وداع رمضان ولقاء شوال

وداع ولقاء!!!

 

أما الوداع فهو لضيف عزيز، وصديق حبيب، نزل بساحتنا أياماً معدودات، وليالي محببات، فكان أخف صديق عاشرناه، وأظرف صاحب خالطناه، غير من عاداتنا بعض التغيير، وقلب أنظمة حياتنا بعض الشيء، وعلمنا درساً روحياً يظل ينفعنا بقية العام، وكل ذلك في رفق وعطف، ورقة وحنان...

وقضينا أيامه في تذكر، ولياليه في تفكر، وساعاته في حديث عن كيفية اللقاء، وسمر عن كيفية الوداع، وألسنتنا تقول: ما سَلَّم حتى وَدَّع، وما أتى حتى رحل، وكذلك الحياة لقاء ووداع، وافتراق واجتماع، سنة الله في الكون، ولن تجد لسنة تبديلاً.

ذلك رمضان العزيز الذي استقبلناه بالبشرى رغم كل شيء، وجعلنا إحياءه وتعظيمه فوق كل شيء، فما غيرت الأحداث نظرتنا إليه، ولا نالت المصائب والكوارث من تعظيمنا إياه، واستقبالنا له بالخشوع والخضوع، والخلق السمح، والتواضع العظيم، ولقد لقيناه والنفوس ممتلئة بالخطايا، فتبنا إلى الله ورجعنا إليه، وعزمنا فيه على طاعة الله، وصمناه طاهرين مطهرين ذاكرين متفكرين، لا نرد على سُباب يوجه إلينا، ولا نعبأ بإهانة تمس أشخاصنا، ولا نشكو جوعاً أو عطشاً أو ضعفاً يحل بنا، ولا نتململ أو نتضجر، بل صمناه وقمناه، كل على قدر استطاعته، حتى إذا آذن بوداع، وقربت أيامه على الانتهاء، كانت نفوس المؤمنين بفضله، المعترفين بمزاياه، صامتة خاشعة لا تعرف: أهي حزينة لفراق الضيف الحبيب، أم فرحة لأنها أدت حقه، وعرفت واجبه، فرحاً لا يخرج بها عن الجادة، ولا يجعلها تصاب بالنزق أو الانزلاق، ولكنه فرح ممتزج بالرضا، وسرور يشوبه الأمان والاطمئنان.

وفي أيامه الأخيرة قضينا لحظات صمت وتفكير، وحديث نفس وضمير: هل قمنا بما يجب علينا لرمضان ؟ وهل أدينا حقه، وقضينا واجبه ؟ وهل رضي عنا أم سيشكونا إلى أعدل الحاكمين؟!! عشرات من الأسئلة والاستفسارات طافت بالذهن، ونحن نقضي أيامه الأواخر، ولحظات من الخوف والاضطراب، كانت تنتابنا ونحن نودع الشهر العظيم، وما نشك في أننا قصرنا في حقه، ولم نقم كما يجب بإحيائه! ولكن شفيعنا في التقصير، وعذرنا أننا نحيا حياة متشابكة معقدة، ونعيش عيشة مضنية قاسية، حياة فيها جهاد شاق، وصراع عنيف، وعيشة تكتنفها المشاكل من كل مكان! فإذا قصرنا، وإذا لم نقم نحو ضيفنا العزيز بواجب التكريم والتعظيم، فهو قد سماه ربه الكريم، وألهم الذين يصومونه ويقومونه أن يضرعوا إلى الله في أواخر أيامه وهم يقولون: لا أوحش الله منك يا شهر الغفران! لا أوحش الله منك يا شهر الإحسان!

ويختمون هذه الأدعية الجميلة والتوسلات الرقيقة بقولهم: فبالله عليك لا تشتكي لله قبح أفعالنا، واصفح، فإن الصفح من شيم الكرام.

أجل يا رمضان، إن الصفح من شيم الكرام، فكن كريماً معنا كعهدنا بك، وإذا كنت فيما سبق من الأعوام رفيقاً بنا مرة، فلترتفق بنا هذا العام مرتين ومرات.

وإنا لنودعك اليوم طامعين في لقاء آخر إن قدر الله أن يمتد بنا العمر، وبقينا في هذه الدنيا دار الغرور، وإذا ودعناك اليوم مطمئنين بعض الاطمئنان على أننا أدينا ما استطعنا أداءه، واستقبلناك بما يليق بمكانك ومنزلتك فإنا نودعك لنستقبل يوماً يقدم علينا بعد رحيلك، هو يوم واحد من الزمن والعد، ولكنه ذو أثر كبير في النفوس، ومكانة عظيمة عند المسلمين، فيه يفرحون لأنهم أدوا واجبك، وعادوا إلى حياتهم الطبيعية، منطلقين متحللين، مهللين مكبرين، ذاكرين ما قدموا في رمضان وما عملوا، مغتبطين إذ يشعرون بأنهم أحسنوا وما أساءوا، وكفروا عن خطاياهم بقدر المستطاع.

فمرحباً بك يا عيد الفطر، مرحباً بك بعد رمضان، نودع راحلاً، ونستقبل قادماً، وتذكر فقيراً ونطعم مسكيناً، ونواسي محتاجاً، ونأخذ بيد يتيم ذي مسغبة، ومحتاج ذي متربة، وننتهز فرصة هذا الموسم العظيم فنتزاور ونتعاطف، ونتبادل التهاني، وأطيب الأماني، وننسى إساءات المسيئين، ونصفح عن ذنوب الخاطئين، ثم لا ننسى في غمرة  هذه الفرحة فرضاً فرضه الله علينا، تطهيراً لنفوسنا، وتزكية لقلوبنا وجلباً للبركة والرضا الرباني علينا... ذلك هو فرض زكاة الفطرنقدمها طيبة بها نفوسنا، مستريحة إليها قلوبنا، حتى نحس بأن الفقير والمعدم شريكان لنا في فرحنا، وأن النفوس الكسيرة والقلوب الجريحة قد جبر كسرها، ومسح بيد العطف والحنان على جراحاتها، وأحس الناس في يوم عيدهم بأنهم سواسية، أو يكادون، ليس فيهم في هذا اليوم جائع ولا عريان، وليس بينهم من يشكو الجوع وجاره متخم، أو يرفل في غالي الملابس، وإلى جواره جسد لا يجد ما يتقي به أذى البرد وقر الشتاء.

هذه هي حكمة العيد يأتي بعد صوم هذب النفس وصقلها، وأعدها إعداداً خاصاً لتلقي التجليات وعمل الخيرات، وأخ له يحل بعد القيام بأشق ركن من أركان الإسلام، وهو الحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة روضة الحبيب عليه الصلاة والسلام.

فيا لهذا الدين دين الإسلام من دين جاء لخيري الدنيا والآخرة! ويا له من نظام يناسب الإنسانية ويعمل لخير أبنائها! ويا للذي بعث بهذا الدين من رسول رؤوف رحيم، وهب حياته لأمته فكانت خيراً لها، ومات مجاهدالدعم رسالته فكان موته خيراً لها، وصلى عليه الله وصلت عليه ملائكة الله، وصلى وسلم عليه الثقلان من إنس وجان حتى يقوم الناس لرب العالمين.

ويا معشر المسلمين يا من يحل بكم العيد، اذكروا عند فرحتكم بالفطر الفرحة الكبرى الأخرى يوم لقاء الله، فاعملوا لها ولا تقنعوا بما عملتم في رمضان أو قد تم، فإن رب رمضان هو رب شوال وهو رب جميع الشهور والأيام، ولا تكونوا كالذين يركبون رؤوسهم ويقولون: إنا حبسنا أنفسنا عن شهواتها وقلوبنا عن نزواتها في رمضان، فلننطلق بعده انطلاق من لا يقدر مسؤولية ولا يشعر بعبء، بل يترنم بقول الشاعر:

رمضان ولى هاتها يا ساقي      مشتاقة تسعى إلى مشتاق

إنه إن عمل هذا فقد أضاع عمله، وأحبط سعيه، وضل بعد هدى، وأظلم قلبه بعد نور، والعاقل العاقل من يذكر دائماً ولا ينسى أبداً أنه مقيم في هذه الدار إقامة مؤقتة، وأنه معرض في كل وقت وحين إلى رحيل مفاجئ، وحساب عسير، وسؤال أمام حكم عدل عليم خبير سبحانه، لا تخفى عليه خافية، ولا تنفع لديه شفاعة إلا شفاعة العمل الصالح، والخير المقيم.

رب غافل يقول: إن ذكري الرحيل من هذه الدنيا دائماً، وتذكر أنها دار فناء دائماً يضني النفس ويبلبل الفكر، ويقض المضاجع! ومن الخير للنفس البشرية أن ننسى هذه الحقيقة حتى تعيش عيشة فيها راحة واطمئنان! ولكن القائل بهذا سادر في غفلته، ذاهل عن حقيقته، غير عالم بمجريات الأمور والأحداث !! فهذه الدار التي نعيش فيها ملأى بالمغريات والملاهي، وكل ما فيها كفيل بأن يضفي على العقول والقلوب سحابة ضخمة من النسيان، والغوص في أعماق بحرها اللجي المتلاطم الأمواج ! ولو لم يفكر الإنسان في عاقبته، ويذكر من وقت إلى آخر آخرته، ويظل نائماً حتى يوقظه الموت، أو تنبهه الأحداث، فيا ويله من مخلوق، ويا لحسابه العسير، وجرمه الخطير، يوم يسأل عن شبابه فيم ضيعه، وعلمه فيم بذله، وحياته فيم قضاها؟؟ ويوم يقال له: أعطيت العقل والفكر، ومنحت النعم الجليلة فكفرت بها، ولم تقم بشكرها، ولم تذكر مانحها، وألهتك حياتك الفانية عنها! فماذا هو قائل، وبماذا هو مجيب؟!! إنه لن يجد من يخلصه، ولا من ينجيه إلا ما قدمه من عمل، وما أداه من خير.

أما بعد، فهذه خواطر جلبها على الخاطر وداع رمضان، واستقبال شوال، فإذا كنت قد شططت فيها بعض الشيء، وخرجت عن الموضوع، فعذري أن النفس مرهقة والفطرمكدود والعقل شارد، والخاطر كسير!! ولولا أن هذه المواسم تمر بنا فتقوي من نفوسنا، وتبعث النشاط في عزائمنا، وتحفزنا إلى أن نكد ونجد، ونساير ركب الحياة دون أن ننسى ساعة الحساب، لولا هذه المواسم لضلت النفوس وغوت، واعتراها الصدأ، وران عليها من طول ما هي سادرة، وعما حولها غافلة، فإنها لفرصة أن نذكر ونتذكر، ونعتبر ونتفكر، ونعمل للحياة كأننا فيها مقيمون، وللآخرة كأننا عليها اليوم قادمون.

وإلى الله نبسط أكف الضراعة أن يجعل هذا الموسم الديني، والعيد العظيم، فاتحة خير للمسلمين، ومجلبة سعادة ورخاء لأممهم أجمعين، وأن يلهمهم الصواب، ويجمع كلمتهم، ويوثق عروتهم، وأن تكون لأولياء أمورهم قدوة بإمام العادلين، وأعدل الحاكمين عمر بن الخطاب الذي يقتدي به المسلمون وغير المسلمين. إنه سبحانه وتعالى نعم العون ونعم المقصود.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ

مجلة لواء الإسلام العدد الثاني من السنة السادسة عشرة 1381هـ=1961م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين