شهر رمضان في تاريخ الإسلام

 

 

جاء الإسلام بقانون سماوي هو القرآن الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ فنظّم المعلومات، وشرع للمسلمين العبادات، كالصلاة والصوم والزكاة والحج، لتوجههم نحو الخير، ولتكون صلة بين العبد وربه.

شرع الصوم في السنة الثانية للهجرة [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] {البقرة:183} .

وإن الروح لتقوى بالصيام على كبح جماح النفس إذا طغت المادة، لما فيه من كسر حدة الشهوات الجسمية، التي تعوق الروح عن السمو اللائق بالإنسان.

ولا غرو ؛ فإن النفس لا تكاد تقارب الكمال من تلك الرياضة حتى تحسَّ ألم الجوع والحرمان، فتعطف على الفقير والمحروم، وتتجاوز عن اليسير من المال للسائل والعاني.

لذلك كان أجدادنا من السلف الصالح يحتفلون بهذا الشهر المبارك، فكان خلفاء المسلمين يمجدون شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس ورحمة، فيجعلونه  موسماً للبر بالفقراء والضعفاء، والرفق بالبائسين، والزهد في متاع الدنيا وغرورها، ويلتمسون فيه القرب من الله سبحانه وتعالى، ويحتفلون به احتفالاً يتناسب مع مكانته في نفوس المسلمين.

وقد جرت العادة أن يحتفل المسلمون السنيون بانتهاء شعبان إذا ظهر القمر، سواء أكان شهر شعبان تسعة وعشرين يوماً أم ثلاثين، وذلك عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : > صوموا لرؤيته ـ هلال رمضان ـ وأفطروا لرؤيته ـ هلال شوال ـ فإن غم عليكم ـ يعني : إذا لم يكن من الممكن رؤية الهلال في نهاية اليوم التاسع والعشرين من شعبان ـ فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً <.

ولكن الفاطميين في مصر لم يرتضوا السير وفق هذه الطريقة التي لا تتفق مع أصول المذهب الشيعي، فأبطلوا الصوم بعد اليوم التاسع والعشرين من رمضان، وأمروا بصلاة العيد بعد رؤية الهلال.

فاعترض السنيون على ذلك، وصاموا اليوم الثلاثين وفق أصول المذهب السني ثم جعلوا العيد بعد ذلك بيوم، أي بعد رؤية الهلال، واتبعوا في ذلك قاضيهم السني الذي تلمس الهلال، جرياً على هذه العادة، فوق سطح الجامع العتيق ـ جامع عمرو بن العاص ـ وأعلن انقضاء شهر الصوم، فلما بلغ ذلك جوهراً الصقلي أنكر على القاضي ما فعل وتهدده.

كان الخليفة أو السلطان أو الولي يحتفل برؤية رمضان، كما كان يركب في أول هذا الشهر، وفي الجمع الثلاث الأخيرة منه، في موكب فخم يشبه موكب أول العام الهجري.

ويسير موكب الخليفة بين قرع الطبول، ورنين الصنوج، وقراءة القرآن، بنغمات مشجية، حتى يصل إلى قاعة الخطابة، فإذا انتهى الأذان، خرج الخليفة، حتى يأخذ مكانه تحت قبة المنبر، فإذا فرغ من خطبته قال : اذكروا الله يذكركم.

ثم يأخذ الخليفة في الصلاة، يبلِّغ الوزير عنه، ثم قاضي القضاة، ثم المؤذنون.

فإذا انتهت الصلاة أخلى المسجد من الناس، وخرج الخليفة، وعاد إلى قصره على الهيئة التي سار عليها في ذهابه إلى المسجد.

وكان الخليفة يسير على هذا النظام في الجمع الثلاث من شهر رمضان.

وكانت الزينات تقام من باب القصر الخلافي إلى المسجد الذي يصلي فيه الخليفة . وإذا مر بمسجد نفح موظفيه هبات من المال وأجزل لهم العطاء، برغم كثرة المساجد التي يمر بها.

وكان كرم الخلفاء والسلاطين والأمراء والوزراء وكبار رجال الدولة يتجلى في شهر رمضان، حتى إن دورهم كانت لا تخلو في كل ليلة من ليالي هذا الشهر المبارك، من إقامة المآدب الخاصَّة والعامة، قيل إن ما كانوا ينفقونه في هذا الشهر قد فاق ما ينفق في سائر شهور السنة.

وكانت هذه المآدب تقام في القصر وفي دار الوزير، وفي دور أصحاب اليسار وفي بعض المساجد. ففي القصر الفاطمي مثلاً، كان يقام سماط رمضان بقاعة الذهب، حيث يجتمع مجلس الملك، ويمد من اليوم الرابع من هذا الشهر إلى آخره، وقد خصص لهذا السماط ثلاثة آلاف دينار تنفق في سبعة وعشرين يوماً، أي : ما يعادل مائة واثني عشر ديناراً في اليوم مع ازدياد رخص الأسعار إذ ذاك.

وكان يدعى إلى هذا السماط قاضي القضاة في ليالي الجمعة، كما يدعى إليه الأمراء وغيرهم من كبار رجال الدولة كل بدوره، حتى لا يحرموا من الإفطار مع أولادهم وأهليهم.

وقد امتاز الاحتفال بشهر رمضان بمظاهر الأبهة والعظمة، ففي غرة رمضان ترسل أطباق الحلوى لكل من أصحاب الرتب، وسائر موظفي الدولة وإلى نسائهم وأولادهم.

أما فطرة رمضان أو الفطرة كما نسميها اليوم فكانت لها دار خاصة، يبدأ العمل فيها قبل منتصف شهر رجب من كل سنة.

وكان الخليفة يجلس في المسجد يستمع إلى القراء وهم يتلون القرآن، وإلى المؤذنين وهم يؤذنون ويذكرون فضائل السحور ويختتمون بالدعاء، وإلى الوعاظ وهم يذكرون فضائل هذا الشهر المبارك ويشيدون بمآثر الخليفة.

فإذا آن وقت السحور، أحضرت جفان القطائف، وجوار الجلاب، فأكل المدعوون وأخذوا منها ما شاءوا وما بقي حمله الخدم إلى دورهم، وكان الخليفة يجلس للسحور إلى مائدة كبيرة ملأى بصحاف الأطعمة، فيتناول منها المخض، وهو اللبن المنزوع زبده، وعصير الفواكه، والموز، وغير ذلك من الأطعمة الخفيفة التي لا يزال المسلمون يتناولونها إلى اليوم.

وفي هذا القصد من تناول الطعام تتحقق حكمة الصوم.

وكان المسلمون ـ ولا يزالون ـ يحتفلون بليلة الختم في اليوم التاسع والعشرين من شهر رمضان، فيحضر الوزير، ويتلو القراء القرآن من الحمد لله إلى خاتمته، ثم يخطب الخطباء في فضائل هذا الشهر، ويكبر المؤذنون، ثم توزع عليهم قطع من العملة الذهبية الصغيرة، أو تقدم إليهم جفان القطائف من الحلوى، وتخلع عليهم الخلع.

وهناك مواسم كان يحتفل بها الفاطميون خاصة، كليلة أول رجب، وليلة نصف رجب، وليلة أول شعبان، وليلة النصف منه، وكانوا يصومون هذه الأيام الأربعة كصيام شهر رمضان، فتضاء المساجد طوال هذه الليالي، فتبدو في حلل بديعة من الأنوار الساطعة، ويجلس الخليفة في منظرة عالية، وبين يديه شموع موقدة، والقراء يتلون القرآن، وتلقى الخطب في فضائل هذه الليالي، وقد حذا الأمراء وكبار رجال الدولة حذو الخلفاء.

على أن العباسيين لم يحتفلوا بهذه الليالي إذ كانوا يرون في الاحتفال بها بدعة من البدع، لأنه لم يؤثر عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أنه كان يحتفل بها.

من ذلك يتجلى تكريم المسلمين شهر رمضان، وحرص الخلفاء والأمراء على إمامة المسلمين في صلاة الجمع الثلاث الأخيرة من هذا الشهر المبارك وما أعدوه لهم من الولائم، وأسبغوه من مظاهر العطف والكرم طوال أيام هذا الشهر، وذلك المظهر الديني الرائع الذي يتجلى في الاحتفال بانتهاء شهر الصوم، وحلول عيد الفطر، الذي يبلغ منتهى الروعة والأبهة في البلاد التي يكون فيها الشعور الإسلامي قوياً، مثل طرسوس حيث كان يتوافد إليها غزاة المسلمين من أنحاء البلاد الإسلامية، وترد إليها تبرعات أهل البر من المسلمين الذين لا يستطيعون الخروج للغزو بأنفسهم.

وكانت المدن الإسلامية، وعلى الأخص بغداد منذ عهد العباسيين، والقاهرة منذ عهد الفاطميين، تتلألأ فيها الأنوار الخاطفة للأبصار، من المساجد ومن قصور الخلفاء، والملوك والسلاطين، والأمراء وكبار رجال الدولة، وتزدحم الطرقات بالأطفال الذين يحملون القناديل، وتتجاوب أصوات الفقهاء، وهم يرتلون القرآن الكريم بنغمات مشجية.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين