إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه - سوء الظن وآثاره
إذا ساء فِعلُ المرء ساءت طُنونُه
الشيخ : حمزة البكري
أظنني أتفق وإياك على أن سوء القول قبيح، أعني: أن لا تستر سوءاً تراه في أخيك، بل تتحدَّث به وتُشيعه، ثم ربما كان حديثُك عنه أمامه، وربما كان في غيابه ... فإن كان أمامه، فذلك استهزاءٌ به وشماتة ... وإن كان في غيابه، فذلك غيبةٌ له ... وكلاهما قبيحٌ لا يليقُ بمسلم أن يفعله، إذ المسلمُ مَنْ سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده.
هذا سوءُ القول، وهو حرام ... ومثلُه في الحرمة سوءُ الظن ... فكما يجبُ عليك السكوتُ بلسانك عن مساوئ أخيك، كذلك يجبُ عليك السكوتُ بقلبك عنه أيضاً، وذلك بتَرْك إساءة الظن به ... فسوءُ الظن غيبةُ القلب، كما أن سوءَ القلب غيبةُ اللسان.
ولذا جاء النهيُ عن سوء الظن في كتاب الله عز وجل مقروناً بالنهي عن الغيبة، وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن، إنَّ بعضَ الظنِّ إثمٌ، ولا تجسَّسُوا، ولا يَغْتَبْ بعضُكم بعضاً، أيُحِبُّ أحدُكم أن يأكلَ لحمَ أخيه ميتاً فكرهتموه، واتقوا اللهَ إنَّ اللهَ توَّابٌ رحيم) [الحجرات: 12]، وكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن سوء ظنِّ المسلم بأخيه فقال: «إياكم والظنَّ، فإنَّ الظنَّ أكذبُ الحديث».
وهنا لا بدَّ من بيان حقيقة سوء الظن ما هي؟ إذ ما من أحد إلا وتخطرُ في قلبه بعضُ الظنون بإخوانه، وتُحَدِّثُه نفسُه بشيء من ذلك، فهل هذا من سوء الظن المنهي عنه أم لا؟
سوءُ الظن ليس هو خاطراً في القلب أو حديثاً في النفس، لأن الله سبحانه وتعالى قد عفا لعباده عما يخطر في القلوب، وتتحدَّث به النفوس، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي ما حدَّثت به أنفسَها، ما لم تعمل أو تتكلم»، ومع عَفْوه سبحانه عن حديث النفس، وتجاوُزِه عن خاطرة القلب، نهى جلَّ شأنُه عن سوء الظن وشدَّد فيه، فدلَّ ذلك على أن سوءَ الظن أمرٌ غيرُ الخواطر وأحاديث النفوس، ولذا بيَّن العلماء أن سوءَ الظن المنهيَّ عنه: هو عَقْدُ القلب وركونُ النفس إلى الحكم على الغير بالسوء.
وكأني بك تسألني عن السبب في النهي عن سوء الظن، وتقول لي: لماذا يُؤاخَذُ أحدُنا بسوء ظنِّه بغيره، وسوءُ ظنِّه هذا لم يتعدَّ قلبَه، فلم يكن له أثرٌ في الواقع، فلماذا نُؤاخَذُ بذلك؟
أجيبك فأقول:
أولاً: لأن سوءَ الظن رجمٌ بالغيب، إذ أسرار القلوب لا يعلمُها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً، إلا إذا انكشف لك ذلك انكشافاً ظاهراً، لا يحتمل تفسيراً، ولا يقبل تأويلاً.
وثانياً: لأن سوء الظن مرضٌ من أمراض القلوب، ما يزال بقلب صاحيه حتى يصيرَ بحيثُ لا يقنعُ بالظن، بل يطلب التحقُّق، فيشتغل بالتجسُّس على صاحبه، وتطلُّب عيوبه، وكَشْف أسراره، وهَتْك أستاره.
ثم سوءُ ظنِّ الرجل بأخيه يدفعُه إلى أن ينظر إليه بعين الاحتقار، قيُقصِّر في أداء حقوقه، وبما تحدَّث عنه، وتكلَّم عليه، فينتقل من غيبة القلب إلى غيبة اللسان، ومن سوء الظن إلى سوء القول.
ومن علامات سوء الظن: عدمُ قبول العذر، لأنه إذا صدر من واحدٍ فعلٌ فيه إساءة أو تقصير، وكان هذا الفعلُ يحتمل أن يكون صدر من فاعله عمداً وقَصْداً، ويحتمل أن يكون صدر منه سهواً أو خطأً أو نسياناً ... إلخ، فإن سوء ظنك بأخيك يحملُك على أن تحملَ فعلَه على الاحتمال الأول دون الثاني، ثم غذا جاءك معتذراً عما صنع، مُبيِّناً لك أنه ما فعل ذلك إلا سهواً، أو خطأً، أو نسياناً، أو ... إلخ، لم تقبل عُذرَه، وما عدمُ قبولك عُذرَه إلا لسوء ظنك به، ولو كنتَ حَسَنَ الظن به لالتمستَ له عُذراً قبل أن يأتيك معتذراً، ولذلك قيل: «المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب العيوب»
اقبَلْ مَعَاذيرَ مَنْ يأتيكَ مُعتَذِراً        إن بَـرَّ عندك فيما قال أو فَجَرَا
فقد أطاعَكَ مَنْ أرضاكَ ظاهِرُه        وقد أجَلَّكَ مَنْ يَعصِيكَ مُستَتِرا
وهنا لا بُدَّ من بيان الفرق بين الاحتراز والاحتياط والتوقِّي في التعامل مع الناس من جهة، وسوء الظن من جهة أخرى، إذ ربما يظنُّ البعضُ أنَّ حُسنَ الظن بالناس يعني ترك الاحتياط والاحتراز في المعاملات، وليس كذلك، فحُسنُ الظن لا يُنافي الاحتياط ولا يعارض التوقِّي والاحتراز، وبالمثال يتَّضحُ المقال:
مُدرِّس دخل على طلابه قاعة الامتحان، فحذَّرهم من أن ينظر أحدهم إلى زميله، وشَدَّد عليهم في ذلك، وما زال طوال الامتحان يتجوَّلُ بين الطلبة خوفاً من أن يقع منهم غش، فهذا احتياط واحتراز وليس بسوء ظن
ثم إنه لمح أحد الطلبة قد نظر إلى زميله قليلاً، ولكنه غير متأكد من أنه نظر إليه نظرة عابرة، أو أنه نظر إليه لينقل منه شيئاً ... فهذا المدرس: إن افترض في الطالب الغش، وعاقبه عليه، فأخذ ورقته، ومنعه من أن يتم الامتحان، فهو سوء ظن به ... وإن افترض فيه أنه نظر إلى زميله نظرة عابرة من غير أن يقصد غشاً، فأمهل الطالب، وجعله يتم الامتحان، مع تنبيه يسير للطالب، وزيادة مراقبة له بعد ذلك، فهذا حُسْن ظن منه بالطالب، مع توقٍّ واحتراز واحتياط؟
وأخيراً أذكر لك قول المتنبي:
إذا ساءَ فِعلُ المرء ساءت طُنونُه        وصدَّق ما يعتادُه من توهُّمِ
وعادى مُحبِّيه بقول عِداتِه            فأصبح في ليلٍ من الشَّكِّ مُظلِمِ

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين