الصوم وحسن الخلق - حسن الخلق وعلاقته بالصوم
الصوم وحسن الخلق

إن اشتباك مصالح الناس ، وتعدد مطالبهم في هذه الحياة ، يقتضيهم حسناً في الخلق ، ويسراً في المعاملة ، وإلا ضاقت رقاع هذه الأرض على اتساعها بسكانها ، وأصبح بطن الأرض خيراً لهم من ظهرها ، ولأمر ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : > أثقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة ، تقوى الله وحسن الخلق< ويقول : > إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق<.
ولما كان لحسن الخلق هذه المكانة السامية في الدين ، وهذه الآثار الخطيرة في تنظيم شؤون العالمين ، كان دستور الرسالة المحمدية ، أن يتمم للأخلاق الكريمة بناءها ، وأن يدعمها بما يصون لها بين الناس بقاءها ، ورسول الله في ذلك يقول : >إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق< .
إذا فطنت إلى هذا أيها الأخ المسلم فافطن إلى أن الشارع الحكيم ، بما شرع للناس من عبادات اختلفت صورها واتحدت غاياتها ، إنما يهدف إلى أن يمهد للناس بهذه العبادات طريق السعادة ويهيء لهم حياة مثالية ، قرارتها حب ووئام ، وحاشيتها أمن وسلام ، حياة ناعمة فاضلة عادلة ، لا ظالم فيها ولا مظلوم ، بعد إذ تقوم المحبة فيها بين الناس مقام القانون.
لهذا كان من أوجب الواجبات عليك لنفسك ، أيها الأخ المسلم ، ولهذه الأسرة الإنسانية التي أنت أحد أفرادها ، أن تأخذ نفسك بألوان شتى من أساليب الترغيب والترهيب ، والتأديب والتهذيب حتى تنزل من الأخلاق الفاضلة منزلة يرضى عنك فيها الله ، ويباركك من أجلها رسول الله ، ويحمدها لك الناس كلهم أجمعون.
لتكن عُدتك في ميدان جهادك تقوى الله ، فبتقوى الله تقوى على مجاهدة نفسك وهواك وشيطانك، واستعن الله على محاربة نوازع الشر فيك ، بما استن لك وللناس من سنن الخير ، ثم تكلف أسباب الخلق الكامل مرة ومرة ، يُصبح لك عادةً مألوفة ، بل طبيعة ثانية ، ولا عجب ، فالعلم بالتعلم ، والحلم بالتحلم ، والسخاء بالتسخي ، وهكذا ، وهكذا...
فإذا غلبتك على طبعك حماقة ، فلا تيأس من كسرها واستئصال شرها ، واحتل لذلك ما وسعتك الحيلة بأحاديث نفسية حكيمة ، تسرُّها إلى نفسك ، مصوِّراً فيها بعض جنايات الحمقى على أنفسهم وعلى الناس ، متشهياً فيها بعض ما تجنية أيدي الصابرين ، من ثمرات الصبر الجميل ، ثم هنئ نفسك عن بعد إذ أصبح الحلمُ لك ديدناً ، والصبر طبعاً ثانياً .
وإذا حالف نفسك عليك شح مُطاع ، فطوِّف بها على بيوت البخلاء ، لترى بعينيها كيف أنهم جدُّ ثقلاء ، على الأهل والأصدقاء ، بَلْه الغرباء والأعداء ، فإذا عرفت نفسُك إلى ذلك ، أن الكريم قريب من الله ، قريب من الناس ، قريب من الجنة ، وأن البخيل بعيدٌ من الله ، بعيد من الناس ، قريب من النار ، سارعت فخاصمت شحها ، وصالحت ربها ، واشترت بالجود عند الله والناس حبها ، وسرعان ما يصبح الجود لدى هذه النفس التي كانت بالأمس أمَّارة بالبخل ، فنَّاً رفيعاً ، يلذ لها إنشاؤه ، وتطربها أطياره وأعوده ، وهكذا ـ ياأيها الأخ المسلم ـ يستطيع الإنسان أن يحتال لإصلاح عيوبه ، عيباً ، عيباً ، حتى يصبح بتوفيق الله وهدى رسوله وكتابه، لا عيب فيه.
وإذا كان خلق الصبر أمضى سلاح ، في ميدان هذا الكفاح ، فإن فريضة الصوم لها في هذا المضمار حظها الأوفى ، بعد إذ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن الإيمان الصبر ، وأن الصوم نصف الصبر.
فالمؤمن الصائم ، يستمد من صومه صبراً جميلاً ، يعينه على التحلي بالخلق الجميل ، والوصف النبيل ، ويرحم الرحمن شوقي إذ يصف الصوم في شعره المنثور فيقول : الصوم حرمان مشروع، وتأديب بالجوع ، وخشوع لله وخضوع ، لكلِّ فريضة حكمة ، وهذا الحكم ظاهره العذاب وباطنه الرحمة ، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة ، يكسر الكبر ، ويعلم الصبر ويسن خلال البر.
أيها الأخ المسلم : إن أدنى ما يمتحن به حسن الخلق ، الصبر على الأذى ، واحتمال الجفاء ، ومن شكا من سوء خلق غيره ، دل ذلك على سوء خلقه ، فإن حسن الخلق احتمال الأذى ، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يوماً يمشي ومعه أنس رضي الله عنه ، فأدركه أعرابي فجذبه جذباً شديداً ، وكان عليه بُرد نجراني غليظ الحاشية ، قال أنس : حتى نظرت إلى عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه ، فقال : يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك! فالتفت إليه رسول الله وضحك ، ثم أمر بإعطائه.
ولا عجب يأيها القارئ الكريم أن يكون هذا بعض مظاهر الصبر الجميل من هذا الرسول الكريم الجليل صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي اشتد إيذاء قريش إياه ، إذ حصبوه بالحصباء حتى دمي عقباه ، فما وسعه إلا أن يقول : اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
وكان بهذا جديراً أن تخلع عليه يد الرحمن هذا الوسام السماوي ، مطوياً في هذا البرد القرآني : [وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ] {القلم:4} .
فما أجدرنا جماهير المسلمين أن نتخلق بأخلاق الله ، وأن نتأثر في حياتنا خطوات رسول الله ، حتى نبلغ في الحياتين ما نتمناه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عبد المغني المنشاوي
مجلة لواء الإسلام

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين