الصوم في الشرع الإسلامي - تاريخ الصوم مع الأنبياء
الصوم في الشرع الإسلامي
حسن الخطيب
1 ـ الصوم شريعة قديمة ، وعبادة تعبَّد الله سبحانه وتعالى بها الأنبياء والأمم من قبل الإسلام ، كما ينبئ عن ذلك قوله جل شأنه في سورة البقرة : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} .فكما كتب الصيام على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم ، كتب عليكم معشر المسلمين ، فهو عبادة قديمة ، ما أخلى الله أمة من افتراضها عليهم.
وقد اختلف العلماء في بيان وجه التشبيه في قوله تعالى : كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ.فقال بعضهم : إنه محتمل لثلاثة أوجه : الزمان ، والقدر ، والوصف ، وقال القرطبي في كتابه الجامع لأحكام القرآن : قيل التشبيه راجع إلى وقت الصوم وقدره ، حتى روى عن مجاهد قوله : كتب الله عزوجل صوم شهر رمضان على كل أمة ، ومن الواضح أن هذا الرأي ليس له دليل مقبول ، وقيل التشبيه راجع إلى أصل وجوبه على من تقدم من الأمم لا في الوقت ولا في القدر ولا في الصفة ، وقال معاذ بن جبل وعطاء : التشبيه واقع على الصوم لا على الصفة ولا على العدد وإن اختلف صيامنا عن صيامهم في الوقت ، أو بالزيادة والنقصان ، فالتشبيه باعتبار أن كل واحد له صوم أيام ، فالمسلمون متعبَّدون بالصيام ، كما تعبد من كان قبلهم ، ولا شك أن هذين الرأيين أقرب إلى القبول لقوة دليلهما ، وتبادر فهمهما من الآية ، ولذلك قال القاضي أبو بكر المعروف بابن عربي : المقطوع به أنه التشبيه في الفرضية خاصة ، وسائر الوجوه مجرد احتمال .
2 ـ الصوم لغة : الإمساك ، وترك التنقل من حال إلى حال ، فيقال للصمت : صوم لأنه إمساك عن الكلام ، ومنه قوله تعالى مخبراً عن مريم : [إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا] {مريم:26} . أي : سكوتاً عن الكلام. وصوم الريح ركودها ، وإمساكها عن الهبوب ، وتقول العرب : صام النهار ، وصامت الشمس عند قيام الظهيرة ، لأنها كالممسكة عن الحركة ، قال امرؤ القيس:
فدعها ، وسل الهم عنك بجسرة       ذلول إذا صام النهار وهجرا
ومن الصوم اللغوي قول النابغة :
خيل صيام وخيل غير صائمة      تحت العجاج ، وخيل تعلك اللجما
أما الصوم في الشرع الإسلامي ، فهو : الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ، ولكنه لا يتم ولا يكمل إلا باجتناب المحظورات ، وعدم الوقوع في المحرمات: من الغيبة ، والنميمة ، والظن الآثم ، والهجر في القول ، والتنابز بالألقاب ، والسباب ، وأذى الناس ، والسخرية منهم، وظلمهم والتعدي عليهم ، والاندفاع في أسباب الغضب ، والنظر إلى  ما لا يحل ، وغير ذلك : فإن هذه الأشياء ـ وإن كانت محرمة في غير الصيام ـ أشدُّ حرمة في الصوم ، وأعظم حُوباً ، وأكبر إثماً ، لوجود ما يذكر بها ، وينبه على حرمتها .
وإلى ذلك الإشارة فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم  قال : > إذا كان يومُ صوم أحدكم فلا يرفث يومئذ ، ولا يصخب ، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ... الحديث<.
والمؤمن حقاً هو الذي يحرص على أن يكون صومه كاملاً ، مقبولاً من الله تعالى ، ولا يتحقق ذلك إلا إذا ضم إلى إمساكه عن المفطرات الإمساك عن المآثم والمحرمات ، ألا ترى إلى قوله الرسول صلى الله عليه وسلم  : > من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه <.
ومن هنا نعلم السر في أن الصوم لا يهذب نفوس كثير ممن يصومون لأنهم يقتصرون في صومهم على الإمساك عن المفطرات في الوقت المعين ، ولا يأخذون أنفسهم بالمعنى المقصود شرعاً من الصوم ، وهو أنه عون كبير على غرس التقوى في النفوس . ولن يؤدي الصوم غايته الشرعية إلا إذا جمع الصائم بين جمال الظاهر وجمال الباطن ، وصام عن المآثم والأهواء والشهوات ، كما يصوم عن المآكل والمشارب والمفطرات.
كذلك لا يؤدي صوم الصائم المعنى النبيل المقصود منه إلا إذا التزم الصائم جانب القصد والاعتدال فيما يتناوله من طعام وشراب ، وترك الإسراف والافتنان في ذلك ، ولا نستطيع أن نقول إن الصوم مرجو القبول إلا بمراعاة هذا كله إذ يكون قد أدَّى كاملاً على الوجه المشروع الذي يحقق الغاية المقصودة من الصوم وهي تقوى القلوب ، كما نطقت بذلك الآية الكريمة : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} .  
وللصوم أقسام وأنواع : وأقسامه كما في فتح القدير : فرض ، وواجب ، ومسنون ، ومندوب ، ونفل ، ومكروه تنزيهاً وتحريماً، وبيان ذلك وتفصيله في كتب الفقه والفروع.
ومن الفرض : صوم شهر رمضان ، فُرِض في شهر شعبان في السنة الثانية من الهجرة ، وصومه فريضة محكمة ثابتة بالكتاب ، والسنة ، وإجماع الأمة ، أما الكتاب فقوله تعالى : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ] {البقرة:183}  . إلى قوله :[شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الهُدَى وَالفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] {البقرة:185} .
وأما السنة : فلما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم  يقول : >بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت، وصوم رمضان<. وقد أجمعت الأمة على ذلك.
3 ـ وفضل الصوم الشرعي عظيم ، وثوابه جسيم ، وأثره في نفوس المؤمنين المخلصين تزكية وتطهير ، وقد أعد الله للصائمين الذين التزموا في صومهم هدى الإسلام مغفرة وأجراً عظيماً ، جاءت بذلك نصوص القرآن ، كما وردت به أخبار كثيرة صحاح وحسان ، فقد جعل الله الصيام إحدى صفات المؤمنين الذين استحقوا بالغ مدحه وثنائه ، وسمى الصائمين السائحين ، تشبيهاً لهم بذوي السياحة في الأرض في امتناعهم عن شهواتهم ، فقال جل شأنه في سورة التوبة :[التَّائِبُونَ العَابِدُونَ الحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآَمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ وَالحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ] {التوبة:112} .وقال أيضاً في سورة الأحزاب مشيراً إلى أن الصيام من صفات المسلمين والمسلمات ، والمؤمنين والمؤمنات ، الذين أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً :[إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ وَالمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ وَالقَانِتِينَ وَالقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالخَاشِعِينَ وَالخَاشِعَاتِ وَالمُتَصَدِّقِينَ وَالمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا] {الأحزاب:35} .وجاء في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي سبق ذكره قول الرسول صلى الله عليه وسلم  : > والذي نفس محمد بيده لخُلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وللصائم فرحتان يفرحهما : إذا أفطر فرح بفطره ، وإذا لقي ربه فرح بصومه< . وثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم  أنه قال مخبراً عن ربه : > يقول الله تبارك وتعالى : > كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي ، وأنا أجزي به...< الحديث.
4 ـ والصوم فرضه ونفله ـ متى اكتملت شروطه ، وروعيت سننه وآدابه ـ أشبه بالغراس الجميل ، وبالشجرة الطيبة ، ثبت أصلها ، وزكت فروعها ، وأينعت ثمراتها ، ولهذا يتعلق بالصوم الشرعي فوائد جمة ، وحكم جليلة ، وأهداف بلغت المدى في سمو القصد ، وشرف الغاية ، ذلك لأن المقصود من الصوم حبس النفس عن الشهوات ، وفطامها عن المألوفات ، وكسر سورتها في الفضول التي تصدر عن الجوارح من العين واللسان والأذن والفرج ، لتستعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها ، وقبول ما تزكو به مما فيه حياتها الأبدية، إذ الجوع والظمأ يكسر من حدتها وسورتها ، ويذكِّرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين ، ولهذا قيل : إذا جاعت النفس شبعت جميع الأعضاء ، وإذا شبعت جاعت كلها.
وبالصوم الشرعي الكامل حبس قُوى الأعضاء من تماديها في استجابة حكم الطبيعة فيما يضرها في معاشها ومعادها ، وتسكين كل عضو منها وكل قوة عن جماحها؛ وبهذا يتقي المؤمن المعاصي ، وما حرم عليه فعله ، لأن الصائم أظلف لنفسه ، وأردع لها من مواقعة السوء ، كما أن به صفاء القلوب من الأكدار ، وبصفائها تناط المصالح والدرجات ، وهو موجب للرحمة و العطف على الفقراء والمحتاجين ، ومُربٍّ للقناعة ، وضبط النفس وقوة الإرادة ، وسبيل إلى تقويم الأخلاق وتهذيب النفوس ، وحائل بين الأجسام وبعض العِلَل والأسقام في ناحيتي الوقاية والعلاج ، قال صاحب زاد المعاد: وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة ، والقوى الباطنة ، وصونها عن التخليط الجالب لها المواد الفاسدة ، وبه استفراغ المواد الرديئة الضارة المانعة لها من صحتها ، فالصوم يحفظ على القلب والجوارح صحتها ، ويعيد إليها ما استبلته منها أيدي الشهوات ، فهو من أكبر العون على التقوى ، كما قال الله تعالى :[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ] {البقرة:183} .وقال النبي صلى الله عليه وسلم  : > الصوم جُنَّة< وأَمَرَ من اشتدت عليه غلبة النكاح ولا قدرة له عليه: بالصيام ، وجَعَلَه وِجَاء ـ أي قَطْع ـ هذه الشهوة.
والخلاصة : أن مصالح الصوم ومنافعه لما كانت مشهودة بالعقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، شرعه الله سبحانه لعباده رحمة بهم ، وإحساناً إليهم وحمية وجُنَّة.
5 ـ وكان من هديه صلى الله عليه وسلم  في شهر رمضان الإكثار من أنواع العبادات : يُكثر فيه من الصدقة والإحسان ، وتلاوة القرآن ، والذكر ، والدعاء ، والاعتكاف .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود ا لناس ، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل عليه السلام ، فيدارسه القرآن ، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود بالخير من الريح المرسلة.
وكان من هديه عليه الصلاة والسلام تعجيل الفطر والحضُّ عليه ، وكان يتسحر ، ويحث على السحور ، ويؤخره ، ويرغِّب في تأخيره ، وكان يفطر قبل أن يصلي ، وكان فطره صلى الله عليه وسلم  على رُطَبات إن وجدها ، فإن لم يجدها فعلى تمرات ، فإن لم يجدها فعلى حَسَوات من ماء ، ويؤثر عنه أنه كان يقول عند فطره صلى الله عليه وسلم  : > اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ، ذهب الظمأ وابتلت العروق ، وثبت الأجر إن شاء الله <.
بَصَّرنا الله بأحكام ديننا ، وهدي نبينا ، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله ، وأولئك هم أولو الألباب .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين