عودة الحرية - العيد


 
عبد الرحيم فودة
 
 
يستقبل المسلمون هذا اليوم بفرحة غامرة وشعور سعيد ، ويقبل بعضهم على بعض يتبادلون التهنئة بالعيد الجديد، فمنهم من يرى في العيد فرحته بعودة الحرية التي تنازل عنها طائعاً مختاراً لربه ، ومنهم من يرى فيه حياة جديدة يستقبلها وقد غفر له ما تقدم من ذنبه ، ومنهم من يجد فيه متاعه بما كان يحرَّم عليه أثناء الصيام من الشراب والطعام ، ومنهم من تكون فرحته به تجاوبا نفسياً مع من يفرحون به ، ويتجدد احساسهم وحياتهم فيه ، ولكل من أولئك وهؤلاء أن يفرحوا وأن تتجاوب مشاعرهم بشعور السرور في هذا اليوم الأغر الميمون ، فقد أباح لهم الله ذلك وأحله لهم كما أحل لهم الطيبات وحرم عليهم الخبائث وهو كما يقول سبحانه :[ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ] {البقرة:185} .
 
غير أن عودة الحرية إليهم ، يجب ألا تنسيهم حق الله عليهم ، وألا تنحرف بهم إلى عصيانه ومخالفة أمره ، فإن معنى الحرية قد داخله ما أفسده وأفسد حياة الناس معه، حتى رأينا مظاهر الاستهتار بالمقدسات الدينية تعلن باسم الحرية ، وتبرر جرأتها بالحرية ، فقد فهم بعض الناس ـ وبخاصة بعض حملة الأقلام ـ أن معنى الحرية يتسع لانحراف الشهوات ، والتمرد على كل ما ألف وعرف من التقاليد الصالحة والعادات الحسنة ، والقيم الدينية الثابتة ، فانطلقوا دون وازع من شرف أو رادع من الدين يفسدون على الناس شعورهم وتفكيرهم ومنهج حياتهم ، والحرية بمعناها العربي والإسلامي غير الحرية بمعناها الفاسد الوافد إلينا من بلاد لا تؤمن بديننا ، ولا تخضع لما يخضع له مجتمعنا من قيم فاضلة . وأعراف سليمة ، وأخلاق كريمة. وثقافة تستمد طهرها ونقاءها وصفاءها من معين الدين القيم.
 
إن كلمة الحرية في النصوص العربية والإسلامية يقصد بها الخير والكرامة والشرف إذ كان يقال : سحابة حرة، بمعنى كثيرة الخير والمطر ، والرجل الحر ، بمعنى الكريم ، وحرية العرب بمعنى أشرافهم ، فالشرف والكرامة وسعة الخير أو حب الخير من مفهوم الحرية ، أما الحرية بمعنى ألا تشعر بإرادة غير إرادتك تحكم إرادتك فلم يكن لها مدلول إلا في كلمة الحر ، بمعنى الخالص من الرق ، وقد انتهى الرق بكل أوضاره وانتهى معه الرقيق ، بمعنى العبد ، وليس معنى ذلك الغض من حرية الإرادة ، ولكن معناه السمو بهذه الحرية فوق أن تدنسها حرية الشهوة ، فإن حرية الإرادة أساس كل تكليف ، كما يفهم من قوله تعالى :[لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ] {البقرة:256} .
 
والعبادات التي شرعها الله وأوجبها على عباده تقوم على حرية الإرادة والاختيار ، ومن ثم كانت قيمة العمل بالإرادة الباعثة عليه ، كما يفهم من قول النبي صلى الله عليه وسلم : > إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه<( ).وكما يفهم من قوله تعالى :[وَمَنْ أَرَادَ الآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا] {الإسراء:19} . ومن ثم يسقط العقاب عن المضطر إذا قهر على ارتكاب الإثم أو الوقوع في المحرم لأنه لا إرادة له كما يفهم من قوله تعالى :[ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ] {البقرة:173} . وتباح المحظورات للضرورات كما قيل : الضرورات تبيح المحظورات.
 
بل إن حرية الإرادة هي القيمة الحقيقية للإنسان ، أو هي بمثابة الحياة له ، كما فهم من قوله تعالى :[ وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] {النساء:92} .إذ جعل التحريم كفارة للقتل خطأ ، ومن ذلك نفهم أن الحرية حياة تعادل أو تماثل حياة المقتول.
 
غير أن الإرادة التي تستحق الحرية هي إرادة الخير ، لا إرادة الشر ، وإلا كان في حريتها جور وطغيان على حريات الآخرين ، وبذلك تضيع الحرية بالحرية ، ولهذا تقيد الحرية بما يسمى >الالتزام< ، ويقوم القانون بدوره الفعال في قمع الحرية إذا انحرفت ، لصيانة غيرها من الحقوق والحريات لأنها حينئذ تفقد قيمتها ومدلولها السليم ويكون الإسلام الذي يليق بها هو الفوضى لا الحرية.
 
ونحن إذا تأملنا فيما فرضه الله علينا وجدنا فيه تربية الإرادة الحرة على حب الخير والعمل الصالح ، فالصوم في رمضان مثلاً يحرر إرادة الصائم من الخضوع للشهوات والعادات كالتدخين وما إليه من الأشربة المعتادة ، والصلاة في وقتها وبنظامها كما يقول الله فيها :[ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ] {العنكبوت:45} . وكلمة لا إله إلا الله تحرر الإنسان من الخضوع لغير الله .
والزكاة التي فرضها الله لا تؤثر تأثيرها إلا إذا أريد بها وجه الله كما يفهم من قوله تعالى :[ وَمَا آَتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ] {الرُّوم:39} . والجهاد يجب أن يكون في سبيل الله وأن تكون الإرادة الباعثة عليه والدافعة له هي إعلاء كلمة الله .
 
ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين.
 
أما إذا أريد به الرياء فموضعه كما يقول الله فيه :[ كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا] {البقرة:264} .
 
وهكذا تجد الإسلام يعنى بتربية الإرادة الحرة التي توجه نشاط الإنسان وسعيه وعمله الوجهة المثلى . وتدفع به وبكل ما يصدر عنه من قول وفعل إلى الغاية الفضلى ، فإذا كان فيه العيد ما فيه من الفرح بعودة الحرية فيجب أن تفهم هذه الحرية على هذا الوضع السليم الذي حدده الدين القويم ، وهو الوضع الذي يلتئم مع ما يقترن بمعنى الحرية في العرف العربي والإسلامي من كرامة وشرف ، وخير وسمو ، أما الحرية بمعناها الواسع الذي يساء استغلاله فليس لها في الإسلام مكان.
نسأل الله أن يوفقنا إلى ما ينفعنا ، وأن يسدد خطانا على الطريق المستقيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
 
المصدر :مجلة لواء الإسلام العدد الثاني من السنة العشرين شوال 1385هـ=1966م

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين