كلمة سواء بين السلفية والصوفية

أرجو أن يعتني أخي الكريم الأستاذ محمد الحامد إذا جعلت حديثه الأسبق عن الصوفية والإخوان محل عتاب وموضوعاً لمقال، وإذا كان نشدان الحق والمصلحة سبيلنا كما أسأل الله أن يحققنا به فلا بأس على الأخ أن يعاتب أخاه، ولا يأسن ود الصديق بأن يرى هنة في حديث صديقه.

لست أنكر من حديث الأستاذ في جوهره الموضوعي شيئاً، ولا آخذ عليه لفريق من أهل الدين تعصباً أو انحيازاً، فأنا أعلم نزاهة مقاصده عن ذلك والحمد لله، وإنما آخذ على أسلوب العرض أنه أفضى إلى تحيز الدعوة في نطاق جانب من جوانب التوجيه الروحي مهما يقل في سلامة منابعه ورشاد أصوله وحقائقه فهو إنما يتلاقى مع ناحية من نواحي الفكرة دون أن تفقد الفكرة بتلاقيها معه ما يتسم به، من تعدد النواحي وشمول الاتجاهات التي تقتضيها طبيعة الإسلام فضلاً عن أن المقال يترك في نفوس من لا يتخذون سبيل الصوفية شبهة الفراق لهم والزراية عليهم، وليست دعوة الإخوان المسلمين فقهاً ومنهاجاً في شيء من هذا الفراق. 

إن الإخوان المسلمين يحملون الدعوة التي يرجون أن يكونوا بها على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويحاولون أن يقتفوا آثار الراشدين المهديين من حملة الرسالة السابقين من الصحابة والتابعين قبل أن يعرف تاريخ الإسلام فرقة مذهبية أو مدارس اعتقادية وعبادية، وهم بذلك لا يدعون لأنفسهم فضلاً على مسلم، ولا ينتقصون شيئاً من شأن داعية إلى الإسلام، ولكنهم يودون لو استطاعوا بنهجهم الأمثل أن يحتفظوا بالصلات الطيبة والتعاون الكامل مع كل ذي وجهة نظر معينة في قصور فكرة الإسلام وتحديد أساليب العمل له ما لم تناقض صريح الآيات ومعلوم الدين بالضرورة، تمهيداً لما يرجون من عون الله فيما يستهدفون فوق ذلك من إزالة الجفوة بين الفرق الإسلامية بعضها وبعض، وما يتابعون الخطى في اتئاد وإخلاص من العمل على جمع القلوب كافة تحت لواء: لا إله إلا الله محمد رسول الله، في ظل القاعدة الذهبية التي طالما تغنى بها الإمام الشهيد:" نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه".

وهذا الهدف الكبير الذي ينبع من فقه سواء لطبيعة الخلافات في أمور فرعية يقتضي في مناهج العمل أن تتكيف المسالك والأحاديث والصلات مع كل عامل للإسلام في غير زيف ولا انحراف بحيث نلقى في روع كل طائفة محبة الدعوة وتبث فيهم على اختلاف مذاهبهم وطرائق فهمهم وعملهم أنهم موضع الحب والتقدير من الدعوة ورجالها، وأقل ما يتقاضاها هذا التكييف ألا يظهر في أحاديث الإخوان وأعمالهم ما يثير شبهة الانحياز لفريق دون فريق، أو التقريب لطائفة بالابتعاد عن سواها ولا يسبقن إلى ذهن قارئ أن هذا نوع من الدهاء أدخل في معنى حرص رجل السياسة على اقتراب جميع المعسكرات منه فيما يجب على صاحب العقيدة من الجهر بالحق والمخاصمة عليه فإن ذلك ما لا يخطر ببال مؤمن أن يعتنقه أو يصدر عنه، وإنما يعني الإخوان بذلك أنهم ينظرون إلى كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله غير ظاهر بمعصية ولا منكر لمعلوم من الدين بالضرورة نظرة حب وإخاء، ويرون كل من يأخذ فكرته ونهجه من اجتهاده في هذه الحدود إخواناً كراماً يحرم على المسلم دمهم وعرضهم وما لهم، وإن بدت بعض هذه الطوائف معادية لبعض، أو تورط فريق منها في نسبة الزيغ والضلال لفريق، فإن الرمي بالزيغ والضلال عندنا لا يبرره الاختلاف في فهم آية أو تفسير حديث أو التعقيب على عمل من أعمال الرسول عليه أفضل الصلوات، بل لا يبرره عندنا ما قد يتقرر في أذهاننا نحن من تأكد بعض الخطأ في استنباط قوم وعمل آخرين.

إن من أسرار الخلود في رسالة الإسلام ـ كما نظن ـ أن تكون تعاليمه ومقاصد تشريعه في بعض الأمور صالحة لأن يختلف الناس في فهمها ويتباينوا في أساليب العمل بها، ولا بأس عليهم من ذلك ما لم يناقضوا أصلاً أو يحلوا حراماً أو يحرموا حلالاً، ولأمرٍ ما نشب الخلاف بين الصحابة أنفسهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسائل لا يكاد يحصيها العد وكلها أو أكثرها من الأهمية بمكان لا تبلغه مسائل الخلاف التي يقتتل عليها المسلمون ويتشعب عليها المجتمع الإسلامي منذ قرون شعباً نتبادل القذف بالكفر والضلال، وما روى التاريخ أن اختلاف الصحابة وأئمة التابعين حول هذه المسائل البالغة الأهمية، قد ورث قلوبهم شيئاً من التنافر والفرقة أو أدى إلى تصديع وحدة الجماعة، وما حديث صلاة العصر في بني قريظة، وخلاف الصاحبين في مصير أسرى بدر، وافتراق رأيهما في شأن خالد وتباعد رأي ابن عمر وعائشة في حديث تعذيب الميت ببكاء أهله، وتعارض آراء الأئمة في أجلِّ مسائل العبادة، كنقض وضوء اللامس، وطريقة إزالة الجنابة، وحكم قراءة البسملة، وصحة الصلاة لمن لم يقرأ الفاتحة خلف الإمام ـ ما هذه المسائل وتباعد الآراء فيها وفي كثير من أشباهها مع تبادل الحب والتزام حسن الظن إلا أدلة قاطعة على حقيقة تصور الثقات من الصحابة والأئمة لفكرة الاختلاف ذلك التصور الذي لا تصيب الطوائف اليوم غمسة من معين الحق إلا بقدر اقترانها منة وتناولها الأمور الخلافية في ضوئه.

وهكذا يستهدف الإخوان المسلمون في المقام الأول تصحيح النظرة إلى فكرة الخلاف، وتهذيب عناصر الحدة التي تصبغ تأثر كل فريق بمخالفة سائر الفرقاء له.

فإذا أسعف الله بالعون على هذه الغاية فإن التقريب بين طرائق العمل وأساليب الاستنباط لمسائل الدين يأتي في المرتبة الثانية، ولا يكون للإخفاق في تحقيقه ـ إذا حدث هذا الإخفاق ـ من الضرر على وحدة المسلمين معشار ما يكون لحدة التعصب للرأي والزراية على المخالف، إذ أن استقامة النظرة إلى فكرة الخلاف ستجهز على معنى الخصومة وتقتلع معالم التنافر، وتصل بالمتخالفين إلى أن يضع كل منهم أخاه على الأقل في مقام صاحب الأجر الواحد لخطئه ـ كما يرى ـ في الاجتهاد وإن وضع نفسه في مقام صاحب الأجرين لصوابه المظنون في الاجتهاد.

ومتى أفضى الفهم بالمتخالفين إلى هذا التصور أثمر الحياء من الله أن يرمي عقيدة المأجور عنده فلا أدب لمن يغلط في تسفيه مسلم يضعه الله عز وجل في مقام الرسول الكريم غداة التصرف في أسرى بدر [لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] {الأنفال:68}.

وكذلك متى صحَّ التصور لفكرة الخلاف أمكن أن يتلاقى المتخالفون في ظل القاعدة الذهبية: نتعاون فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه.

هذا يا أخي محمد الحامد هو صراط الإخوان بين الصوفية والسلفية، وكلهم أحبة كرام، ما خلت العقائد والأعمال من الشطط والغلو والإسراف.

فإذا وقع الشطط في العقيدة والسلوك فلا فراق معه إلا لمن فارق صريح الإيمان، أو أنكر المعلوم من الدين بالضرورة، وفي التناصح بالمعروف ولمس القلوب في رفق وإخاء بالموعظة الحسنة ما يسري في لهيب هذا الشطط بردِّ الطمأنينة والاعتدال فلا يلبث أن يتبخَّر الجفاء ويتيسَّر اللقاء.

وأما إذا وقع الشطط في الحملة على المخالفين فإن قليلاً من الحكمة والأدب في التبليغ جدير بأن يصيب توفيق الله إلى التخفيف والاتزان والتؤدة، وأستطيع أن أقرر على علم وتجربة أن معين الخير لم ينضب في نفوس أكثر هؤلاء المتلاحين، وأن أدب العرض كفيل أن ينقلهم أوسع نقلة في مضمار التقارب والتعاون ـ ما تبع هذا الأدب من خلوص القصد والتبرؤ من شهوة الإرشاد والاستعلاء ـ وربما أتيح لي في مقال آخر أن أسوق بعض الأمثلة على ما يؤدي إليه هذا الأسلوب من نجاح بمعونة الله، من أجل ذلك يا أخي محمد الحامد أراني عاتباً على ما تقرره في مقالك من أن الإخوان هم الصوفية، وأن الصوفية هم الإخوان، لا لأني أنتقص من شأن المتصوفة، ولا لأن أدعى للإخوان فضلاً على أهل التصوف، فعندي أن انصراف الهمَّة إلى استصلاح أنفسنا وتفقد عيوبنا خير وقاية من ادعاء الفضل على سوانا، وإنما يوجب هذا العتاب ما يثيره المقال أولاً من شبهة انحصار دعوة الإخوان في جانب التوجيه الروحي الذي تتمحض له الصوفية الخالصة.

وثانياً: مما يترك المقال من فرصة للظن بأن الإخوان ينظرون إلى غير المتصوفة من دعاة الإسلام نظرة خصومة وفراق.

ومما يستهدف المقال من تجنيب الدعوة عداء طائفة كريمة من أطهار المتصوفين فقد كان الأولى ـ فيما أظن ـ أن يدور الحديث على نفي الخصومة والبعد بين الإخوان والصوفية، وألا يخلو من كلمة تسوق مثل هذه الطمأنينة إلى من لا يدينون بالتصوف من دعاة الدين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 15/7/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين