قصص القرآن غزوة بدر الكبرى - غزوة بدر الكبرى
قصص القرآن
غزوة بدر الكبرى

عَقدت يدُ الله بين قلوب المهاجرين من مكة ، والأنصار في المدينة ، أواصر  الحب ، وروابط الوفاء والإخاء ، فأصبح الجميع بنعمة الله إخواناً متآلفين ، وجيران صدقٍ متكاتفين متعاونين ، ولكن مُدى كانت تحزّ في نفوس المهاجرين ، لما أصابهم من ألوان الأذى على أيدي سادات مكة وكبرائها ، وحنيناً كان يعاود قلوبهم إلى واديهم الذي فيه حُلَّت تمائمهم ، وفَرَع شبابهُم ، وقد ارتووا من مائه ، وتنفسوا من هوائه ، ثم أريدوا على أن يتركوا فيه الآباء والأبناء ، والخئولة والعمومة ، وأن يخرجوا عن جميع ما خوَّلتهم الدنيا من طارف وتليد .
على أن معنىً سامياً وراء هذه المعاني كلها كان يزحم قلوبهم ، ويغازل نزعاتهم ، ذلكم هو أن يمهدوا في يوم قريب ، لكتائب دينهم الجديد ، أن تزحف يحدوها النصر ، على مكة وأهل مكة ، فتتخلص مكة بهم من أوثان الشرك ، وينعم أهلوها كما نعموا هم بنعمة الإسلام.
رأى هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربُّنا الله ، أن الحزم يتقاضاهم أن يتعرضوا لتجارة قريش في ذهابهم وإيابهم ، حتى يحملوا القوم على المبادرة بمصالحتهم ، وبذلك يتحقق ما تصبو إليه نفوسهم ، لهذا بيتوها خطة عقدوا عزائمهم على تنفيذها في العاجل القريب.
وما وافت السنة الثانية من الهجرة المباركة ، حتى بعث رسول  الله  صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في سرية من المهاجرين ، وقد دفع إليه كتاباً آمراً إياه ، ألا يفضَّه ليرى ما احتواه ، إلا بعد يومين من بدء سيره ، ثم ليمض بعد قراءته منفِّذاً لما أمر به ، دون أن يستكره أحداً من أصحابه .
مشى عبد الله قُدُماً لا يلوي على شيء إلا طاعة الله ، وتنفيذ إشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تم اليومان ، ففضَّ الكتاب ، فإذا فيه : > إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ، فترصَّد بها قريشاً ، وتعلم لنا من أخبارهم<.
وما لبث عبد الله أن أعلن في أصحابه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً لهم :
أيها الصحب : لقد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشاً ، حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره منكم أحداً ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأمَّا أنا فماضٍ لأمر رسول الله ، عليه صلوات الله .
فما وسع صحابة عبد الله ، بعد أن سمعوا صوت هذه الدعوة النبوية ، الملففة في ثوب هذا التخيير النبوي الحكيم ، إلا أن يستحييوا لها ، ويؤمنوا بها ، وينشطوا لمعاونتها ، فسار هذا الجمع الجميع نحو هدفهم الأسمى ، تحفز عزيمتهم إليه الثقة الغالية بالله وبرسول الله ، ترعاهم عناية الله ، ولكن اثنين من هذه الجماعة المجاهدة ، ضلَّ منهما بعير كانا يتعقبانه ، فتخلفا عن الجماعة في طلبه ، فوقعا من قريش في شباك الأسر.
افتقد عبد الله وصحبه زميليهم المتخلفين ثم استأنفوا السير جادّين ، ومضوا لطيتهم متشوفين ، حتى نزلوا بنخلة ، وما هو إلا كلا ولا ، حتى مرت بهم عير لقريش موسَقة بأحمال التجارة ، فلما وقعت أعين القوم على عبد الله وصحبه احتواهم الدهش والحيرة لتلك المفاجأة ، ثم كانت مشاورة بين أصحاب عبد الله ، فقال أحدهم : والله لئن تركتم القوم في هذه الفرصة الطائرة النادرة ليدخلن المسجد الحرام ، وليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم الآن لتقتلنَّهم في الشهر الحرام.
وما سمع أصحاب عبد الله هذه القولة من صاحبهم ، حتى احتوتهم حيرة وتردد ترجّح معهما أول الأمر ألا يقاتلوا أصحاب هذه العير ، ولكن هاتفاً هتف بهم ألا تدعوا هذه الفرصة التي أفرصتكم ، بل انتهزوا فيها شفاء النفس ونصرة الدين .
اشتبك الجمعان ، وحمِيَ بينهما وطيس الرماية بالقسيِّ والسهام ، فأصاب سهم لواقد ابن  عبد الله مقتلاً من عمرو بن الحضرمي كان فيه القضاء ، كما أسر واقدُ عثمان بن عبد الله ، والحكم بن كيسان ، وقد أفاء الله على المسلمين ما كان يحمله القوم من مال ، وما كانت تحمله العير من عُروض.
رجع عبد الله بن جحش وأصحابه إلى المدينة يستاقون العير ويصحبون الأسيرين ، وما علم منهم رسول الله جلية الأمر حتى قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام!
فسُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وزاد الموقف حرجاً قولة قريش في هذا المقام : قد استحلَّ محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا الأموال وأسروا الرجال ، ولكن الله سبحانه ارتاح برحمته لهذه الفئة المجاهدة من المسلمين ، فأوحى إلى نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم فيما أوحى : [يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ] {البقرة:217}.
فوجد المسلمون في هذا التنزيل الحكيم الرحيم ، كشفاً للغمة ، ولمسوا فيه حفزاً للهمَّة ، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتوى السماء العير والأسيرين ، ثم كان أن رد إلى قريش أسيريها المشركين ، بعد أن ردت قريش إليه أسيريه المسلمين.
ولقد جرَّأ فضلُ الله على عبد الله بن جحش وأصحابه بعد إذ انجابت عن أفقهم سحائب هذه الغمَّة ، أن يتطلعوا إلى مرجوِّ الثواب والأجر ، فقالوا يا رسول الله : أنطمع أن تكون لنا غزوة تُعطى فيها الأجر المجاهدين ؟ فما لبث أن أجابهم كتاب الله الناطق بعدل الله وفضل الله ، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم: [إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ] {البقرة:218} وسبحان من لا عدل إلا عدله ، ولا فضل إلا فضله.
بهذا القضاء السماويِّ القرآنيِّ ، الذي نزل في هذه السريَّة المباركة ، حُدِّدتْ سياسة الإسلام ودُعم نظامه ، فشرع من شرع دين الله ، قتال من يصدون عن دين الله ، ويفتنون الناس عن ملة ارتاحت لها نفوسهم ، وانفسحت لها أرجاء قلوبهم.
حاولت قريش بجميع أساليب الإرجاف والتشنيع ، أن تُوغر صدور سكان شبه الجزيرة على محمد وأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، حتى لم يبق في مصانعة القرشيين ومسالمتهم منفذ لرجاء .
وفي أحد الأيام ، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا سفيان مقبل في عير لقريش من الشام ، فندب أصحابه إليها قائلاً لهم : هذه عيرٌ لقريش ، فاخرجوا إليها ، لعل الله ينفلكموها ، فخرج من خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كان يدور بخلد أحد أن رسول الله صلوات الله عليه لاقٍ في هذه السفرة حرباً .
ولما ترامى الخبر إلى أبي سفيان من بعض الركبان ، وخشى على تجارته وتجارة قريش سوء المغبة ، ابتعث ضمضم بن عمرو الغِفاري إلى مكة ، ليستنفر قريشاً إلى عروض تجارتهم التي عرض لها محمد وأصحابه .
وهنا يتحدث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنهم ، وقد لقي الوليد بن عتبة بمكة ، فيقول : إن أختي عاتكة بنت عبد المطلب ، قد رأت فيما يرى النائم رؤيا أفزعتها ، وأخشى أن يتداخل قومَك منها شر. قال الوليد : وماذا رأت؟ قال : رأت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بصوت جهير : ألا انفروا يا لغُدُر ، لمصارعكم في ثلاث ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبيناهم حوله ، مثل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ : ألا انفروا يا لغدور في ثلاث ، ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ، ثم أخذ صخرة فأرسلها ، فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ، فما بقي بيت من بيوت مكة إلا دخله منها فِلْقةً ها هي ذي رؤيا أختي عاتكة ، فاحفظها لنفسك ، واكتمها عن غيرك ، ولكن الوليد ، وقد خانه الصبر على كتمانها ، حدث أباه بها ، فاستفاض خبرها ، وتفاوضت قريش حديثها في مجالسها وأنديتها.
وفي غداة الغد بعد إذ فرغ العباس من طوافه بالبيت ، قال له أبو جهل ، وكان جالساً في رهط من قريش : تفضل بالجلوس معنا هنيهة يا أبا الفضل . فلما جلس قال له : يا بني عبد المطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبيّة ! قال العباس : وما ذاك؟ قال: تلك الرؤيا التي رأتها عاتكة . قال : ما رأت ؟ قال أبو جهل : يا بني عبد المطلب أما رضتيم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم! قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربَّص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقاً ما تقول : وإلا كنتم أكذب بيت في العرب.
فأنكر العباس أن تكون عاتكة قد رأت شيئاً ، ثم انصرف كلٌّ لطيته ، وأقبل المساء ، فأقبل نساء بني عبد المطلب يعتبن على العباس أن أغمضَ العين على جهالة أبي جهل ، قائلات له : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، وها هو ذا يتناول بما لا يليق نساءكم ، تحت سمعك يا عباس وبصرك ، ثم لم يكن عندك غيره لشيء مما سمعت!
قال العباس : قد والله فعلت ، ما كان منيِّ إليه من كبير ، وأيم الحق لأتعرَّضنَّ له ، فإن عاد لأكفيكنُه.
وفي غداة اليوم الثالث من رؤيا عاتكة قصد العباس إلى المسجد وهو حديد مُغضب ، معتزم أن يحاول إصلاح ما أغفل وإدراك ما فات ، رأى أبا جهل فمشى نحوه يتعرَّضه ، لعله أن يعود لشيء مما قال ، فينزل به من ألوان النكال ما يشفي به نفسه ، ويرضى أهله ، ولكن أبا جهل كان مشغولاً عن العباس وعما يشغله ، بسماع صوت أنكرته أذناه ، وداخل نفسه منه رعب وإن لم يتبين معناه ، فما هو إلا أن مرق من باب المسجد مروق السهم من الرمية ، تاركاً العباس خلفه ، ومضى مسرعاً نحو منبعث الصوت ، ليتبين مأتاه ومغزاه.
كان ضمضم رسول أبي سفيان قد بلغ مكة ، فوقف على راحلته ، بعد أن جدع أنف بعيره ، وأدار رحله ، وشق قميصه من خلف ومن قدَّام ، ثم أرسله صوتاً مجلجلاً في صيحة نكراء : يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة! أموالكم مع أبي سفيان ، قد عرض لها محمد وأصحابه ، الغوث الغوث!
وما قرعت آذان الناس هذه القارعة حتى أجمعوا أمرهم على أن يتجهزوا سراعاً ثم خرجوا في أكمل عدة وأتم سلاح ، وإن أشراف قريش منهم لفي الطليعة ، لا يستحيون أن يعلنوها حرباً على الله وعلى رسوله .
أجمعوا أمرهم عشاء فلما          أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
من منادٍ ومن مجيب ومن تصها       ل خيل خِلال ذاك رُغاء
إي والله لقد استقبل وجه الصباح أهل مكة في ذلك اليوم ، وإنهم لبين رجلين: إما خارج إلى ساحة الوغى ، وإما باعث مكانه رجلاً ، ولم يسع أشراف مكة المغامرين ، إلا أن يكونوا في الطليعة على رؤوس هؤلاء الخارجين ، حتى إن أحداً من هؤلاء الأشراف لم يتخلف ، إلا أبا لهب ، فقد استأجر مديناً له بأربعة آلاف درهم فابتعثه مكانه، بعد أن حط عن ظهره دينه.
وما كاد هذا الجمع الجميع يبتدئ سيره ، حتى ذكر ذاكرهم ما كان بينهم وبين كنانة من إحنٍ وما اشتجر بينهم من حروب ، فتخشى سوادهم أن تأتيهم كنانة من خلفهم ، وأوشك ذلك أن يثني من عزمهم ويقعد بهم عن الخروج ، لولا أن سُراقة بن مالك ـ وكان في الذروة من أشراف بني كنانة ـ قال لهم : إني جارٌ لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهون ، وما اطمأن القوم إلى هذا الوعد المنيم حتى تفلتوا من قيد تردُّدهم الطارئ وانفلتوا مسرعين إلى ساحة النضال ، دون أن يتخلف قادر منهم على القتال .
فأمَّا محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فقد خرجوا من المدينة تقدمهم رايتان سوداوان يحمل إحداهما علي بن أبي طالب ، ويتداول حمل الأخرى نفر من الأنصار .
سار عليه الصلوات والسلام مع أصحابه يعتقبون الإبل ، وما إن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول أعرابي حتى ابتدره بالسؤال عن الناس ، فما وجد عنده خبراً ، ثم استحثث حزب الله تحت راية رسول الله مطيتي سيرهم وسُراهم ولسان حالهم يهتف بهم :
هو الجدُّ حتى يُحمد السير والسُّرَى      وحتى يُرى ليلُ الحياة نهارا
وما داني هذا الجمع المبارك : الصغراء، حتى ابتعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من يتحسس أخبار أبي سفيان ، وما إن نزل بذفران حتى وافته العيون تُنهى إليه أن قريشاً سارعت إلى نجدة أبي سفيان في الجم الغفير ، والسلاح الوفير ، إذا فقد تغير وجه الأمر ، وكان ما كان مما لم يقع في الحسبان.
فاستشار رسول الله على عادته أصحابه فيما عرض لهم من أمر قد وقفهم وجهاً لوجه حيال عدو لا مفر لهم وله من أن يخوضوا معه ميدان نضال وقتال .
عندها قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله، امض لما أراك الله ، فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول لك : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم خيراً ودعا له به.
ثم قال عليه الصلاة والسلام : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، فقال سعد بن معاذ : والله كأنك تريدنا يا رسول الله ! قال صلى الله عليه وسلم: أجل . قال: قد آمنا بك وصدَّقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا في الحرب ، إنا لصبر في الحرب صُدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقرُّ به عينك ، فسر بنا واستمد العون والتوفيق من الله ، وما إن أتم سعد حديثه حتى تألقت في وجه الرسول إشراقة السرور ، وشاعت في نواحي نفسه وبين جنبات صدره هزات الارتياح ، ثم قال لصحبه عليه الصلاة والسلام : سيروا وأبشروا فإن الله سبحانه قد وعدني إحدى الطائفتين.
والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم . ثم ارتحلوا حتى نزلوا من بدر بالمنزل القريب.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث من بين أصحابه إلى ماء بدر من يلتمسون له جلية الخبر ، فأصاب هؤلاء المبعوثون رجلين يستقيان لقريش ، فعادوا بهما إلى مكان النبي وصحابته ، وطفقوا يسألونهما أسئلة متعانقة متلاحقة : من أنتما؟ وإلى أين تذهبان ؟ وإلى أي قبيلة تنتسبان؟ وأي غرض تقصدان؟ فما تردّد الرجلان في أن يكون جوابهما على لسان رجل واحد في وقت واحد: إنا سُقاة قريش ، وردنا بدراً ليعود كلانا إليهم بملء السقاء من هذا الماء ، فلم يقع جوابهما من نفوس الصحابة موقع الرضا والارتياح ، وقد كانوا يرجون في قرارة نفوسهم ألا يكون الرجلان لقريش ، بل لأبي سفيان ، لهذا انهالوا عليهما يوسعونهما لكماً ولطماً ، حتى أذلقوهما فلما بلغوا منهما هذا المبلغ قالا : نحن لأبي سفيان ، فكفوا أيديهم عنهما.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشغولاً بصلاته ، إذ كان بعض الصحابة مشغولاً بضرب الرجلين ، وما أتم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم صلاته حتى انفتل مقبلاً عليهم وهو يقول : عجباً عجباً ، إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإن كذباكم تركتموهما!! صدقا والله إنما لقريش.
ثم التفت إليه الصلاة والسلام إليهما يقول : أخبراني عن قريش ، قالا : هم والله وراء هذا الكثيب ، الذي ترى بالعدوة القصوى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم القوم؟ قالا : كثير . قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ، قال : كم ينحرون كل يوم؟ قالوا : يوماً تسعاً ويوماً عشراً . فوجه الرسول خطابه إلى أصحابه وقال : القوم فيما بين التسعمائة والألف ، ثم أقبل على الناس فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ أكبادها.
سبق لنا القول أن المسلمين نفّذوا مشورة سعد ، وبنوا العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يُشرف منه على ساحة القتال ، والحرب خدعة ومشورة ، قبل أن تكون مجال قتال ومعترك نزال.
ثم أخذت قريش أهبتها ، وأعدت لخوض غمار الحرب عدتها ، وبعثت من يقصّ لها خبر المسلمين ، وها هو ذا رائدهم يفضي إليهم بأن أصحاب محمد ثلثمائة أو يزيدون أو ينقصون ، وليس لهم في ساحة حربهم مورد ولا كمين ، ولكن المتصفح لصفحات وجوههم يقرأ فيها آيات العزم الحديد ، والقلب الجليد، والبأس الشديد ، ويلمح في إشعاعات نظراتهم ما تنطوي عليه قلوبهم لدينهم الجديد ، من نور يقين ، وقرار مكين.
هنالك قذف في قلوبهم الرعب ، وهدَّ كيان عزائمهم الخوف ، وخشى بعض ذوي الحكمة من قريش أن يقضي جماعات المسلمين على كثرتهم ، فيذهب بذهاب هؤلاء الرجال ما لمكَّة من مهابة ومكانة وجلال.
قال عتبة بن ربيعة : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمداً وأصحابه شيئاً ، والله لئن أصبتموه ، لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجلاً من عشيرته ، فارجعوا وخلُّوا بين محمد وسائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك لم نتعرَّض منه لما تكرهون.
وما هو إلا أن بلغت أبا جهل مقالته ، حتى استشاط غضباً ، وتحرَّق غيظاً ، وخبَّ فيها وأوضع ، يؤرث ما كاد يخبو في قلوب القوم  من نار عداوة وإحن، ويذكرهم بما شجر بينهم وبين المسلمين من أسباب شحناء وبغضاء ، وبما سال بينهم من دماء ، فتدافعت قريش بعد سماعها هذا المقال ، إلى ساحة القتال ، وهنالك التقى الجمعان.
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا العدو الزاحف ، وهو المزهو بالسلاح الوفير ، والجم الغفير ، فخرج إلى أصحابه ، يشدُّ منهم العزم ، ويعدل الصف ، ويأمرهم ألا يحملوا على العدوِّ إلا بأمره ، وقال لهم : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل.
ثم عاد عليه الصلاة والسلام يصحبه أبو بكر إلى العريش ، وهو أشد ما يكون خوفاً من مصير أصحابه ، ومما عسى أن يخبأه الغيب المحجّب للإسلام والمسلمين.
لم يجد في غير مولاه الملجأ والمعاذ ، فطفق يستمد منه النصر ، ويستنجزه الوعد ، ويناجيه بلسان عبوديته الخاشعة الضارعة : > اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها ، تحادّك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم ، فلن تعبد في الأرض<.
وما زال مستغرقاً في هذه المناجاة السماوية ، وهو يجأر إلى الله بالدعاء ، باسطاً يده نحو السماء ، مستقبلاً القبلة ، حتى سقط رداؤه ، وجعل أبو بكر الصديق رضي الله عنه من ورائه يرده على منكبيه ، وهو يهيب به : يا نبي الله ، بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك من النصر!
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرغم من مناشدة أبي بكر إياه ، لم يكف عما استغرقه من ضراعة وابتهال وإلحاف في الدعاء والسؤال حتى أخذته سِنة رأى خلالها نصر الله .
عندها غادر الرسول العريش إلى أصحابه وقد أثلجت صدره هذه البشرى السماوية القرآنية ، وتهلل وجهه بها بشراً ، وقال على مسمع من أصحابه : >والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل ، فيقتل صابراً محتسباً ، مقبلاً غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة<.
ثم أخذ  حفنة من الحصباء فحصب بها وجوه القوم وهو يقول : شاهت الوجوه!
وأخذ يحرض أصحابه وهو يقول : شدوا ، شدوا ، فتضاعفت قوة المسلمين ، وتصايحوا مهللين : أحد أحد:
حصب المصطفى الجموع ولكن       بيد الله كانت الحصباء
ودعا شاهت الوجوهُ فشاهـــت        واستحالت كأنها أقفاء
إي والله ، فلقد تواكبت طلائع النصر ، وتتابعت بشائره ، بعد إذ توسط رسول الله المعمعة ، بشد الأزر ، وبقوى العزم ، ويبشر بالنصر ، وبعد إذ توافت لنصرة المسلمين جنود السماء ، يثبتون ويؤيدون : [إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى المَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] {الأنفال:12}. هنالك استحر القتل والسبي في الصناديد من قريش وفي غير الصناديد ، وأخذت رؤوسهم تتهاوى مفارقة أجسادها إلى غير رجعة!
كان أمية بن خلف يخطر في صفوف المقاتلين ، وهو الذي استنفذ أساليب التعذيب ليفتن بلالا عن دينه ، فما ظفر منه إلا بمقولته الخالدة إلى الأبد : أحد أحد.
وما رآه بلال في هذا المجال ، حتى اقتحمته عينه ، وأسرع نحوه وهو يقول : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا ، حاول غيرُ بلال أسره ، ولكن بلالا لا يشفيه إلا قتله ، فما هو إلا أن صرخ بأعلى صوته ، واخترط سيفه ، وأغمده في صدره فأرداه قتيلاً .
انجاب غبار المعركة عن جثث هامدة لصناديد قريش وبهاليها ، قد تناثرت أشلاؤها ، وتفرقت أجزاؤها ، وما وسع الناجين من المشركين إلا أن يولوا الأدبار ، ويلوذوا بالفرار ، غير مبالين بما يلحقهم في سبيل هذه الخطة الذليلة من ألوان العار والشنار .
أمر رسول الله أصحابه أن يطرحوا قتلى قريش في القليب ، ثم وقف على حافة القليب فقال : يأهل القليب : بئس العشيرة كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً ، فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقاً .
فقال له أصحابه : يا رسول الله أتنادي قوماً جيَّفوا ، فقال لهم : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ، وما انتهى الرسول الكريم من حديثه في شأن قتلى قريش حتى بصُر بأبي حذيفة بن عتبة قد تغيَّر ، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا حذيفة ، لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ فقال : لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلماً وفضلاً ، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام ، فلما رأيت ما أصابه ، وذكرت ما مات عليه من الكفر ، بعد الذي كنت أرجو له ، أحزنني ذلك ، فطمأنه الرسول صلى الله عليه وسلم ودعا له بخير ما يدعو به لأصحابه.
أما بعد يا جماهير المؤمنين ، فلعلنا أن نفيد في هذه اللمحات الخاطفة في غزوة بدر الكبرى ، من آيات الله الكبرى ، دروساً سماوية نافعة ناصحة موجهة ، فما كتب النصر فيها للسلاح الوفير والجم الغفير ، وإنما كتب لهذه القلة المؤمنة المباركة الخيرة في سلاح صبرها الصابر ، وإيمانها الوافر ، وعقيدتها التي تزول دونها الجبال ولا تزول ، وما أطوع النصر لجماعة دستورها قول الشاعر الحكيم:
لذّ طعم الجِمام في طاعة اللـــه     شهيدٌ قد كفَّنته الدمــاء
لو يعود القتلى إلى الحرب يوماً      لتمنَّت أن تقتل الشهداء
عبد المغني المنشاوي.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين