ضربة خاطفة

هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم

أبو سفيان بن حرب

نعم ضربة خاطفة في شهر رمضان شهر جهاد النفس والجهاد في سبيل الله أعز الله بها دينه ورسوله وجنده واستنقذ بها بلده الأمين وبيته الحرام ولا يعرف تاريخ الحروب لها مثيلاً وتدرسها المنشآت العسكرية ومشاهير القواد في العالم على تعاقب الأزمان كمثل رفيع فريد في فنون الحرب، تلك هي غزوة الفتح... نحاول أن نطرق مقوماتها العسكرية التي وصلت ذروة الإعجاز.

مهد صلح الحديبية لهذه الغزوة ، والصلح في ذاته فتح مبين نزل فيه قرآن الله سبحانه وتعالى بسورة الفتح :[إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا(1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا(2) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْرًا عَزِيزًا(3)]. {الفتح}. .

وبشر فيها الله رسوله في الآية رقم (27) بفتح مكة :[لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا] {الفتح:27} .وقد سأل عمر رضي الله عنه إذ سمع هذا القرآن في طريق العودة من الحديبية إلى المدينة >أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال نعم< فأكد قرب الفتح منذ عقد الصلح...

أبرم عقد صلح الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين سهيل بن عمرو ممثلاً لقريش وأهل مكة على وضع الحرب عشر سنين وأن يأمن الناس ويكف بعضهم عن بعض... الخ.

ومن ضمن بنود الصلح : أن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده فعل ، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فعل ... ودخلت بنو بكر في عقد قريش وعهدهم ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده وانشرحت صدورهم للإسلام فأسلموا...

ورغم أن الصلح يفرض رفع الثارات والكف عنها والأمان ... فإن بني بكر صمموا على أن يصيبوا من خزاعة ثأراً قديماً فخرج نوفع بن معاوية الديلي في جماعة من بني بكر ودهم بني كعب ـ بطن من بطون خزاعة ـ ليلاً على ماء بالوثير واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح واشترك في القتال رجال من قريش في صفوف بني بكر حتى حازوا خزاعة إلى الحرم ومع ذلك لم يرع بنو بكر الحرم حرمته واستمروا في تقتيل بني خزاعة الذين أرسلوا جماعة منهم إلى رسول الله بالمدينة على رأسهم عمرو بم مسالم الخزاعي يستنصرون حليفهم فانتصر لهم بعد أن تأكد من نكول قريش ونقضها للعقد والعهد.. وعزم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على فتح مكة وأحاط هذا الأمر بالسرية الكاملة ولم يطلع عليه خاصته وأمر بالتجهيز ودعا الله سبحانه : > اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتهم في بلادهم .. اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرون إلا بغتة ولا يسمعون إلا فلته<...

ثم أمر بالطرق فحبست ووضع عليها الحراس يردون إليه كل من اشتبهوا في أمره وأرسل إلى حلفائه من القبائل : من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحضر رمضان بالمدينة ولم يذع عزمه على أحد واستجابت له قبائل أسلم وغفار ، وأشجع وسليم ومزينة وجهينة وخزاعة وبطن من بطون بني بكر آمنوا برسول الله ودخلوا عقده وعهده وقبائل أخرى فجهز جيش الفتح من عشرة آلاف فارس بين راكب وراجل وقام بتشكيله على طريقة لا تفترق عن التشكيلات الحديثة في الميدان فجعله من مجنبه يمنى >جناح أيمن< بقيادة خالد بن الوليد ، ومجنبه يسرى بقيادة الزبير ابن العوام ، وقلب هجوم بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم وجعل أبا عبيدة بن الجراح على قيادة الجسر ـ الذين لا سلاح معهم ـ وعقد عليه الصلاة والسلام الألوية والرايات ودفعها للقبائل .. وتم الإعداد والتجهيز في سرية تامة لم تتأثر إلا بحادث واحد حين كتب حاطب بن أبي بلتعة ـ من أهل السابقة الذين حضروا بدراً ـ كتاباً إلى قريش يخبرهم بمسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما لا قبل لهم به وحملت الكتاب امرأة خرجت في طريقها إلى قريش وجاء رسول الله خبر السماء ، فكلف علياً والزبير ، في قول المقداد بن الأسود بإدراك المرأة في مكان عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأدركاها ورد الكتاب وأبدى حاطب عذره وتجاوز رسول الله عن خطئه بسابقة جهاده في بدر بقوله لعمر الذي استأذنه في قتله : "إنه قد شهد بدراً ، وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".

وتحرك الجيش اللجب لعشر خلون من رمضان سنة ثمانية واستعمل على المدينة أتارهم كلثوم بن حصين الغفاري وقيل : استعمل عبد الله بن أم مكتوم وقطع الطريق إلى مر الظهران في حوالي تسعة أيام حتى إذا نزل بمر الظهران على مشارف مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم جنوده فأوقدوا عشرة آلاف نار أدخلت الرعب في قريش وفوجئت بهذا الزحف العرم... وقد سجلت كتب التاريخ انزعاج أبي سفيان بن حرب سيد قريش وزعيمها حين علم بنزول جند الله وقولته المشهورة : هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكباد قوم لم يعلموا بهم؟َ وتم فتح مكة ودخلها المسلمون في التاسع عشر من رمضان وقيل في العشرين سنة ثمانية من الهجرة دون إراقة دماء...

وكانت خسائر المسلمين شهيدين كانا في خيل خالد بن الوليد فشذا عنه فسلكا طريقاً غير طريقه وكانت خسائر المشركين اثني عشر ممن تعرضوا لخالد من سفهاء قريش وأخفاؤها الذين جمعهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو بالخندمة ليقاتلوا المسلمين.

ودخلت تشكيلات جيش المسلمين مكة من منافذها الأربعة... ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعلاها وأمر خالداً أن يدخلها من أسفلها وأن يتجمع بجيشه ومع باقي التشكيلات برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا..

ويهمنا تقييم بعض عوامل النجاح في هذا العمل العسكري الذي لا نجد له في التاريخ مثيلاً .. وهو يعود إلى عظمة القائد وقدرته وامتيازه... ثم إلى إرادة القتال في جيشه المجرب ، ثم إلى الجبهة الداخلية المتماسكة بالمدينة المنورة ثم إلى عدالة الغرض والدافع إلى القتال...

أما عظمة القائد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فمن أعظم من محمد بن عبد الله رسولاً نبياً مقاتلاً لإعلاء كلمة الله والقائد العظيم امتاز بالاقتدار وقاد ثماني وعشرين غزوة في خلال سبع سنوات بعد هجرته تبدأ من السنة الثانية للهجرة لم يخذل في أي منها بما فيها غزوة أحد التي كانت نصراً استراتيجياً عظيماً وأن أصحاب التنفيذ لإخفاق ناتج عن مخالفة الرماة لأمر القائد ونزولهم من أعالي الجبل للاشتراك في الغنائم بعد أن ترجح النصر .. وعبر المخالفة مهدت السبل للنصر المبين في كل المعارك بعد أحد بالتزام الجند الطاعة الكاملة في تنفيذ أوامر القائد بعد ذلك ودوخ المسلمين أجناد الأرض جميعاً دون هزيمة بعد هذه الواقعة وتتركز في رسول الله صلى الله عليه وسلم كل صفات القائد الفذ الممتاز فهو قادر على إعطاء القرار السريع الصحيح ، ويمك إرادة قوية ثابتة ، وشجاعة ثابتة. ويتحمل المسؤولية بلا تردد ، وهو عليم فاحص لرجاله يثق بهم ويثقون به وله شخصيته المثالية القوية النافذة ويمتلك بمجامع قلوب جنده. 

وهو الرسول الملهم بمبادئ الحرب من لدن العزيز الحكيم جل شأنه ، وتبرز هذه المبادئ الحربية بمقدار في كل غزواته وفي غزوة الفتح التي نحن بصددها طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ التعرض الذي يرتكز على الروح الهجومية ثم طبق مبدأ المباغتة وفاجأ قريشاً في المكان والزمان الذي حدده وفاجأها بقوة الحرب الأقوى ... وقد أوردنا قولة زعيم مكة وقائدها أبي سفيان : هل سمعتم بمثل هذا الجيش نزلوا على أكبار قوم لم يعلموا بهم...

واستخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسائل تحطيم الروح المعنوية وهدم الجبهة الداخلية وتحطيم مقاومة الجيش المعادي بمسلك مخالف لعنصر القهر والقوة.

وطبق رسول الله صلى الله عليه وسلم مبدأ حشد القوة والإعداد للغزو بعشرة آلاف مقاتل في كامل السلاح والعتاد وقيل اثنا عشر ألف مقاتل ... وقد أعد رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوته على أسس وعوامل سليمة من دراسة طبيعة الأرض ومعنويات قريش وقدراتها المادية... وكفل نجاح الخطة بالاستطلاع ومعرفة مواقع الضعف ومواقع القوة في مكة والأمكنة التي تصلح للقتال ونفذ خطة حكيمة من الحرب النفسية نجحت في التأثير على إرادة القتال في قريش بل أعدمتها ..

فلقد نجحت الخطة في استمالة أبي سفيان قائد الخصوم وإسلامه ، وإعطائه مركزاً للفخر في قومه ثم استمالة الشعب بعد الغزو بالمسامحة وإطلاق السراح...

ونسوق جانباً من المعركة النفسية :

خرج أبو سفيان في ثلاثة من أساطين قريش يتجسسون على جيش المسلمين المرابط بمر الظهران وقبض عليه فأجاره العباس وأمهله رسول الله في جوار العباس ليقدمه في الصباح ... فرأى ما أسقط يده عن المقاومة ، ولما مثل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بادره هاشاً : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ، فأقرها أبو سفيان ثم تابعه : ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله ، فتردد أبو سفيان ثم انتهى إلى قولة الحق وأسلم.

فقال العباس يا رسول الله أن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن. هذا الأسلوب من الحرب النفسية قضت على مقاومة قريش باستسلام قائدها في أحد وزعيمها في كل المواقف.

وأما الجبهة الداخلية لقريش فقد انتهت مقاومتها بعد أن خطبهم رسول الله : يا معشر قريش إن الله أذهب عنكم نخوة الجاهلية تعظمها بالآباء .

الناس لآدم وآدم من تراب ، يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم ، قالوا خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم ، قال فإني أقول لكم لا تثريب عليكم اليوم : اذهبوا فأنتم الطلقاء . فما لبثوا أن أسلموا وتطهر المسجد الحرام من الشرك والأصنام.

قائد عظيم يحوز جميع صفات القائد الممتاز في فن الحرب وتصدر خطته الحربية على مبادئ الحرب بإعجاز واقتدار.

وأما جنود الله في الغزوة فهم المسلمون الأولون .. وهم تلاميذ النبي عباد الله المخلصين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة فأحبوا الموت في سبيل الله... وغرز فيهم الإسلام إرادة القتال لإعلاء كلمة الله . فكانوا أروع مثل للصمود والثبات في القتال لا يولون الأدبار ولا ينظرون لمصلحة خاصة ... وقد عجم رسول الله صلى الله عليه وسلم عود المؤمنين وسخرهم جميعاً كل فيما خلق له... فمن يصلح للدعاية دون القتال وضعه في موضعه كحسان بن ثابت ... ومن لا يصلح للقتال ولكن له مال قاتل بماله في تجهيز الحملة ومن يصلح للاثنين قاتل بماله ونفسه.

وروحهم المعنوية مستمدة من تعاليم الله في قرآنه ومن غرس نبيه للمثل العليا والهدف السامي الجهاد في سبيل الله ورضاء الله فقدموا أموالهم وأنفسهم وصبروا في البأساء والضراء وحين البأس لغاية تسمو على كل غاية هي نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله وبرزوا مثلاً عليا في إرادة القتال والصبر والشجاعة وبذل النفس والإقبال دون الإدبار .. بروح معنوية عالية أقل مظاهرها طلب الشهادة في ميدان القتال .. فجنود محمد صلى الله عليه وسلم في المعركة جنود صامدون بإرادة القتال لم يتمتع بها أي جند من أجناد الأرض بالروح المعنوية العظيمة... الله ورسوله ودينه وبلد الله وقبلة المسلمين.

أما الجبهة الداخلية خلف الجيش:

فكانت خط الإمداد الرائع الصامد وهي متماسكة بدين الله والقرآن العظيم وبالرسول القائد وقد ظهرت في الفترة ما بين الهجرة وغزوة الفتح من المنافقين ومن في قلوبهم مرض ومن أعداء الدين من اليهود والمشركين.

تبرز فيها عظمة الإسلام في المدينة المنورة ، مجتمع أهل السابقة الأولى في الإسلام الذي يطبق عدالة الشريعة بتعاليم خاتم النبيين وإمام المرسلين قائد الغر الميامين جبهة متماسكة تحول العداء بين قبائلها إلى مؤاخاة في الإسلام ومنافسة في تقديم الدعامة لله ولرسوله بين الأوس والخزرج وسائر القبائل التي دخلت الإسلام . وكان يكفي أن يستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة حين قيامه بالغزو أعمى كعبد الله بن أم مكتوم يسمع له سادة العرب ويطيعونه بتطبيق مبدأ المساواة : >المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى لذمتهم أدناهم وهم سواء على من عداهم<.

وأما الغرض الذي يحارب من أجله جيش الحق : فهو غرض عادل يحفز الهمم.

فهو طرد المشرك بالله من أرض الله وبيت الله وتطهيره للطائفين والعاكفين والركع السجود في مشارق الأرض ومغاربها وخلوص قبلة المسلمين من أعداء الوحدانية... وتوحيد جهود المسلمين وثبوت عقيدتهم على الله واحد ودين واحد ، ونظام اجتماعي سام مستمد من تعاليم الإسلام ثم الحق العادل في استرداد الأرض بعد أن هاجر منها المسلمون مضطرين بإيذاء الشرك وأهله.

فكان الحنين والإعداد لمدى ثماني سنوات للعودة إلى الأرض وتطهيرها للقيادة على ملة إبراهيم باني الكعبة وإسماعيل وآباء سيد المرسلين من ولد إسماعيل ، ولتعبد قريش رب البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

جيش عظيم على رأسه القائد الأعظم يتحرك لغرض عادل وتسنده جبهة داخلية متماسكة..

وهذه مقومات النصر في الحرب الحديثة لم يتخلف منها ركن في غزوة الفتح.

وكان حقاً على رب العالمين نصر المؤمنين الذين نصروه.. وما رموا ولكن الله رمى.. وألقى في قلوب الذين كفروا الرعب .. وكفى الله المؤمنين القتال بضربة قاضية مباغته كان لها أعظم الأثر في نهاية الشرك . وانتشار الإسلام بدون إراقة دماء.

سلام على جند الله الذين زحفوا وعلى الذين آووا ونصروا والصلاة والسلام على رسول الله إمام المرسلين وقائد الغر الميامين.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر : مجلة لواء الإسلام العدد الثاني السنة السادسة والعشرين(1391هـ=1971م)

نشرت 2009 وأعيد تنسيقها ونشرها 7/7/2019

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين