العشر الأواخر من رمضان وكيفية الاستفادة منها

 

اغتنام العشر الأواخر ـ 1 ـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

 

مقدمة الدرس:

فمن آداب الصائم اغتنام العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك, وذلك من خلال الاقتداء والاتباع لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, حيث كان من سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم ما جاء في الصحيحين عَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ).

 

وروى الإمام مسلم عَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَجْتَهِدُ فِي رَمضانَ مَالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ، وفي العَشْرِ الأَوَاخِرِ منْه مَالا يَجْتَهدُ في غَيْرِهِ).

 

ضاعف الاجتهاد في هذه الليالي:

وها نحن في ليلة الغد نستقبل الليلة الأولى من العشر الأواخر, حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها.

 

جدير بالعاقل أن يعجِّل بالاغتنام, وخاصة بعد أن عرفنا حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا, هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ).

 

المبادرة بالأعمال في هذه الأيام المتبقية من شهر رمضان المبارك, حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العبادة السنةَ كلَّها, فإذا جاء شهر رمضان زاد في الاجتهاد في العبادة, وإذا جاءت العشر الأواخر منه زاد أكثر وأكثر, اغتناماً لهذا الشهر العظيم المبارك الذي تُضاعف فيه أجور العبادات, النافلة فيه كفريضة فيما سواه, والفريضة فيه كسبعين فريضة فيما سواه.

 

إضافة إلى هذا فتحت فيه أبواب الجنان وغلقت أبواب النيران وصفدت فيه الشياطين, ونادى المنادي من قبل الحق جل جلاله: يا باغي الخير أقبل, ويا باغي الشر أقصر.

 

فإذا لم يغتنم العبد هذا الموسم بالطاعات فمتى يغتنم؟ ولذلك رأينا النبي صلى الله عليه وسلم يحرِّضنا في هذا الحديث الشريف على مبادرة الأعمال الصالحة قبل أن يبادرنا أمر من هذه الأمور السبعة:

 

الأمر الأول: هل تنتظر الفقر بعد الغنى؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم, يا من وسَّع الله عليك في دنياك فأغناك؟ هل كان الغنى حجاباً بينك وبين الله؟ هل النعمة حجبتك عن الله؟ إذا لم تقبل على الله تعالى في غناك أتنتظر أن يأتيك الفقر حتى تقبل على الله تعالى؟ وربما أن يأتيك الفقر فينسيك النعمة والمنعم لا قدَّر الله تعالى, فاغتنم غناك بزيادة القرب من الغني المتفضل عليك وتذكر قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم عن ابن عباس، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناءك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك). فبادر بالعمل أيها الغني.

 

الأمر الثاني: هل تنتظر الغنى المطغي؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم, يا من ابتلاك الله بالفقر؟ إذا كان الحقُّ عز وجل أفقرك اختباراً وابتلاءً ولم تُقبل عليه, ولم تغتنم أوقات الرحمات, فمتى تقبل؟ هل تنتظر الغنى المطغي؟ قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى}. إذا كنت في فقرك إليه لم تُقْبِل عليه فمتى تُقْبِل؟

 

ربما يفتح عليك الدنيا لا قدَّر الله تعالى, ثم يأخذك أخذ عزيز مقتدر, بادر بالعمل الصالح وأقبل على مولاك الغني الجواد الكريم, وأنت تسأله من فضله بدون طغيان بعد عطاء, قال تعالى: {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون}.

 

فبادر بالعمل أيها الفقير, وتذكر قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ}. بادر بالعمل وأنت متفرِّغ من الدنيا قبل أن تشتغل بها, وتذكر قول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: ..... وفراغك قبل شغلك).

 

الأمر الثالث: هل تنتظر المرضَ المفسد؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم يا من متعك الله بصحة في جسدك؟ أتنتظر المرض الذي يفسد عليك صحتك, وعندها تتمنى الصيام فلا تستطيعه, وتتمنى القيام فلا تستطيعه, وربما أن يفسد عليك المرضُ دينكَ لا قدَّر الله تعالى حيث لا تطيق الآلام, اغتنم الصحة وأنت تتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: ..... وصحتك قبل سقمك).

 

فبادر بالعمل الصالح يا أيها السليم المعافى وخاصة في العشر الأواخر من هذا الشهر العظيم المبارك.

 

الأمر الرابع: هل تنتظر الهرم المفند؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم وقد متعك الله تعالى بالشباب وبالصحة وبالقوة؟ هل تغتنم فترة الشباب في جمع حطام الدنيا؟ هل تغتنم فترة الشباب في اتباع الشهوات بعد ترك الصلوات لتلقى غياً لا قدَّر الله؟ إذا لم تغتنم فترة الشباب في الاجتهاد والطاعات فهل تتوقع أن تغتنم هذا في الهرم المفنِّد, حيث ترد إلى أرذل العمر كيلا تعلم بعد علم شيئاً؟

 

هل تنتظر الضعف والشيبة بعد القوة, قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً}؟ ربما عندها تتمنى الصيام فلا تستطيع, وتتمنى القيام فلا تستطيع, تذكر يا أيها الشاب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغتنم خمساً قبل خمس: ..... وشبابك قبل هرمك).

فبادر بالعمل الصالح واجتهد فيه أيها الشاب قبل هرمك.

 

الأمر الخامس: هل تنتظر الموت المجهز؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم وقد متَّعك الله بالحياة, وأخفى عليك الموت زماناً ومكاناً وسبباً وعمراً, فلا تدري زمان موتك, ولا مكانه ولا سببه, ولا تدري بأيِّ عُمُر ستموت, قال تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}؟

 

هل تنتظر أن يأتيك الموت فجأة, وعندها يقول العبد: {رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين}. ويقول: {رَبِّ ارْجِعُون * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُون}؟

 

وموت الفجأة كثير ونراه بأعيننا, تذكر يا أخي وصية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (اغتنم خمساً قبل خمس: ..... وحياتك قبل موتك).

فبادر بالعمل الصالح واجتهد فيه وضاعفه قبل حلول الأجل.

 

الأمر السادس: هل تنتظر الدجال؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم؟ هل تنتظر الفتنة العظيمة فتنة المسيح الدجال الذي يعيث في الأرض فساداً؟ أسأل الله تعالى أن لا يرينا هذه الفتنة في هذا الرجل, الذي يقول للأرض أنبتي فتنبت, وللسماء أمطري فتمطر, ويأمر كنوز القرية فتتبعه كيعاسيب النحل؟ روى الإمام مسلم عن النواس بن سمعان رضي الله عنه ـ في حديث الدجال ـ قال صلى الله عليه وسلم: (فَيَأْتِي عَلَى الْقَوْمِ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ, فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ, وَالأَرْضَ فَتُنْبِتُ, فَتَرُوحُ عَلَيْهِمْ سَارِحَتُهُمْ أَطْوَلَ مَا كَانَتْ ذُرًا وَأَسْبَغَهُ ضُرُوعًا وَأَمَدَّهُ خَوَاصِرَ, ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ, فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ, فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ, وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَكِ فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ, ثُمَّ يَدْعُو رَجُلاً مُمْتَلِئًا شَبَابًا, فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ, ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ).

فبادر العمل واجتهد فيه قبل هذه الفتنة العظيمة.

 

الأمر السابع: هل تنتظر الساعة؟

ماذا تنتظر يا أخي الكريم؟ هل تنتظر قيام الساعة؟ ماذا ينفعك العمل الصالح إذا قامت الساعة؟ وهل تستطيع العمل الصالح حينها والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيد}.

 

فبادر بالعمل الصالح واجتهد فيه وخاصة في العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك الذي كان يجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.

 

وجدير بباغي الخير أن يُقبِل, وجدير بباغي الشر أن يُقصِر, وأن يغتنم كلٌّ من الفريقين هذه الليالي العشر, لأن العمر فرصة لا تُمنح للإنسان إلا مرة واحدة, فإذا ما ذهبت وولَّت فهيهات أن تعود مرة أخرى, فاغتنموا هذه الليالي قبل فوات الأوان ما دامت في زمن الإمكان بمضاعفة الاجتهاد في هذه الليالي.

 

يقول سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: (إن الليل والنهار يعملان فيك, فاعمل أنت فيهما) اهـ.

 

الليل والنهار يعملان فيك حيث تتحوَّل من حال إلى حال ومن طور إلى طور, الليل والنهار يذهبان بقوتك, يذهبان بحياتك, يذهبان بشبابك, فهل أنت تعمل فيهما بطاعة الله عز وجل وبكثرة القربات من الله تعالى, وخاصة في العشر الأواخر من شهر رمضان؟

 

ويقول سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي) اهـ.

 

هل يندم الواحد منا إذا غربت شمس يومه إذا لم يزدد علماً نافعاً؟

 

هل يندم إذا فاتته الطاعات بغروب شمس يومه؟ هل يندم إذا فعل المخالفات إذا غربت شمس يومه؟ فما من يوم تطلع شمس وتغيب إلا وهو شاهد لك أو شاهد عليك, فهل تبادر العمل الصالح في أيام حياتك, وخاصة في العشر الأواخر من شهر رمضان؟

 

خاتمة نسال الله تعالى حسنها:

أرجو الله عز وجل أن يوفِّقني وإياكم لاغتنام هذه الليالي العشر من آخر شهر رمضان في الطاعات والقربات, وأن نغتنم أنفاس أعمارنا في ذلك لأنَّا سنُسأل عنها يوم القيامة, كما قال تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُون}. وإن قلت عن أي شيءٍ سوف نُسأل؟ أقول لك حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (لا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ: عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ, وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ فِيه, وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ, وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ) رواه الترمذي.

 

فما هي الأعمال التي ينبغي علينا أن نقوم بها في العشر الأواخر من رمضان؟ هذا ما سيكون حديثنا عنه في الغد إن أحيانا الله عز وجل, وتذكر دائماً العبرة بالخواتيم. فكيف تختم شهر رمضان في عشره الأخير, بعد أن عرفت ماذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

 

ــــــــــــــــــــ

اغتنام العشر الأواخر ـ 2 ـ

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

 

مقدمة الدرس:

فقد ذكرنا في الدرس الماضي بأنه ينبغي علينا أن نضاعف العمل, ونضاعف الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من شهر رمضان, لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان كذلك.

 

وذكرنا الحديث الشريف: (بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سَبْعًا, هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلا فَقْرًا مُنْسِيًا, أَوْ غِنًى مُطْغِيًا, أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا, أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا, أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا, أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ, أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) رواه الترمذي.

 

فقد يأتيك فقر ينسيك, أو غنىً يطغيك, أو مرض يفسدك, أو هرم مفنِّد يردك إلى أرذل العمر, أو موت سريع يخطفك, أو فتنة الدجال, أو قيام الساعة, فاغتنم أنفاس عمرك في الطاعات, وخاصة فيما بقي من شهر رمضان المبارك.

 

أهل الدنيا يضاعفون الاجتهاد في هذه الليالي:

لنستغل ما بقي من الشهر فقد ذهب معظمه, ولا يعلم أحدنا هل سيأتي على آخره فضلاً عن أعوام قادمة؟ أم سيكون في حفرة مظلمة من تحته تراب ومن فوقه تراب وعن يمينه تراب وعن شماله تراب, وليس له أنيس وجليس إلا عمله الصالح.

 

هذه الليالي المعتكفون في بيوت الله عز وجل أقلُّ من القليل بكثير جداً, والكثرة الكاثرة اعتكفت في هذه الليالي في الأسواق ومحلاتها, وتهافتوا على المراكز التجارية, وأمام القنوات الفضائية.

 

ماذا قدَّم هؤلاء للقبور التي هي حفرة من حفر النار, أو روضة من رياض الجنة؟ ماذا قدَّم هؤلاء ليوم القيامة وأهواله وعرصاته؟

 

أهل الدنيا يريدون الزيادة للفانية, وأهل الآخرة يريدون الزيادة للباقية, فأيهما العاقل؟ الجواب من عند سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ, وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ) رواه أحمد.

 

أهل الدنيا ضاعفوا الاجتهاد لدنياهم, وأهل الآخرة ضاعفوا الاجتهاد لآخرتهم, تأسِّياً بالحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, حيث كان إذا دخل العشر شدَّ المئزر, وأيقظ أهله, وأحيا الليل كله.

 

الاعتكاف في العشر الأواخر:

من هذه الأعمال الصالحة التي ينبغي عليك أن تغتنمها: الاعتكاف في بيت من بيوت الله عز وجل, تقام فيه الجماعة والجمعة, وأن تحيي هذه السنة التي صارت غريبة على أكثر المسلمين, وربما أن تسمع بمدينة لا بقرية لا يعتكف واحد من أهلها, مع أن الاعتكاف سنة مؤكَّدة, سنة كفاية في العشر الأخير من شهر رمضان المبارك, إذا قام به بعض المسلمين سقط عن الآخرين.

 

وإلى متى ترضى أن يقوم غيرك بسنة الاعتكاف عنك حتى لا تقع في الإثم؟ تعال يا أخي وانظر إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي غفر الله عز وجل له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر لتراه صلى الله عليه وسلم ما ترك الاعتكاف بعد أن فرض عليه وعلى أمته صيام شهر رمضان حتى توفاه الله عز وجل.

 

اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم:

أخرج البخاري ومسلم عن عَنْ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ, ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ).

 

بل اعتكف النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي قُبِض فيه عشرين يوماً, أخرج البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ, فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا).

 

وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته اعتكاف في عام لأمر من الأمور قضاه النبي صلى الله عليه وسلم, أخرج الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ, فَلَمْ يَعْتَكِفْ عَامًا, فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ).

 

ما لك في الاعتكاف من أجر؟

وإن كان أحدنا يسأل: فما لنا في الاعتكاف إذا أردناه؟

 

الجواب يأتينا من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اعتكف عشراً في رمضان كان كحجتين وعمرتين) رواه البيهقي.

 

وفي شعب الإيمان للبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أنه كان معتكفاً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأتاه رجل فسلم عليه ثم جلس, فقال له ابن عباس: يا فلان أراك مكتئباً حزيناً؟ قال: نعم, يا بن عم رسول الله, لفلان عليَّ حق ولاء وحرمة صاحب هذا القبر ما أقدر عليه, قال ابن عباس: أفلا أكلمه فيك؟ فقال: إن أحببت, قال: فانتعل ابن عباس ثم خرج من المسجد, قال له الرجل: أنسيت ما كنت فيه؟ قال: لا, ولكني سمعت صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم والعهد به قريب فدمعت عيناه وهو يقول: من مشى في حاجة أخيه وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين, ومن اعتكف يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاث خنادق أبعد مما بين الخافقين).

 

الحكمة من الاعتكاف:

هذا الاعتكاف الذي سنَّه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه إبعاد للنفس من شغل الدنيا التي شغلنا التكاثر بها عن المصير الذي ينتظرنا كما قال تعالى: {الْقَارِعَة * مَا الْقَارِعَة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش * فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه * فَأُمُّهُ هَاوِيَة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه * نَارٌ حَامِيَة}, ثم أعقبها بقوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُر}, التكاثر بالدنيا ألهانا عن هذا المصير الذي أشار إليه مولانا بقوله : {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه * فَأُمُّهُ هَاوِيَة * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه * نَارٌ حَامِيَة}.

 

الدنيا تشغل العبد عن الآخرة, تشغله عن النعيم الدائم المقيم, تشغله عن المصير الذي هو سائر إليه عن طريق بوابة الموت, الدنيا شغلتنا عن الموت الذي طلب منا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نكثر من ذكره, فقال صلى الله عليه وسلم: (أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ يَعْنِي الْمَوْتَ) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

 

فالاعتكاف يعينك على تفريغ قلبك من الدنيا, لأنك ستنسلخ منها إن شئت وإن أبيت, قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُور}, وروى الحاكم عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به» ثم قال: «يا محمد شرف المؤمن قيام الليل, وعزه استغناؤه عن الناس»).

 

الاعتكاف يعينك على أن تمر عليك ليالي وأيام وأنت لا تعصي الله ببصرك, ولا تعصيه بلسانك, ولا تعصيه بسمعك, ولا تعصيه بيدك, ولا تعصيه برجلك.

 

الاعتكاف يريحك من الآثام والذنوب والخطايا أياماً, ويريح الناس من شرور أنفسنا الأمارة بالسوء.

 

الاعتكاف يجعلك في صلاة دائمة حيث تكون في المسجد تنتظر الصلاة بعد الصلاة, وبذلك تنال الأجر العظيم الذي أشار إليه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (صَلاةُ الرَّجُلِ فِي الْجَمَاعَةِ تُضَعَّفُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَفِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ ضِعْفًا, وَذَلِكَ أَنَّهُ إِذَا تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ, لا يُخْرِجُهُ إِلا الصَّلاةُ, لَمْ يَخْطُ خَطْوَةً إِلا رُفِعَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ, وَحُطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ, فَإِذَا صَلَّى لَمْ تَزَلْ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَيْهِ مَا دَامَ فِي مُصَلاهُ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَيْهِ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ, وَلا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلاةٍ مَا انْتَظَرَ الصَّلاةَ) رواه البخاري.

 

الاعتكاف الحقُّ يجعلك تتشبه بالملائكة حتى لا تعصيه أبداً بإذن الله تعالى, وتملأ وقتك بين ذكر وتلاوة وتسبيح وتحميد وتهليل وتكبير وصلاة وقيام واستغفار وقيام بالأسحار.

 

ما أنت قائل لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

أخي الكريم: قف مع نفسك لحظة, وتصوَّر أنك ستقف يوم القيامة بيني يدي سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسأله الشفاعة لأنه صلى الله عليه وسلم صاحب المقام المحمود, تصوَّر لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سألك وقال لك: يا عبد الله, هل اعتكفت الاعتكاف الذي سننته لك ولو مرة واحدة في عمرك؟

 

ما هو جوابك لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هل كنت تنتقل من مكان إلى مكان لتبلغ رسالة الله تعالى, فشغلتك الدعوة إلى الله تعالى عن الاعتكاف؟ هل كنت تطلب العلم من روضة إلى روضة من رياض الجنة, فشغلك طلب العلم عن الاعتكاف؟ هل كنت فقيراً محتاجاً لا تجد قوتك ولا قوت من تعول فشغلك طلب الرزق عن الاعتكاف؟ هل كنت ترعى مريضاً لك فشغلتك رعايته عن الاعتكاف؟ هل كان الناس بحاجة إليك بحيث لا يستغنون عن خدمتك فشغلتك خدمة المسلمين عن الاعتكاف؟

 

إن كان هذا هو الذي شغلك عن الاعتكاف فأنت مأجور فيما تفعل إن شاء الله تعالى, ويكتب لك أجر الاعتكاف إن كنت ناوياً الاعتكاف لولا هذه الواجبات التي عليك, وهذا ما أكَّده النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مَثَلُ هَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلُ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا فَهُوَ يَعْمَلُ بِهِ فِي مَالِهِ فَيُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ, وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَا لِهَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ.

 

وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَلَمْ يُؤْتِهِ عِلْمًا, فَهُوَ يَخْبِطُ فِيهِ يُنْفِقُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ, وَرَجُلٌ لَمْ يُؤْتِهِ اللَّهُ مَالاً وَلا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مَالٌ مِثْلُ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الَّذِي يَعْمَلُ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَهُمَا فِي الْوِزْرِ سَوَاءٌ) رواه أحمد.

 

وبقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِيًا إِلا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ) رواه البخاري.

 

فأنت في هذه الحالة معذور إن شاء الله تعالى, وأجرك كامل غير منقوص بإذن الله تعالى.

 

أما إذا لم يكن لك عذر إلا طلب زيادة من الدنيا, لم يكن لك عذر إلا خلودك لمجالسة الناس واللهو والغفلة, فماذا سيكون جوابك لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟

 

ما لا يُدْرَك كلُّه لا يُترَك كلُّه:

وأخيراً أقول لك: إذا كنت لا تدرك الاعتكاف المسنون كلَّه, فلا أقلَّ من أن تعتكف كلَّ يوم ولو ساعة بعد كل صلاة, ولو ساعة من النهار أو من الليل, لأنهم قالوا: ما لا يُدْرَكُ كلُّه لا يُتْرَك كلُّه.

 

فاغتنم العشر الأواخر وطبِّق سنة الاعتكاف إن لم يكن المسنون فالمندوب, ولو كل وقت صلاة ساعة من الزمن.

 

اللهم اجعلنا ممن قال فيهم الحبيب الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ: ... وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ) رواه البخاري. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين