صمونجي بابا - ماضينا المجيد
صمونجي بابا.

هذه قصة ولي من أولياء الله ، اسمه « حامد آقصرايلي » ولكنه عُرف بين أهالي مدينة « بورصة » باسم « صمونجي بابا » لأنه كان يبيع « الصمون » لهم .
ولِد في مدينة « قيصري » وسافر في طلب العلم إلى بـــلاد « الشام » و « تبريز » ووصل إلى « أردبيل » وهي : مدينة في شمال غرب إيران ، اشتهرت بمكتبتها (1) الكبيرة ، وعاشت فترة من الازدهار الثقافي . وهناك التقى الوليَ والعالِمَ الكبيــــــر « علاءالدين الأردبيلي » ولازمه ، وبقي في خدمته سنوات عديدة ، فنَهلَ من علمه ودرج مثله في مدارج التصوف والزهد .
ثم رجع وسكن في مدينة « بورصة » ، وكانت آنذاك عاصمة الدولة العثمانية ، فقد كان ذلك في عهد السلطان « بايـزيد الأول » ( 1360-1403م ) .
قضى « صمونجي بابا » سنوات عديدة من عمره ، في مدينـة « بورصة » يخبز الخبز في فرنه المتواضع ، في البيت ثم يضعه في سلة كبيرة ، يحملها على ظهره ، ويمشي في الأسواق وفي الأزقة ، وما إن يراه الصبيان حتى يهتفوا :
- جاء « صمونجي بابا » ... جاء « صمونجي بابا » .
و
سرعان ما يتجمعون حوله ، ويبتاعون منه الخبز ... كان جميع أطفال وصبيان وأهالي « بورصة » يحبونه ، فوجهه
.نورانـي ، وهو بشوش يحب الأطفال ويلاطفهم ، وخبزه حار ولذيذ ونظيف
وعندما بدأ السلطان « بايزيد » ببناء جامع « أولو جامــع » ( أي الجامع الكبير ، أو الجامع العظيم ) اعتاد عمال البناء شراء الخبز من « صمونجي بابا ».
اكتمل بناء هذا الجامع ، الذي يُعد آية من آيات العمارة الإسلامية ، وتُعد الآيات الكريمات التي تزينه آية في فن الخط ، وتقرر افتتاحه بصلاة الجمعة .
وفي يوم الجمعة : حضر السلطان « بايزيد الأول » إلى الجامع مع الوزراء والقواد والعلماء ، وجمع غفير من أهالي « بورصة » حتى امتلأ هذا الجامع الكبير ، على سعته ، وعندما حان وقت الخطبة ، التفت السلطان إلى العالِم الكبير « أمير سلطان » وكلّفه بإلقاء الخطبة .
وقف « أمير سلطان » قرب المنبر ، وبدأ يجول ببصره في الحضور ، وكأنه يفتش عن أحدهم ... اجل كان يفتــــش عن « صمونجي بابا » فهو يعرف قدرَه وعلمه ، وإن جهلـَهُ الناس ، واعتقدوا أنه ليس إلاّ رجلاً طيباً يبيع الخبز ... وأخيراً وقع بصره عليه ... ثم قال بصوت سمعه كل الحضور ، وهو يشير بيده إليه :
- ليس في هذا الجامع مَن هو أحق من هذا الرجل بإلقاء هذه الخطبة .
دهش الحاضرون من هذا الكلام ، وبدأوا يتطلعون إلى الجهة التي أشار إليها العالِم « أمير سلطان » وأحس « صمونجي بابا » بحرج شديد ، فقد كتم أمره عن الناس طوال هذه السنوات ، فلا يعرفون عنه إلاّ أنه بائع خبز ، وها هو أمير سلطان يفاجئه فيكشف أمره للناس .
قام من مكانه مضطراً واتجه إلى المنبر ، والأنظار مصـوبة إليه ، وقبل أن يصعد المنبر ، مال على أذن « أمير سلطان » وهمس له معاتباً .
- ماذا فعلتَ يا أخي ؟ لقد كشفتني أمام الناس جميعاً .
فأجابه « أمير سلطان » بالهمس نفسه :
- أنت الأجدر بإلقاء هذه الخطبة يا أخي .
صعد الولي المتخفي على المنبر ، وبعد أن حمد اللهَ وأثنى عليـه ، قرأ سورة « الفاتحة » ، وبدأ بتفسير معانيها من سبعة أوجه ، وكانت خطبة ، وتفسيراً رائعاً ، أخذ بمجامع قلوب الحاضرين .
ولم يخفِ العالِم الكبير ، والمعروف « ملا فناري » الذي كان حاضراً ، وسمع هذه الخطبة حيرته ، ودهشته وإعجابه بالخطبة ، فقال فيما بعد لأصدقائه :
-
لقد شاهدنا عظمة هذا الرجل ، وتبحره في العلم وفي التفسير ، فالتفسير الأول للفاتحة فهمه الجميع والتفسير الثاني فهمه البعض ، والتفسير الثالث فهمه القلة ، والخواص فقط ، أما التفسير الرابع، والخامس ، والسادس ، والسابع فقد كان فوق طاقة إدراكنا .
وانتشر الخبر في أرجاء العاصمة « بورصة » بسرعة ، وعرف الجميع حقيقة هذا الرجل المتواضع الفقير ، الذي يحمل سلة الخبز على ظهره ، ويتجول في الأسواق وفي الأزقة ، ويتلاطف مع الأطفال والصبيان ... عرفوا أنه عالِمٌ كبير ووليّ من أولياء الله ، وانتظروا رؤيته ؛ لكي يقبّلوا يديه ويسألوه الدعاء ، ولكنهم لم يوره ... اجل لم يروه بعد تلك الخطبة ، لقد رحل هذا الولي عن « بورصة » بعد أن انكشف أمره ... رحل إلى مدينة أخرى لا يعرفه الناس فيها .
مات رحمه الله في مدينة « آق صراي » ودُفنَ فيه .
( 1 ) عندما استولى الروس على هذه المدينة سنة 1828م ، نقلوا هذه المكتبة الكبيرة إلى مدينـة « سان بطرسيرج » ، أي إلى مدينة « ليننجراد » الحالية

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين