بر الوالدين الوالدين وحقوقهما

يأتي برّ الوالدين في الإسلام في القمّة من سلّم القيم العليا ، إنّه يأتي مباشرة بعد الإيمان بالله تعالى. يدلّ على هذا قوله سبحانه : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا {23} وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا {24}} سورة الإسراء .

- الوالدان سبب وجودك وسقيا بقائك ، كم سهرا لتنام ، وكم تعبا لتستريح ، وكم استبدّ بهما القلق إذا ما أصابك أدنى مكروه … وإنّ الحديث عن فضلهما يطول ، لا توفّيه حقّه البلغاء ، ولا تَقْدِرُعلى إظهار حقيقته الأدباء . وليس في الدنيا من يريد أن يكون أحد خيراً منه ، إلا الوالدين ، فإنّه يسعدهما أن يكون الولد خيراً منهما ، بل يعتزان بهذا ويفخران به بين الناس ! فبماذا سوف تجزيهما أيها الولد ذكراً كنتَ أم أنثى !؟ . 

والسؤال البليغ الذي يقرر قاعدة من أعظم القواعد في التعامل ، جاء في قوله الله تعالى : {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان} ، هو خير جواب على سؤالنا المطروح .

- هذه القاعدة العظيمة التي لا يصحّ أن يرتاب فيها عاقل ، ولا أن يغفل عن العمل بمقتضاها عالم أو جاهل ، يسعى بعض المفسدين إلى التشكيك بها وإلغائها من واقع الحياة ، ليسهل تحطيم الأسرة التي هي الخليّة الأساس من خلايا المجتمع ، والتي يكون تماسكها وسلامتها أساساً لتماسك المجتمع وسلامته.

- إنّ طاعة الوالدين في غير معصية فرض . والمتتبع لآيات القرآن الكريم وسنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يفهم بوضوح أنّه لا يجوز لمسلم أن يرفض أمراً لوالديه ، سواءً أعجبه الأمر أم لا ، بل لم يكْتَفِ الإسلام بذلك ، حيث أوجب على المسلم مستوىً من العلاقة ، أعلى من الطاعة وأرقى منها ، حين طالب المسلم ببرّ الوالدين والإحسان إليهما والأدب الرفيع معهما ، وذلك في قوله تعالى : {وبالوالدين إحسانا} إنّه الإحسان الذي يزيد على الطاعة ، ويتجاوزها إلى ما هو أسمى منها ؛ وهوما تشير إليه الآية الكريمة : {ولا تقل لهما أفّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذلّ من الرحمة وقل ربّ ارحمهما كما ربَّياني صغيرا}.

وقد عدّ الرسول صلى الله عليه وسلم عقوق الوالدين من الذنوب الكبيرة المهلكة ، كما عدّ برّهما من أفضل الأعمال ، فقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم: أيّ العمل خير ؟ قال "الصلاة على وقتها" ثمّ أيّ ؟ قال : "برّ الوالدين" ثمّ أيّ ؟ قال : "الجهاد في سبيل الله" .

ولمّا رأى شابّا يريد الجهاد وليس لوالديه الكبيرين من يرعاهما في غيابه ، أمره أن يبقى قربهما . وقال صلى الله عليه وسلم: "فيهما فجاهد" .

- ومن الأمور التي تلفت النظر ، أنّ آيات القرآن الكريم أمرت الأولاد ببرّ الوالدين والإحسان إليهما ، ولم يَرِدِ الأمر للوالدين ببرّ الأولاد ، بل جاء الأمر للوالدين بالإنفاق ، وبإحسان التربية والتوجيه ، ذلك لأنّ عاطفة الوالدين الفطريّة القويّة تدفعهما إلى حبّ الأولاد والإحسان إليهم ما دامت الفطرة سليمة لم تَفسُد . ولا تنطفئ هذه العاطفة حتى بعد أن يشبّ الأولاد ويكبروا ، بل إنّ عاطفة الوالدين تتسع بعد ذلك لتشمل الأحفاد مع الأولاد.

وكما جاء الأمر للأولاد بطاعة الوالدين والإحسان إليهما ، جاء الأمر للمرأة بطاعة الزوج وحسن التبعّل له ، فهل أمر الأولاد بطاعة الوالدين وأمر المرأة بطاعة الزوج إنّما هو من أجل إخضاع إنسان لآخر ؟! لا … الأمر ليس كذلك ، بل إنّ من وراء هذا معنىً أعمق وأهمّ .

- نعم هناك معنىً أهمّ وأعمق ، وهو تقدير فضل الوالدين الذي أشرنا إليه آنفاً ، ثمّ سلامة الأسرة وتماسكها ، إذ أنّ أيّ مؤسسة لا يمكن أن تنضبط ولا أن يستقيم أمرها إلا إذا كان لها مدير أعلى ، ومرجع له القرار.

وهل يستقيم أمر مؤسسة ليس لها رأس ، ويتصرف كلّ فرد من أفرادها كما يريد ، دون مرجع أو ضابط ؟!.

إنّها مؤسسة تعمّها الفوضى ، ويسرع إليها التفكك والخراب ، وليس مقصدنا أنّ نقول إنّ للوالدين سلطة استبدادية ، بل على الوالدين أن يكونا حكيمين ، وأن يتخلّقا بخلق الإسلام ، وأن يعرفا كيف يعاملان الأولاد . ورحم الله والداً أعان ولده على برّه .

ومن المعلوم أنّ الشورى من مبادئ الإسلام العظيمة ، والأسرة من مجالات تطبيقها بما يناسب جوّ الأسرة ، وتسمح به ظروفها .

وإذاً ، يجب أن نؤكّد أن الأمر بطاعة الوالدين إنّما هو لاستقرار الأسرة والمحافظة عليها . ولا يغيب هذا إلا عن جاهل أو صاحب هوى .

- وثمّة نقطة ثانية لا تقلّ عن سابقتها أهميّة ، وهي حسن العلاقة بين الآباء والأبناء ، تمكّن الأبناء من الاستفادة من تجارب الآباء ، وتتيح للأجيال اللاحقة أن يأخذوا خير خبرات السابقين . ومن الواضح أنّ ذلك لا يتحقق إلا إذا كانت العلاقة بين الأجيال علاقة سليمة ، ونظرة اللاحق للسابق نظرة إقرار بالفضل ، وتقدير للخبرة ، لا نظرة احتقار أو استخفاف .

- وعلى ضوء ما تقدّم ، نفهم ما يسعى بعض المفسدين إلى زرعه في نفوس الأبناء ، بأنّهم جيل متقدّم ، وانّ الآباء جيل متخلّف ، وأنّ الأبناء أكثر انفتاحا وتطوّراً ودراية في الحياة من آبائهم .

نعم ! إنّهم يفعلون ذلك ، ويزيدون على هذا بإيهام الأبناء أنّ عصيان الوالدين ، والانطلاق بعيداً عن توجيهاتهما ، إنّما هو من الحريّة الشخصيّة التي لا يحقّ للوالدين المساس بها … وكلّ ذلك تدليس وغشّ واستخدام للمعاني في الشرّ والتدمير .

- فماذا يبقى من الأسرة بعد هذا الأذى والتخريب ، وأي جوّ ستعيشه الأسرة وتحياه في ظلّ تلك القيم المستوردة والشعارات البرّاقة الخادعة ، التي يُقدّمها سَدَنَةُ الفساد ، وأعداء الأمّة والمجتمع ! .

أيّ حياة هانئة ، وأيّ سكينة ، وأيّ استقرار ، عندما تصبح الزوجة عدوّاً للزوج متمرّدا عليه ! وعندما يحتقر الولد والديه أو يستخفّ بهما ؟!

وإذا تحطّمت هذه اللبنة ، فأيّ بناء سيرتفع ويقوم بلبنات فاسدة محطّمة ؟! .

- يجب أن نعود إلى قيمنا الأصيلة ، وإلى أحكام ديننا العظيم ، مع نبذ القيم الفاسدة المستحدثة التي يُزيّنها المفسدون ، ويُقدّمونها بأثواب مزخرفة ، تعجز عن ستر عوراتها ، وإخفاء بشاعتها .

إنّنا بحاجة إلى طاعة الوالدين ، وبِرّهما ، لِمَا لَهُما من فضل ، ولأنّ الله تعالى أمر بذلك ، وأوصى به ، كما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ناظرين إلى الحِكَمِ العظيمة التي تنطوي عليها قيمنا الإسلاميّة من استقرار للأسرة ، وتماسك للمجتمع ، واستفادة الأجيال اللاحقة من السابقة ، والعيش في وئام وسلام ، وودّ وتفاهم .

- فيا أيّها الأبناء : برّوا آباءكم لتنالوا رضا ربّكم ، ولتنعموا بالعيش في ظلّ أسرة مستقرّة ، وارفضوا القيم الغربيّة التي أدّت إلى تفكيك المجتمع ، وازدياد التعاسة والانتحار ، وفقدان السعادة ، على ما هم عليه من التقدّم المادّي وابتكار وسائل الرفاه والراحة الحسيّة .

وفي الحديث : "بَرُّوا آباءكم تَبَرَّكُم أبناؤكم ، وعِفُّوا تَعِفَّ نساؤكم" رواه الطبراني .

برّوا آباءكم ولا تكونوا ناكرين للفضل والمعروف ، وافهموا قول الله تعالى {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}

- الفلسفة الغربية ، بتأكيدها الحريّة الشخصيّة أوّلا ، وبقيام الدولة فيها بتقديم العون المادّي وألوانٍ من الرعاية للطفل والمريض والمسنّ ، خَفَّفت العبء عن أفراد الأسرة ، وقَلّلت من حاجة أحدهم إلى الآخر … فهيّأت رواتب للمولودين ، ومعالجة طبيّة مجانيّة أو شبه مجّانية ، ودوراً للعجزة والمسنين ، ومؤسسّات اجتماعيّة ترعى الفرد في جوانب كثيرة من حياته في مختلف أطوار الحياة .

وقد حسِب أصحاب هذه الفلسفة أنّهم يصنعون للإنسان جَنَّة على هذه الأرض ، لكنّهم اكتشفوا أنّ إضعاف الروابط بين أفراد الأسرة ، بل تحطيم الأسرة ، شرّ وبيل ، وأنّ دور الحضانه لا تغني عن الأمّ ، وأنّ دور العجزة لا تُعوّض عن الأولاد والإخوة والأخوات … وأنّ كلّ التيسيرات الماديّة ليست بديلا عن القلوب والأرواح .

لقد صارت صلة الفرد ـ في بلاد الغرب ـ بالدولة مباشرة ، يدفع إليها ضرائب باهظة ، ويتلقّى منها رعاية شاملة ، وفق مفاهيمهم للرعاية ، فعظمُ واجب الفرد تجاه الدولة ، وعظُت حقوقه ، وضؤلت واجباته تجاه أسرته ، وضؤلت حقوقه كذلك .

ولكنّ المبهورين من أبناء أمّتنا ، أحبّوا أن يُقلّدوا الغرب تقليداً أعمى ، وبشكلٍ انتقائيّ ، فهم يُطالبون بالتحرّر من سلطة الأبوين باسم الحريّة الشخصيّة وتحقيق الذات وأنّهم أدرى بمصالحهم … لكنّهم لا يفتؤون يُحمّلون والديهم كلّ واجبات الرعاية لهم ، والإنفاق عليهم بشكل كامل ، إلى سنّ البلوغ ، بل إلى حين التخرج في الجامعات ، بل إلى ما بعد ذلك .

إنّهم يريدون أن يُحطّموا رابطة الأسرة حين يتمرّدون على قوانينها ، ويتملّصون من واجباتهم تجاهها ـ وتحطيم الأسرة كما ذكرنا ، شرّ وبيل ـ لكنّهم يزيدون على ذلك بأن يطالبوا بحقوق لهم على هذه الأسرة التي يعملون على تحطيمها !!.

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 13/4/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين