد والرشوة، وراعى مصلحة الناس في فرض الضرائب وتحصيلها، وشجع التجارة بإشاعة الأمن والاستقرار، ولذلك ازدهرت حيدر آباد في عهده ازدهاراً جعلها أغنى وأقوى ممالك الهند.

 

وبعد وفاة آصف جاه خلفه ابنه أحمد علي خان الذي اتخذ لقب ناصر جُنك وعُرف به، ولكنه لقي معارضة من ابن أخته طالب محي الدين الذي اتخذ لقب مظفر جُنك، وجرت بينهما معارك تدخل فيها البريطانيون إلى جانب ناصر جنك بينما أيد الفرنسيون مظفر جنك، وكان ذلك في إطار التنافس على الاستئثار بشبه القارة الهندية وليس في إطار صراع بين البلدين فقد كانت بريطانيا وفرنسا على وفاق آنذاك.

وانجلى النزاع عن مقتل ناصر جنك في المحرم من سنة 1164=1750، وانتقال العرش إلى منافسه مظفر جُنك الذي قتل بعد قرابة سنة على يد أحد حلفائه من الأفغان لأنه لم يف بوعوده لهم، وانتقل العرش بمساع فرنسية قوية إلى سعيد محمد خان الابن الثالث لآصف جاه الذي اتخذ لقب صلابة جنك، ودام حكمه قرابة 12 سنة حتى خلعه أخوه علي خان في آخر سنة 1175=1762.

 

 وكان علي خان، المولود سنة 1146=1734، قد تولى قيادة جيش الدكن قبل 3 سنوات، وحقق بعض النجاحات في معاركه ضد مملكة الماراثا وأثبت أنه قائد عسكري قدير، وفي سنة1174=1761 هزم الماراثا وحلفاءهم هزيمة ساحقة أجبرهم بعدها على طلب السلام، ثم اتجه على الفور فاعتقل أخاه صلابة جنك، وحصل على مرسوم من الإمبراطور شاه علم الثاني يعينه في منصب حاكم الدكن، واتخذ لقب آصف جاه الثاني، وكان من أول ما فعله أن نقل عاصمته من أورانج آباد إلى حيدر آباد وذلك لأن قرب الأولى من مناطق الماراثا يجعلها دائماً عرضة لعدوانهم.

 

وخاض آصف جاه الثاني حروباً مع الممالك الهندية المختلفة انتصر في بعضها وانهزم في بعضها، ودام حكمه 33 سنة حتى وفاته سنة 1218=1803، وكان في أغلب الوقت متعاوناً أو متحالفاً مع الفرنسيين الذين أيدوه وأيدوا كذلك سلطان ميسور فاتح علي الملقب تيبو سلطان، والذي هزم البريطانيين في ثلاثة حروب على مدى 10 سنين، ولكن البريطانيون هزموه في سنة 1213=1799 وقتل في المعركة، ولما وقع ذلك شعر آصف جاه الثاني أن ميزان القوى أصبح في صالح شركة الهند البريطانية فبادر وعقد اتفاق تحالف وتبعية مع الشركة، وأصبحت حيدر آباد ضمن الراج البريطاني في الهند.

وبعد وفاة آصف جاه الثاني خَلَفه ثاني أبنائه علي خان اسكندر، المولود سنة 1182=1768، والذي تلقب بآصف جهان الثالث، وشهد حكمه إنشاء قوة قوامها جنود السلطان وتكون تحت تصرف البريطانيين وقيادتهم، وتوفي آصف جهان الثالث في سنة 1244=1829، وخلف وراءه فوضى مالية كبيرة بسبب تبذيره، وخلفه ابنه علي خان، المولود سنة 1208=1794 الذي تلقب بناصر الدولة آصف جهان الرابع، وفي عهده أرسل البريطانيون جنرالا ليكون ممثلهم لدى السلطان، ودفعوا للسلطان مبلغاً مالياً مقابل أن يتخلى لهم عن جنوده الذين كانوا تحت تصرفهم، فيصبحوا تابعين لبريطانيا العظمى، مع تعهد أن يقاتلوا لحماية سلطنة حيدر آباد إن لزم الأمر، وقبل وفاته بقليل اندلعت اضطرابات ضد الاحتلال البريطاني شملت أغلب أنحاء الهند، ويطلق عليها البريطانيون التمرد الهندي، ويسميها الهنود ثورة حرب الاستقلال الأولى، وكان للإمبراطور المغولي دور كبير فيها، ولكن ناصر الدولة لم يشارك في الثورة التي أخمدتها بريطانيا بعد سنتين من الحروب.

 

توفي آصف جهان الرابع في سنة 1273= 1857، وخلفه أكبر أبنائه تهنيات علي خان، المولود سنة 1243=1827 الذي تلقب بأفضل الدولة آصف جهان الخامس، والذي شهد عهده إصلاحات إدارية ومالية وقضائية، وفي عهده أنشئت أول سكة حديدية وأنشأ مصلحة الاتصالات البرقية والبريدية، ومنحه البريطانيون في سنة 1278=1861 وسام نجمة الهند.

 

وتوفي آصف جهان الخامس في أول سنة 1285=1869 فجاء رئيس الوزراء تراب علي خان سالار جنك الأول، بابنه الوحيد محبوب علي خان، وكان طفلاً لم يبلغ الثالثة، ونصبه على عرش السلطنة ولقبه آصف جهان السادس، على أن يكون الوصي عليه أحد الأمراء من أسرته، واهتم الوصي ورئيس الوزراء بتعليم السلطان الفتى آصف جهان، فدرس على عادة أسلافه الآداب الفارسية والعربية والأردية، ولكنه كان أول سلطان يدرس الإنجليزية، وكان من جملة مدرسيه ضابط بريطاني درسه الأمور العسكرية، وتأثر آصف جهان السادس تأثراً كبيراً بشخصية رئيس وزرائه ووزراء والده من قبل؛ سالار جنك الأول، وتمتع آصف جهان السادس بالرخاء الذي عاد على خزانته بثروات كبيرة، أنفقها في كثير من المشاريع التنموية فأحبه الناس وسمَّوه محبوب علي خان، وكان دخله السنوي يقدر آنذاك بمبلغ 10 ملايين دولار، ويؤخذ عليه أنه كان مسرفاً في الإنفاق على لباسه وسياراته، فقد كان مغرماً بكليهما، وكان له جناح كبير في قصره خصصه لمقتنياته من السراويل والقمصان والعصي والعطور، واشترى كذلك ألماسة يعقوب، وتوفي سنة 1329=1911، وخلفه ابنه عثمان علي خان الذي بدأنا حديثنا عنه.

 

صفحة من تاريخ الإسلام في الهند، طوتها يد الأيام، فهل من معتبر؟

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين