المدرسة الخسروية - الثانوية الشرعية بحلب

الخسروية

هناك في ظل قلعة حلب من الجنوب وبالقرب من دار الحكومة الجديد ة، تقوم الكلية الخسروية تياهة ببنائها الشامخ ومنارتها الزاهية في الفضاء، وعظمتها التي ملأ ذكرها الأجواء، تترآى لك وعليها مسحة من القدم تبعث في نفسك الروعة، وتنفث في فؤادك الخشوع، ويحيي فيك جلال مشهدها الفخيم جمال الذكرى ومجد الآباء وعظمة الإسلام.

إلى ذلك العمران الأثري المدهش يحج كبار المستشرقين حينما يأتون إلى سوريا ليشاهدوا فيها جمال الفن الإسلامي البديع ماثلاً على مسجدها العظيم وإيوانها الجميل وقبابها المشمخرة، ومنارتها الشائقة ، ومظهرها الفخم الجليل.

وإلى ذلك المكان المقدس تذهب جماهير الناس كل يوم مراراً خمساً تؤدي فروض الصلاة، وتتمم واجبات الدين وتحقق معنى العبودية لله، وإلى ذلك المعهد الطاهر يفد أبناء من سورية ليتلقوا العلم وليرتشفوا العرفان واللغة ويفقهوا في الدين.

إن الخسروية أيها السادة من العمران التركي القديم كان انتهاء بنائها سنة 951هـ ، وكانت تشتمل على جامع ومدرسة وتكية ويقول التاريخ أنها أول بناية بنيت في أيام الدولة العثمانية بحلب على النسق الرومي أنشأها بانيها المرحوم (خسرو باشا) لتكون مثابة للعلم ومباءة للفضيلة وينبوعاً للثقافة وحمى للدين، وصرف عليها من الأموال الطائلة، ويكفي أن تعلموا أن في سنة 1266هـ ثارت حلب في وجه بعض ولاتها فجاؤا إلى الخسروية وقلعوا ما على قبابها من رصاص وصبوه بندقاً صغيراً لأجل الرمي فبلغ وزن هذا الرصاص ما ينوف عن مئة قنطار بالوزن الحلبي، وقد وقف لها بانيها العظيم رحمه الله ومن بعده أولاده الأبرار أوقافا كثيرة يفوق ثمنها الحصر، ويجل عدها عن الذكر، ذلك : أن جهات الخسروية الأربع إلى مسافة ألفي متر تقريباً كانت في القرن العاشر الهجري مليء بالمتاجر والخانات والحمامات والقيساريات، وكانت كلها وقفاً لهذه المدرسة العظيمة، وأن قضائي حارم وجبل سمعان كانا بكاملهما من جملة أوقافها، وأن ناحية إعزاز إذ ذاك كانت كذالك من بعض إحداثها، وأن قسماً عظيماً من أراضي عينتاب، وسهلاً مترامي الأطراف في العمق، وعدداً كبيراً من المزارع والقرى والطواحين على نهر العاصي، وناحية الجوم بحذافيرها، وأرضا واسعة بناحية الجبول، وكثيراً من الدور والدكاكين في حارة الفرافرة في حلب، وعدداً لا بأس به من خانات الشهباء وحماماتها العظيمة، كل أولئك كان مما وقف عليها أيضاً.

وقد ذكر كل ذلك في كتب وقفياتها الأربع التي تحتفظ بها المحكمة الشرعية كما ذكرها مؤرخا حلب الفاضلان في كتابيهما " أعني الشيخ الغزي في كتابه ( نهر الذهب في تاريخ حلب ) واستأذنا الطباخ في تاريخه ( أعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء ).

 يا لعظمة الأجداد، ويا لجلال الإسلام، اذكروا يا قوم تاريخ آبائكم المجيد إنه تاريخ ناصع الجبين فيه لكل عظيمة حل، ولكل معضلة هدى، ولكل خير ذكرى، ولكل معجزة بيان.

سادتي: لا شك أن ماضي هذه المدرسة أغر محجَّل يستهوي الأسماع، ويستهوي العقول، ولكنه ويا للأسف لم يدم طويلاً فما أن أفلت شمس القرن الحادي عشر الهجري حتى أفل نجم الخسروية اللماع، وأصبحت المدرسة العظيمة، مأوى الغربان والفقراء، وضاع أو كاد ما كان لها من أوقاف وأحباس وأشرفت ( سوى جامعها العظيم ) على هوة الخراب والدمار وحق لزائرها أن يتمثل حزيناً بقول الشاعر:

مدارس آيات خلت من تلاوة                ومعهد علم مقفر العرصات

ثم توارت النكبات، وأغطش الليل البهيم، وجادت السحب المكفهرة بأفظع أنواع الكوارث، فأضحى معهد العلم والنور، ملجأ للمتشردين واللصوص.

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا       أنيس ولم يسمر هناك ويسهر

دام ذلك الحال التعيس طويلاً أيها السادة، ولكن الليل يتبعه النهار، والظلام يهزمه الضياء، والخريف يعقبه الربيع، والكرب يهزمه الفرج، فها هي سنة 1323هـ تشرق إلا وترسل أشعة الإصلاح إلى أزهر سورية الوحيد فينتعش من غفوته، وينهض من كبوته، ونرى القسم الشمالي منه يبنى بهمة متوالية المرحوم ( مفتى الالآى الشيخ رضا الزعيم الدمشقي )، ثم يتتابع الإصلاح فيقيض الله لهذا المعهد الجليل في سنة 1338هـ رجل الجد والعمل والإصلاح أعني به السيد: يحيى الكيالي مدير أوقاف عاصمة الحمدانيين إذ ذاك فاهتم بشأن الخسروية اهتماماً عظيماً يذكر فيشكر، واعتنى عناية جلى بإعمار ما بقي من أوقافها، ونفخ فيها روح الحياة العلمية من جديد وأدخل في نظامها الحالي الذي ألحق بها بعض المدارس كالقرناصية السيافية والاسماعيلية، وألف من الجميع كلية شرعية كبرى أطلق عليها اسم المدارس العلمية أو ما يسمى اليوم بالكلية الخسروية، فلم يمض على هذا العهد العلمي الزاهر بعد ذلك التنظيم المجيد سوى سنوات قلائل حتى أخرج للمجتمع شباباً و أي شباب، رحبت بلباقتهم الأمة، وهامت بكفاءتهم المناصب، فكان منهم القضاة الشرعيون، والمحامون الحقوقيون، والأطباء النطاسيون، والصحافيون اللبقون، والأساتذة البارعون، والوعاظ المرشدون، مما يدل بوضوح على ما ساهمت به الخسروية من أثر فعَّال أكبر في نهضة سورية اليوم، وهي في كل عام تخرج إلى الأمة فوجاً جديداً من ذلكم الشباب العالم العامل، ويسعون لرفع كلمة الله في المجتمع ويجاهدون بإعلاء مجد الوطن وينصبون لأجل سعادة الأمة في الدارين.

المدرسة الخسروية أيها السادة ذات سنوات دراسية ستة، يشترط فيمن يريد أن ينتسب إليها من التلاميذ أن يؤدي فحصها بنجاح، وأن يكون حاملاً للشهادة الابتدائية السورية، أو ما يقابلها من شهادة مدرسية علمية، وهي تعنى عناية فائقة بالعلوم الشرعية، والعربية، والعقلية، والاجتماعية، يدرس فيها نحو عشرين أستاذا هم ولا شك من خيرة علماء الشهباء الأدلاء الذين بعلمهم ازدهر هذا المعهد الفريد مجده، وبفضلهم الغمر جدد العلم الشرعي سعده.

والميزة الهامة للخسروية أنها الكلية الوحيدة في سورية التي تدفع رواتب للأساتذة وللتلاميذ أيضاً.

بيد أن رواتب التلاميذ تختلف قلة وكثرة بحسب الصفوف التي ينتسبون إليها، وكان يقوم على إدارة شئون هذه الكلية الزاهرة مدير وناظر يعينان من قبل مديرة الأوقاف الإسلامية بحلب، ثم اكتفت بالمدير وحده، ولقد تتابع على إدارتها بعد إصلاحها إلى اليوم جماعة من جلة العلماء، أولهم مفتي حلب حالياً الشيخ : عبد الحميد الكيالي، ثم المرحوم الشيخ : أبو الفضل الكيلاني الحموي، ثم المرحوم الشيخ: مصطفى باقو ، ثم المرحوم الشيخ : وحيد الحمزة، ثم مديرها الحالي مدَّ الله في أجله أعني أستاذنا الشيخ : محمد راغب الطباخ، مؤرخ حلب ومحدثها.

هذه لمحة مقتضبة عن تاريخ هذه المدرسة الأم الرؤم لعلم والحمى الحصين للدين، والنصير القوي للغة، والموئل الكبير للثقافة اقتطفها إليكم موجزة على عجل، خشية أن يصيبكم الضجر والملل والسلام عليكم.

محمد طيفور السبسبي

خريج الخسروية

وأستاذ في الكلية العلمية الوطنية بدمشق

من مجلة الجامعة الإسلامية الحلبية،

 أعداد ذي القعدة وذي الحجة

(83ـ86) سنة 1359هـ .

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين